خطب مختارة - [32] الابتسامة

منذ 2016-01-27

لنبدأ رحلةً جديدة في أسلوب حياتنا، وشعارنا فيها البسمة والأنس، وإدخال السرور على أنفسنا ومَن حولنا، حادينا إلى ذلك قول رسولنا صلى الله عليه وسلم: «أحبُّ الأعمال إلى الله -تعالى- سرورٌ تدخله على مسلم» [صحيح الترغيب:2623].

إشراقة روح وإطلالة نفس

الخطبة الأولى

عباد الله، حديثنا اليوم عن حركة عضلية؛ هذه الحركة لا تحتاج إلى تدريب في نوادٍ رياضية، غير أنّ في هذه الحركة سرٌّ آسر، وسلطانٌ قاهر، أدرك الطفلُ بفطرته البريئة سحرَها، فهو يبثُّها بين الحين والآخر؛ إنها المفتاح الأول لكلِّ القلوب المغلقة. إنها أقصر طريق إلى القلوب، وأقرب باب إلى النفوس، وأقوى قوانين الجاذبيّة للقلوب والأرواح. إنها سحرٌ خلاّب يستميل القلوب، ويأخذ بالألباب، أصحابها أحسن الناس مِزاجًا، وأهنؤهم عيشًا، وأطيبُهم نفسًا.

إنها الابتسامة! تلك الحركة العضلية السهلة في الوجه، وهي أسرع سهم تمتلك به القلوب. وتزيل غبار التناحر، وتغسل أدران الضغينة، وتمسح جراح القطيعة، وتطرد وساوس الشحناء، وتنهي المشكلات أو تساعد في إنهائها. إنَّ الابتسامة في وجوه الآخرين لا تكلف شيئًا، ومع ذلك فلها وزن كبير، وأهمية بالغة؛ لما يترتب عليها من آثار عظيمة طيبة في الناس.

الابتسامةُ والبشاشة هي طلاقة الوجه عند اللقاء، تبدو في ملامح الوجه وبسمات الشفاه، كما تبدو في التبسط والتحبب، ومحاولة التقارب، وروعة الاستهلال. الابتسامةُ وحدها عطاءٌ، وتدل على نفسٍ كريمةٍ قادرة على البذل للآخرين، والاهتمام بالناس، والفرح لفرحهم، ومشاركتهم في كل أحوالهم، وهي أول العطاء، وهي المحددة لما بعدها. وقد بيَّن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك المعنى، فقال موضِّحًا العلاقة بين العطاء والابتسامة: «وتبسمك في وجه أخيك صدقة» [صحيح الترمذي:1956]. أما عبوس الوجه فإنه يسبِّب الضيق لنفسه ولغيره، ويُنفِّر الآخرين عنه؛ ويخسر محبتهم.

الابتسامة صدقة، وهي رسالة حب وصدق وإخلاص، تعطيها بلا جهد يُذكر، فتجني من ورائها الكثيرَ من الخير. الابتسامةُ تحوِّل العدوَّ إلى صديق، والابتسامةُ تزيدك قربًا ممن تحب؛ وبذلك يأنس الناس إليك. الابتسامة تقضي على الحزن والكرب، والابتسامة تؤلف القلوب، وتيسر المهمات؛ فإذا قابلتَ المشكلاتِ بابتسامة فقد قمت بجزء كبير من حلها؛ لأنك تُعِدُّ نفسك داخليًّا لمواجهتها. الابتسامة عند النعمة شكر، وعند البلاء رضًا بالقضاء.

إخوة الإيمان، إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن مكتفيًا بأمر أصحابه بالابتسامة؛ وحثهم عليها فحسب، بل كانت سمة بارزة له؛  يقول جرير بن عبد الله البجلي أحد صحابته: "ما رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ابتسم في وجهي" أخرجه البخاري ومسلم. ويصفه أحد أصحابه بأنه أكثر الناس تبسمًا؛ يقول عبد الله بن الحارث الزبيري رضي الله عنه: "ما رأيت أحدًا أكثر تبسّمًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم" أخرجه أحمد والترمذي. وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو أصحابه إلى الطلاقة والبشاشة، وحسن اللقاء، فكان يقول: «لا تحقرن من المعروف شيئًا ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق» [صحيح مسلم:2626].

ويقول سَمُرةُ بنُ جُندبٍ رضي الله عنه: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقوم من مصلاه الذي يصلي فيه الصبح حتى تطلع الشمس، فإذا طلعت قام، وكانوا يتحدثون فيأخذون في أمر الجاهلية فيضحكون ويتبسم" أخرجه مسلم. إنه -إذًا- لم يكن بالمتجهّم العبوس إظهارًا لجديته ولنبوته، إنما كان هاشًّا باشًّا لغيره، وبقي هو القائد الأعلى للمجاهدين وللدولة وللقضاء والتعليم.

إننا نرى رجالًا لا تفارق البسمة وجوههم إذا كانوا في مصلحة ذاتية أو تعامل يجلب لهم نفعًا، ولكنهم إذا عادوا إلى بيوتهم وأهليهم يبدلون أوضاعهم ويكسو العبوسُ وجوهَهم؛ ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن كذلك، تقول زوجه عائشة رضي الله عنها: "كان ألين الناس، وأكرم الناس، وكان رجلًا من رجالكم، إلا أنه كان ضحاكًا بسّامًا" أخرجه إسحاق بن راهويه في مسنده.

ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم بسَّامًا مع أصحابه المقربين فقط، بل كان بسّامًا مع الجميع، بل حتى مع من يكره، فقد دخل عليه رجل سيئ الخلق، فاحش القول، فاستأذن عليه في بيته، فقال: (ائذنوا له)؛ فلما دخل عليه تطلق في وجهه، وألان له الكلام، وانبسط له في الحديث. فسألته زوجه عائشة -رضي الله عنها- عن ذلك فقال: «أي عائشة، إن شرَّ الناس من تركه الناس أو وَدَعه الناس اتقاء فحشه» [صحيح  البخاري:6045]. حتى الرجل الفاحش السيئ الخلق تبسَّم النبي في وجهه، وهشَّ له، وعامله معاملة حسنة وهو في بيته.

يبتسم النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: «إن ربك ليعجب من عبده إذا قال: رب اغفر لي ذنوبي إنه لا يغفر الذنوب غيرُك» [صحيح الترمذي:3446]. إنها ابتسامة رقيقة شفافة، تخرج على ملامح وجهه صلى الله عليه وسلم، تعبر عن علمه وإدراكه لطبائع النفس البشرية. إن ابتسامة الرضا كثيرًا ما كانت تبدو على وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم مع كل سلوك يراه فيرضى به، أو يعجبه من أصحابه، فحينما يرى فقهًا من أصحابه في دين الله أو يراهم قد اهتدوا إلى أمر شرعي بفطرتهم كان يسعد ويُسَرّ ويفرح ويبتسم.

فحينما سأله جماعة من أصحابه قد أُعطوا غنمًا مقابل رقيتهم لسيد قوم لدغته عقرب؛ فبرأ حينما رقاه أحدُهم بسورة الفاتحة، فحينما رجعوا للنبي صلى الله عليه وسلم ذكروا الحادثة له وسألوه، فابتسم ثم قال: «قد أصبتم، اقسموا، واضربوا لي معكم سهمًا، وضحك». [صحيح البخاري:2276].

لقد ظلت ابتسامته صلى الله عليه وسلم تضيء المواطن والقلوب، ولم تنطفئ يومًا، بل إنها لم تنطفئ عن وجهه الكريم حتى في آخر لحظات حياته، فبينما المسلمون في صلاة الفجر وهو مريض في بيته لم يفجأهم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم كشف سِتْر حُجرةِ عائشة - رضي الله عنها - فنظر إليهم وهم صفوف فتبسم يضحك. أخرجه البخاري  ومسلم. {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: 159].

نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم،أقول ما سمعتم...

الخطبة الثانية

إخوة الإسلام، إن ديننا هو دين الفطرة، يَصلح ويُصلح كل الأزمنة والأمكنة؛ فهو دين العقيدة والشريعة والأخلاق والسلوك، دينٌ يجمع البشاشة في حياء، وحسن الخلق في ابتسامة، دين يعترف بما للبشر من أشواق قلبية، وحظوظ نفسية، وطبائع إنسانية. لقد أقرَّ الدينُ ما تتطلبه الفطرة من سرور وفرح، ولباس وزينة، محاطٍ بسياج من الأدب الرفيع يبلغ بالمتعة كمالها ونقاءها، وبالسرور غايته، بعيدًا عن الخنا والحرام، والظلم والعدوان، والغل وإيغار الصدور.

إخوة الإيمان، إنه يجب علينا أن نبتسم لأقرب الناس إلينا من والدَين وزوجة وأولاد؛ فهم أولى الناس بالابتسامة. يجب أن نبتسم لأقاربنا وجيراننا فكم حُطِّمت على بريق الابتسامة من الحواجز الوهميَّة التي نسجها الشيطان! فبددت تلك الابتسامة جبال المشاكل، التي هي أشبه ما تكون بجبالٍ ثلجيَّةٍ ما أن تُلقَى عليها حرارة الابتسامة، إلا وسارعت بالانصهار والذوبان. جَرِّبْ سحر الابتسامة عندما تتعرَّض لبعض المشاكل مع بعض الأقارب أو الجيران؛ لترى أثر الابتسامة في ذلك. نبتسم لرفقاء العمل والدراسة، كل أولئك ينتظرون منك ابتسامة تسعدهم بها، تفرِّج عن مهموم وتداوي مكلومًا، وتنشط عاملًا وتفرح محزونًا. نعم نعم نبتسم لكل من نلقاه.

إخوة الإيمان، لنبدأ رحلةً جديدة في أسلوب حياتنا، وشعارنا فيها البسمة والأنس، وإدخال السرور على أنفسنا ومَن حولنا، حادينا إلى ذلك قول رسولنا صلى الله عليه وسلم: «أحبُّ الأعمال إلى الله -تعالى- سرورٌ تدخله على مسلم» [صحيح الترغيب:2623]

اللهم ألِّف بين قلوبنا، وأصلح ذات بيننا، اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق. ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلًا للذين آمنوا.

  • 49
  • 16
  • 29,365
المقال السابق
[31] الأعداء الثلاثة 3-3
المقال التالي
[33] الإجازة الصيفية

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً