خطب مختارة - [12] أسماء الله الحسنى 1-2

منذ 2016-01-19

العلمُ بالله أحَدُ أركانِ الإيمان، بل هو أصلُها وما بعدَها تبَعٌ لها، ومعرِفَةُ أسماء الله وصفاتِه أفضلُ وأوجَب ما اكتسبَته القلوب وحصَّلته النفوسُ وأدركته العقول، قال ابن القيّم رحمه الله: "أطيَبُ ما في الدنيا معرفتُه سبحانه ومحبَّته".

الخطبة الأولى

أمّا بعد: فاتَّقوا الله ـ عبادَ الله ـ حقَّ التقوى؛ فمن اتَّقى ربه نجا، ومن أعرضَ عنه هَوى.

إخوة الإسلام، العلمُ بالله أحَدُ أركانِ الإيمان، بل هو أصلُها وما بعدَها تبَعٌ لها، ومعرِفَةُ أسماء الله وصفاتِه أفضلُ وأوجَب ما اكتسبَته القلوب وحصَّلته النفوسُ وأدركته العقول، قال ابن القيّم رحمه الله: "أطيَبُ ما في الدنيا معرفتُه سبحانه ومحبَّته".

والقرآنُ كلّه يدعو الناسَ إلى النظر في صفات الله وأفعالِه وأسمائه، بل ودعاء الله بها {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ فَادْعُوهُ بها} [الأعراف:180]، والله يحبُّ من يحبُّ ذكرَ صفاته، وقد بشَّر النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان يقرَأ سورةَ الإخلاص يختم بها في قراءته في الصلوات بأنَّ الله يحبّه لـمّا قال: «إني لأحِبّها لأنها صِفةُ الرحمن» [صحيح البخاري:7375]. وقال صلى الله عليه وسلم: «إن لله تسعة وتسعين اسمًا من أحصاها دخل الجنة» [صحيح البخاري:2736]، قال أهل العلم: أحصاها يعني: علمها وآمن به وعمل بمدلولها.

وأسماء الله سبحانَه أحسَنُ الأسماء، وصفاته أكمَلُ الصفاتِ، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]، وحقيقٌ بكلِّ مسلمٍ معرفتُها وفهم معانيها، والعمل وفقها، والدعاء بها. فربُّنا تعالى هو الرّحمن الرّحيم، وسِعت رحمته كلَّ شيء، ورحمتُه في الآخرة كتبها للمتقين؛ وفي الدنيا عمّت الخلق أجمعين، قال صلى الله عليه وسلم: «خلق الله مائةَ رحمةٍ، وأنزل منها إلى الأرضِ رحمةً واحِدة بين الجنّ والإنس والبهائمِ والهوام، فبِها يتعاطَفون، وبها يتراحمون، وبها تعطِف الوحش على ولَدِها حتى ترفَع الدابة حافِرَها عن ولدِها خشيةَ أن تصيبَه» [صحيح مسلم:2725]. وما مِن أحدٍ إلاّ وهو يتقلَّب في رحمةِ الله، وكلُّ نعمة تراها هي مِن رحمته، وكلُّ نقمة صُرِفَت فهي من آثار رحمتِه، قال ابن القيّم رحمه الله: "وكان هذا الكتابُ «إنَّ رحمتي سبَقت غضبي» كالعهدِ من الله سبحانَه للخَلق، ولولاه لكان للخلقِ شأنٌ آخر".

وهو سبحانه الملِك، المتصرِّفُ بخَلقه كما يشاء، لا يتحرَّك متحرّكٌ ولا يسكن ساكِن إلاّ بعلمه وإرادَته، يأمُر وينهى، يعِزّ ويذلّ بلا ممانَعة ولا مدَافعة، لا يعجِزه شيء، ففوِّض إلى الملكِ أمورَك؛ فبِيَده مقاليد كل شيء، وتوكَّل عليه في جميعِ أحوالِك.

وهو القُدّوس، المنـزَّهُ عن النقائِصِ، الموصوفُ بصفاتِ الكمال.

وهو السّلام، السالِمُ من جميع العيوب وخَلَلِ الأوصاف، جميعُ المخلوقاتِ تُنـزِّهُ ربَّنا من ذلك، قال عز وجل: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [الجمعة:1]، ومنه تعالى تُطلب السلامة.

وهو جلّ وعلا المؤمِن، خَلْقُه آمِنون من أن يَظلِمَهم أو يَبخَسهم حقَّهم، فتزوَّد منَ التّقوَى؛ فالأعمالُ محفوظةٌ مضَاعَفة.

وهو المهَيمِن على خلقِه، مطَّلِعٌ على خفاياهم وخَبايا صدورِهم، فلا تأمَن مكرَ الله إن عَصَيتَه.

وهو الشّهيدُ على أقوالِ وأفعال عِباده، {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة:74]، هو العزيزُ، القاهر الذي لا يُغلَب، ذلَّت الصِّعاب لعِزَّته، ولانت الشدائد لقوَّتِه، إذا قضى الأمرَ في السماءِ ضَرَبتِ الملائكة بأجنِحَتها خُضعانًا لقولِه، من دنا منه بالطّاعة عزَّ، قال سبحانه: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا} [فاطر:10]، ومن بارزه بالمعصِيَة ذلَّ، فلا تنظُر إلى المعصيةِ؛ وانظر إلى عظمة من عصيتَ.

وهو العليُّ الأعلَى، {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر:10]، فله علو الذات وعلو القدر وعلو القوة.

هو الجبَّار، لا يمتَنِع منه أحدٌ من خلقه، {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82]، قال للسَّماء وللأرضِ: ائتِيا طوعًا أو كرهًا، قالتا: أتَينَا طائعين. وهو سبحانَه الجبّار الذي يجبرُ قلوبِ المنكَسِرين.

هو الكبير، كلُّ شيءٍ دونَه، ولا شيءَ أعظم ولا أكبر منه، {وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر:67]، يخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه سبحانه يوم القيامة «يجعل السمواتِ على إصبِع، والأرضَ على إصبِع، والجبال والشجرَ على إصبع، والماء والثرَى على إصبِع، وسائر الخلقِ على إصبع» [صحيح مسلم:2786]

هو المتكبِّر وحدَه، ولا يليق الكِبْرُ إلاّ به، ومن تكبَّر من خلقه فمأواه سقَر، قال جلّ وعلا: {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ} [الزمر:60]، والعبدُ واجبٌ عليه التذلُّل والخضوع لربِّه والتواضعُ لعباده.

رزقنا الله حسن التذلل والخضوع لله، والتواضع لعباده.أقول ما سمعتم، وأستغفر الله ......

الخطبة الثانية

وهو الخالِقُ، أوجدَ الكونَ وأبدعه، فأبهَر مَن تأمَّل في خلقه، وهو الخلاَّق الذي أتقَنَ ما خلَق، {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقين} [المؤمنون:14].

هو البارِئ، بَرَأ الخلقَ مِن عدَم؛ سماوات وأرضين؛ جبال وسهول؛ بحار وأنهار؛ نجومٌ وكواكب؛ شمس وقمَر؛ كلٌّ في فلَكٍ يَسبحون، ملائكة وإنس وجنّ ودوابّ، خلق يُدهش من يتفكَّر فيه ويتذكَّر، يدل على عظمة الله البارئ لها.

وهو المصوِّر، صوَّر خلقَه على صفاتٍ مختَلفة وهيئاتٍ متباينة كيفَ شاء، خلق الدواب {فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ} [النور:45]، وخلَق الإنسان في أحسنِ صورةٍ، {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين:4]، وهو الغفور، يمحو ذنوبَ مَن أنابَ إليه من عبادِه وإن تناهَت خطاياه، غفَر لسحرَةِ فِرعون كُفرَهم وسِحرَهم ومُبارَزَتَهم لنبيِّهم؛ بسجدةٍ واحدة لله مقرونةٍ بتَوبة صادقة، {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} [طه:82]، وهو القهَّار، الخلقُ تحت قَهرِه وقَبضته، ينـزع روحَ من شاء متى شاء، لا يقع في الكونِ أمرٌ إلا بمشيئتِه، ولو سعَى العبد إلى تحقيق أمر ما تم له إلا بمشيئة الله.

هو الفتَّاح، يَفتح أبوابَ الرزق والرحمة وأسبابَها لعبادِه، ويفتح عليهم المنغَلِقَ من أمورهم وأَحوالهم.

وهو الرزَّاق، يرزُقُ العبدَ من السماء والأرض، {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ قُلْ اللَّهُ} [سبأ:24]، عمَّ برِزقِه كلَّ شيء، فما من دابَّة في الأرض إلاّ على الله رِزقُها، رزَقَ الأجنّةَ في بطونِ الأمّهات، ورزق السِّباع في القِفار؛ والطيورَ في أعالي الأوكار؛ والحيتانَ في قعر البِحار.

وهو الوهَّاب، يعطِي من أراد ما شاءَ، بِيده خزائن السّموات والأرض، وهَبَ ذرّيّةً طيّبة لأنبياء بعد بلوغِهم عِتيًّا من الكِبَر، وسأل سليمانُ ربَّه الوهّاب مُلكًا لا يَنبَغي لأحدٍ مِن بعدِه، فوهبه آياتٍ مِنَ العطاء؛ مسخَّراتٍ بأمرِه.

وهو العليم، يعلَم السرائر والخفيَّاتِ، لا يخفَى عليه قولٌ ولا فعلٌ مما يجتَرِحُه العباد، {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [العنكبوت:62]، هو السَّميع، يسمَع النّجوَى وما أُعلِنَ؛ والسرَّ وما أَخفَى، إن جهرتَ بِقولِك سمِعَه، وإن أَسرَرتَ به لصاحِبِك سمعه، وإن أخفَيتَه في نفسك علِمَه.

هو البصير، يرَى خَوافِيَ الأمور وإن دقَّت، لا يعزُب عنه مثقالُ ذرة وإن خفِيَت، يرى في ظُلَم الليل ما تحت الثّرَى، ويُبصِر قَعرَ البحار في الدّهماء.

هو الظاهر والباطن، لا يخفى عليه دَبيبُ النملة السوداءِ على الصخرةِ الصّمّاء في اللّيلةِ الظّلماء، إن فَعَلْتَ فِعلًا ظاهرًا رَآك، وإن عَمِلت عملًا باطنًا ولو في جوفِ بيتِك أبصرَك، {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر:14]، ومن علِم أنَّ الله مطَّلِعٌ عليه استَحَى أن يراه علَى معصِيَة.

هو الحكيم، في شرعه وقدره، لا يَدخُل في أقداره وأحكامه وتشريعَاته خللٌ أو زَلَل، وليس لأحدٍ أن يراجعَ أحكامَ الله أو ينتَقِصها أو يضَعها للجدل، {وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ} [الرعد:41]، بل الواجب التسليمُ والإذعان لها والانقياد إليها، {إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} [المائدة:1]، ولا يصلُحُ لعباده سِوى شرعُه المطهَّر، ومَن سَخِر بدينه أو شرعِه أذلَّه الله.

رزقنا الله تعظيم شرعه، والتمسك به، ونشره والدعوة إليه. رزقنا الله الإيمان بأسمائه وصفاته على الوجه اللائق به. نسأله سبحانه أن يوفقنا للتأدب معه جل وعلا.

  • 38
  • 3
  • 19,996
المقال السابق
[11] أسباب مسقطة للعقوبة الأخروية
المقال التالي
[13] أسماء الله الحسنى 2-2

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً