التنصير وباء العصر وسرطان الأمة (1)

منذ 2009-09-23

وظهرت للتنصير مؤسسات داخل المؤسسة الكبرى، كالمعاهد والجامعات والمنظمات والمراكز المنتشرة في كثير من الأماكن....


خطر رهيب، صداع مزمن، حياة تضيع، إنه يخرب البيوت، يدمر الأسر، يحطم الشباب، يفرق بين الأب وابنه، وبين البنت وأمها، وبين فرد من الأسرة وكل الأسرة... إنه يحرق المجتمع بأسره... إنه تدمير، إنه خراب، إنه وباء العصر وسرطان الأمة...

يا سادة إنه التنصيـــــــــر!!!!

والتنصير في مفهومه اللفظي اللغوي هو الدعوة إلى اعتناق النصرانية، أو إدخال غير النصارى في النصرانية.

وفي الصحيحين واللفظ للبخاري عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من مولود يولد إلا على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجِّسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسُّون فيها من جدعاء؟».

وفي لسان العرب التنصُّر: أي الدخول في النصرانية.

وفي المحكم: الدخول في النَّصْرِي.
ونصَّره: جعله نصرانيًا.

وأورد الحديث الشريف، وقريب منه قول الفيروز آبادي في (القاموس المحيط): والنصرانية والنصرانة واحدة النصارى، والنصرانية أيضًا دينهم، ويقال نصراني وأنصار.

وتنصَّر دخل في دينهم، ونصَّره جعله نصرانيًا.

وذكر مثل ذلك "الزبيدي" في (تاج العروس).

بدأت عمليات التنصير من بعد رفع المسيح عليه السلام من خلال الجيل الثاني والثالث والرابع من الذين لم يلتقوا المسيح عليه السلام مثل بولس ولوقا وغيرهم.

وتعاقبت الطوائف النصرانية بعد ذلك في حمل مهمة تنصير الناس، ومن أول هذه الطوائف كانت الطائفة النسطورية أو النساطرة، وهي نسبــة إلى "نســـطور" التي هاجرت من "الرها" بعد أن أغلقت مدرستهم فيها -مدرسة الرها- على يد زينون سنة 439م، فهاجرت الطائفة تحت قيادة "بارسوما" سنة 457م إلى فارس، وأنشأت فيها مدرسة "نصيبين"، وانتشرت من هذه المدرسة حملات التنصير على الطريقة النسطورية إلى جوف آسيا وبلاد العرب.

ثم تعاقبت حملات التنصير وتزعمها في الجهة الغربية من فلسطين اليـــــعاقبـة، الذين اختلفـوا مع النساطـــرة حول طبيعــــة المسيح عيسى بن مريم -عليهما السلام-.

أما بخصوص العلاقة بين المسلمين والنصارى، أو الإسلام والنصرانية، بدأت على عهد الرسول محمد صلى الله عليه وسلم حينما أرسل وفدًا من المهاجرين إلى ملك الحبشة النجاشي، وما حصل من سبق قريش ومحاولتهم إثناء الملك عن إيواء المسلمين، وقد صاحب هذه المحاولة نقاش طويل وأول مناظرة في الإسلام حول طبيعة المسيح عيسى بن مريم -عليهما السلام- ونظرة الإسلام له، انتهت بإسلام النجاشي والعديد من أتباعه.

ثم أرسل الرسول محمد صلى الله عليه وسلم وفودًا إلى الأباطرة في شمال الجزيرة العربية وشمالها الغربي مثل هرقل الروم ومقوقس مصر وغيرهما.

وكان هناك أيضًا حوار ونقاش ومناظرات حول نظرة الإسلام والمسلمين للنصرانية، ونبيها عيسى ابن مريم عليهما السلام.

وقد قدم على الرسول محمد في المدينة النبوية وفد من "نجران" بين أربعة عشر وستين فردًا - حسب الروايات، ومنهم العاقب وأبو الحارث والسيِّد، فدار بين النبي محمد وبينهم حوار وحجاج حول طبيعة المسيح عيسى بن مريم - عليهما السلام-. ثم عاد الوفد إلى نجران، وكان بينهم حوار طويل حول ما دار بينهم وبين الرسول محمد رجع بعده بعض أعضاء الوفد كالعاقب والسيِّد إلى المدينة النبوية، ونطقا بالشهادتين، ونزلا في بيت أبي أيُّوب الأنصاري- رضي الله عنه قرب المسجد النبوي بالمدينة المنورة.

وعصر الخلفاء الراشدين -رضي الله عنهم - كان حافلاً بالعلاقات مع النصارى؛ نتيجة لامتداد الفتح الإسلامي في الشام ومصر وما وراءهما.

وكان يتخلل هذه الفتوح وقفات علمية تكون فيها مناقشات وحوارات حول موقف الإسلام من النصرانية والنصارى.

وأبرز مثال على هذه الوقفات وقفة الخليفة عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه في بيت المقدس، وموقفه من كنيسة القيامة وتجنبه الصلاة فيها، وكذلك لقاء عمرو بن العاص -رضي الله عنه- بالبطريرك بنيامين رئيس الكنيسة القبطية آنذاك.

وكذا الحال في العصر الأُموي مع الزيادة المطَّردة في العلاقة من خلال الاستعانة بالنصارى في بعض مقوِّمات بناء المجتمع المسلم الناهض، لاسيما فيما يتعلق بالعلوم التطبيقية والبحتة، والإدارة.

وتصبح العلاقة أكثر وضوحًا في العصر العبَّاسي الذي شهد ازدهارًا علميًا وثقافيا وحضاريًا، استعان المسلمون في أجزاء منه بالنصارى وغيرهم من أصحاب الثقافات الأُخرى، ولا سيما الفرس واليونان في مجالس العلم، وبيوت الترجمة، وخزائن الكتب، ودواوين الولاة، وفي المؤسسات العلمية والتعليمية الأخرى.

ولم يسلم المغول أنفسهم من حركة التنصير هذه، إذ أريد من تنصيرهم كسب أمة وثنية إلى النصرانية من ناحية، ومن ناحية أخرى التأثير على المسلمين بتفادي خطرهم على الحملات التنصيرية، فيما إذا انضم المغول إلى المسلمين.

وقد انضم المغول إلى المسلمين بعد أن هداهم الله إلى الإسلام، وعاونوا قادة المسلمين في تصديهم للحملات التنصيرية...

وبعد ذلك بدأت مرحلة جديدة تشكَّل خلالها الصراع بين المسلمين والنصارى بوضوح أكثر إبَّان الحروب الصليبية، التي لا تعدو كونها شكلاً من أشكال التنصير، اتُّبعت فيه القوة والغزو العسكري.

وكان يدور خلال الحملات الصليبية الثماني نقاش وحوار ومناظرات كثيرة جداً بين المسلمين والنصارى من علماء الدين الإسلامي ورجال الدين النصراني، وكانت من نتائجه ظهور مجموعة من المـؤلَّـفات تناقش حقيقة النصرانية وترد على النصارى في زعمهم حول طبيعة المسيح عيسى بن مريم عليهما السلام، وأسباب عدم إيمانهم بمحمد صلى الله عليه وسلم، رغم ذكر بعثته في الكتب التي بين أيديهم.

وكما أن الحروب الصليبية لم تفلح عسكريًا فهي لم تفلح عقديًا في تشكيك المسلمين برسالتهم، بل زادتهم تمسُّكًا بدينهم أدَّى في النهاية إلى خروج الصليبيين من أراضي المسلمين دون الفوز بما قدموا من أجله.

ومع هذا فلا يغفل تأثير الحملات الصليبية على المجتمع المسلم، فقد زاد عدد الكنائس، وبالتالي زاد عدد المنصرين.

ويذكر الأستاذ محمد مؤنس عوض من خلال عرضه للرحالة المسلمين، لاسيما عند وقوفه مع الرحالة المسلم ابن جبير أن هذا الرحالة قد أدرك البعد التنصيري للحملات الصليبية، إذ أدرك الدور الصليبي الخطر في تغيير هوية المنطقة وتحويلها عن الإسلام من خلال البعد التنصيري.

فيذكر أنه بعد خضوع عكا لسيطرة الصليبيين فقد تحولت مساجدها إلى كنائس، وصوامعها صارت محل أحد النواقيس، وفي مثل ذلك التعبير نجده يكشف بجلاء عن دور الصليبيين في تغيير هوية المنطقة الإسلامية ومحاولة تنصيرها من خلال القضاء على الدور الهام لأماكن العبادة الإسلامية في صورة المساجد، بل وصل الأمر أن صارت هناك بقعة صغيرة في مسجد عكا الجامع يجتمع فيه الغرباء من أجل إقامة الصلاة.

ويمكن وصف ابن جبير بأنه شاهد عيان معاصر على تلك الحقيقة، ألا وهي السياسة التنصيرية التي أراد الصليبيون تنفيذها في منطقة الشرق الأدنى من أجل توسيع رقعة عالم المسيحية على حساب الإسلام والمسلمين.

كما يورد بعض الأخبار عن أسامة بن منقذ في كتابه (الاعتبار)، ثم يعقِّب على ذلك بقولـه: "وتجدر الإشارة أن إيراد ذلك الرحالة لمثل تلك الأحداث يدل على أنه أدرك خطورة البعد التنصيري كأحد أهداف المشروع الصليبي الذي رغب في تحويل مسلمي الشرق الأدنى إلى مسيحيين يدينون بالولاء لكنيسة روما وفق المذهب الكاثوليكي، مع ملاحظة أن الرحالة المسلمين الذين زاروا بلاد الشام في ذلك العصر، حرصوا على إيراد بعض الروايات الهامة عن ذلك الجانب التنصيري. ولا مراء في أن رواية "أسامة بن منقذ" لها شأنها في ذلك المجال مع ندرة ما ورد في هذا الشأن في المصادر التاريخية العربية المعاصرة".

وعن هذا يقول جورج ليونارد كاري رئيس أساقفة كانتربري، رئيس الكنيسة الإنجيلية في بريطانيا في محاضرته التي ألقاها بجامعة الأزهر في مطلع شهر أكتوبر عام 1995م يقول: "ولا يشعر أي مسيحي في الوقت الحاضر بالرضا عن الطريقة التي اتبعها أسلافنا في حسم الصراعات في الماضي، فقد تسبب الصليبيون في إحداث آثار جسيمة في علاقات المسيحيين ببعضهم، وعلاقاتهم بالمسلمين، فهناك الكثير لنعتذر عنه".

ثم تزعَّم ريموند لول المستشرق المنصِّر الإسباني مهمة العودة إلى التنصير، بعد أن فشلت الحروب الصليبية في مهمتها، وتعلَّم اللغة العربية، وجال في البلاد الإسلامية وناقش العلماء المسلمين في بلاد كثيرة.

ثم تأتي مرحلة الاحتلال (الاستعمار) في القرنين الثالث عشر والرابع عشر الهجريين (التاسع عشر والعشرين الميلاديين)، وما سبقهما من إرهاصات للاحتلال.

وتعدُّ هذه المرحلة امتدادًا للحروب الصليبية، مع نقص في الكفاءة وانعدام في التوازن بين الطرفين المسلم والنصراني.

ويشكلِّ الاحتلال كذلك شكلاً من أشكال التنصير، بل يعدُّ التنصير ممهدًا للاحتلال أولاً، ثم يعدُّ الاحتلال مسهِّلاً لحملات التنصير بعدئذٍ.

فالاستعمار الأوروبي هو الذي مهـد للتنصير في أفريقيا مثلاً، وفي هذه الأثناء بدأ التنصير يأخذ طابع التنظيم من خلال وجود مجموعة من المؤسسات والجمعيات والإرساليات التنصيرية، تنظمها وتدعمها الهيئات الدينية على اختلاف طوائفها والحكومات الغربية بخاصة.

وظهرت للتنصير مؤسسات داخل المؤسسة الكبرى، كالمعاهد والجامعات والمنظمات والمراكز المنتشرة في كثير من الأماكن.

وقد أدى هذا كلُّه إلى الخروج بتصوٌّر عن التنصير أشمل أحيانًا، وأدقَّ أحيانًا أُخرى من مجرَّد دعوة غير النصارى إلى الدخول في النصرانية.


خالد المصري





المصدر: منقول
  • 10
  • 0
  • 5,983

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً