الوثاق بين العقيدة والأخلاق

منذ 2016-03-01

حقيقة الأمر أنَّ هناك خلْطًا كبيرًا بين الذَّات والموضوع في مسألة الإيمان والأخلاق؛ أي: بين مسمَّى الإيمان كموضوعٍ، وبين كينونة هذا الإيمان في قلب المرء (الذَّات)، فالإيمان كموضوع ثابِت؛ من حيث إيماننا بالله تعالى وبملائكته وكتبِه ورسله، إلى آخر أركان الإيمان... ويرافق ذلك -كموضوعٍ- مكارم الأخلاق كقيمة ومِعيار ثابت لا يتغيَّر بتغير الزَّمان ولا المكان، وهما شيئان متلازمان. لكن أخلاق المرء تتغيَّر حسب ما يَغلب عليه من طِباعٍ، وما يُبقي من جبلَّته وما يذَر...، وكذا إيمانه يَزيد ويَنقص.

يسبِّب التناقض المتوهَّم بين العقيدة والأخلاق اضطرابًا عند الكثير من الناس، وأقصِد هنا التَّناقض من النَّاحية العملية على أرض الواقع، وليست النظريَّة.

"فالبعض من أبناء الصَّحوة الإسلاميَّة - والذين قد درسوا جزءًا لا بأس به عن العقيدة والتوحيد، وطبَّقوا الهديَ الظاهر، وطلبوا قِسطًا من العلم، واجتهدوا في السنن والنوافل - لا تَبدو عليهم آثار الأخلاق واضِحةً، في الوقت الذي قد تَظهر فيه على بعض المسلِمين ممن لا يُوسَمون بالالتِزام الديني".

الجملة السَّابقة تؤخذ باعتِبارات مختلفة؛ فعلى اعتِبار أنَّها فِتنة في الدِّين، فمِثل هؤلاء يُنظر إليهم على أنَّهم قدوة قد أضاعوا الأمانةَ والديانة، أو باعتبار أنَّ الكثير من الناس يتلمَّسون عثرات الملتزِمين بالدِّين، أو باعتِبار أنَّه لا علاقة بين العقيدة والأخلاق؛ فليس كل خَلوق مؤمنًا، ولا كل مؤمن خلوقًا.

وأرى أنَّ كل هذه الاعتِبارات ناقصةُ التصوُّر، وأنَّ المشكلة تَكمن في اتِّخاذنا لأشخاص بأعيُنِهم كثابتٍ ومِعيار للحقائق مهما ظهر عليهم الصَّلاح.

وهذا ما جعلَني أفكِّر مليًّا وأنا على يقين مسبق ومنحازٍ أنْ لا عقيدة بدون أخلاق، ولا أخلاقَ بدون فِطرة سليمة -على أقل تقدير- تلك التي هي بوَّابة التوحيد ودليله الأول.

لا فصل بين العقيدة والأخلاق:
لقد ربط النبيُّ صلى الله عليه وسلم بين حُسن الخُلق والإيمان، وجعله جزءًا لا يتجزَّأ منه، فأحيانًا يُضمِّن مكارمَ الأخلاق الإيمان، وأحيانًا يَجعل لحسن الخلُق الأولويَّة كعلامةٍ على للإيمان، وفي حديث النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «الإيمانُ بِضْعٌ وسبعون، أو بِضْعٌ وستُّون شُعبةً؛ فأفضلُها قول: لا إلهَ إلَّا اللهُ، وأدناها إماطةُ الأذى عن الطَّريقِ، والحياءُ شُعبةٌ من الإيمان»[1].

لم تُقسَّم الشُّعب إلى أقسام أكثر فرعيَّة تَعزل الإيمانَ عن الأخلاق؛ بل فرق بين درجاتها في المرتبة فقط، أمَّا جِنس الإيمان ذاته، فنجد أنَّه لم يفرِّق بين الاعتِقاد والأخلاق، فأعلاها: لا إله إلا الله، وأدناها: إماطةُ الأذى عن الطَّريق.

لا فصل ولا تَفريق هنا إذًا بين العقيدة والأخلاق؛ بل هما بِناءٌ واحد، وموضوعٌ واحد، وثابتٌ واحد، صنَّفه النبيُّ الكريم من حيث الأعلى فالأدنى، أما كون هذه الأعمال، سواء القلبية أو أعمال الجوارح، سواء عبادات أو معاملات، فهي على حدٍّ سواء، فكلُّها من أعلاها إلى أدنها تعبِّر عن مسمَّى الإيمان بلا استثناء، والنُّصوص الدالَّة على ذلك كثيرةٌ في الكتاب والسنَّة.


الإيمان يزيد وينقص من حيث الذَّات لا الموضوع:
ومن تلك النُّصوص أيضًا قولُه صلى الله عليه وسلم: «لا يَزني الزَّاني حين يزني وهو مؤمنٌ، ولا يَشربُ الخمرَ حين يشربُ وهو مؤمنٌ، ولا يسرقُ حين يسرقُ وهو مؤمنٌ، ولا ينتهِبُ نُهبةً يرفعُ الناسُ إليه فيها أبصارَهم وهو مؤمنٌ»[2]. 

وفيها أيضًا ربط واضحٌ بين قضيَّتَي الأخلاق والإيمان؛ فانحِدار الأخلاق علامة على ضحالة الإيمان والعكس.

ومن هذا الحديث استدلَّ أهلُ السنَّة والجماعة على أنَّ الإيمان يزيد وينقص، وردُّوا فيه على الخوارج المكفِّرين بالذَّنب، فالمؤمن حين يَزني أو يسرِق يكون في أضعف درجات إيمانه حتى تَنتفي عنه صِفة الإيمان كأنَّها ظلَّة فوق رأسه، فإذا رجع وتاب زاد إيمانُه، ولكنَّه لا يَكفر بذنبه هذا.

وفي الوقت نفسه فليس إيمانُه في هذه الحالة كإيمان الصَّالحين المتقين، ومن ثمَّ فالإيمان ليس بالمعنى المتفشِّي عند الكثير من العامة - بسبب تأثُّرنا بالفِكر الإرجائي وتشرُّبنا له - فهو ليس بالأمر الكامِل الثابِت على اختلاف الأحوال والأفعالِ، بل هو متغيِّر بتغيُّر العمل القلبي وأعمال الجَوارح، يزيد تارةً ويَنقص تارة في قلب المؤمِن على حسب عزيمته وإرادتِه وأعماله الصَّالحات... إلخ.

ومن ثمَّ ففي بعض الحالات قد يَبقى الهَدْيُ الظَّاهر والأعمال الظَّاهرة ثابتةً مع تغيُّر الإيمان؛ كالكأس الممتلئ بالإيمان، أو الناقص منه، أو الخالي عنه، على حسَب ما يقدِّم المرء لنفسه، وتبقى الأخلاق تزيد وتنقص مع الإيمان.

الخلط بين الموضوع والذات:
إذًا فما تفسيرُنا لهؤلاء المتسمين بالالتزام الديني ويَنقصهم الكثير من مَكارم الأخلاق؟
حقيقة الأمر أنَّ هناك خلْطًا كبيرًا بين الذَّات والموضوع في مسألة الإيمان والأخلاق؛ أي: بين مسمَّى الإيمان كموضوعٍ، وبين كينونة هذا الإيمان في قلب المرء (الذَّات)، فالإيمان كموضوع ثابِت؛ من حيث إيماننا بالله تعالى وبملائكته وكتبِه ورسله، إلى آخر أركان الإيمان... ويرافق ذلك -كموضوعٍ- مكارم الأخلاق كقيمة ومِعيار ثابت لا يتغيَّر بتغير الزَّمان ولا المكان، وهما شيئان متلازمان.

لكن أخلاق المرء تتغيَّر حسب ما يَغلب عليه من طِباعٍ، وما يُبقي من جبلَّته وما يذَر...، وكذا إيمانه كما وضَّحنا سابقًا يَزيد ويَنقص.

المشكلة إذًا في الخلْط بين ثابتي الإيمان والأخلاق من جهةٍ، وبين مَن يحاولون الالتزامَ بهذه الثَّوابت من جهةٍ أخرى، وببساطة فإنَّ المشكلة في شخصَنة القضية.

وهذه الشَّخصنة قديمًا كانت سببًا في عبادة ودٍّ ويغوث ويعوق ونسْر "إفراطًا"؛ حيث شخصَنوا الإيمانَ وقدَّسوه في صوَر بعض الصالحين وعبَدوهم...، وحديثًا كان سببًا في التخلِّي والنفور من الثابت كليًّا؛ حيث تُشَخصن قضية الإيمان أيضًا في صوَر بعض الرموز، ولكن هذه المرَّة ليسَت للتقديس؛ بل للتحقير ولمحاولة فَصل الإيمان عن الأخلاق في أعين الكثير "تفريطًا".

فالإيمان كموضوع هو مِعيار ثابت بلا شك؛ لكن إيمان فلان وفلان ليس مِعيارًا يُرجع إليه ولا يُقاس عليه؛ ولذلك كانت العِصمة حالة خاصَّة للأنبياء والمرسَلين؛ لأنَّهم البشَر الوحيدين الذين يمكِن القياس والحكم على إيمانهم الذَّاتي كموضوع، وما دونهم يخطئ ويصيب.

وكانت أفضل القدوات وأولاها لِمن مات على الحقِّ، وليس لمن يَحيا عليه فحسب.

التعميم والقياس الخاطئ:
المشكلة الأخرى التي تَجعلنا نتسرَّع في الحكم بفصل الإيمان عن الأخلاق في إشكاليَّة (الخَلوق بلا إيمان، والمؤمن بلا أخلاق) - هو الحكم الظَّاهر على الأعيان بما يقدِّمونه من معاملات، وما يلتزمون به من طاعات ظاهِرة، وتعميم هذا الحكم على الكلِّ، وهذا أمرٌ غير مستنكَر في بعض الحالات، لكنَّه لا يمكن أن يَصير حكمًا عامًّا على مستوى المجتمعات؛ لأنَّه يَنفي ظاهرة النِّفاق وظواهر جديدة طرأَت على الأمَّة بسبب التربية المضطربة التي تتعثَّر فيها الجماعات المؤمِنة على مستوى الأمَّة المعاصِرة، مخفِقة تارة، وموفَّقة تارة أخرى.

فالتربية الحاليَّة ليست هي التربيةَ النموذجيَّة للجماعة المؤمنة ولا للفرد المؤمن؛ بل يمكننا وصفها بأنها تربية تأهيليَّة رسمَتها العديد من الأيادي -اجتهادًا- على حسب فهم كلٍّ منهم للسنَّة، ولم تكن صادقةً في الكثير من التجارب؛ بل ندر مَن اجتهد فأصاب، وندر من أصاب فوُفِّق.

ولربَّما لكي نضع أيدينا على الدَّاء أيضًا لا بدَّ أن نتذكر ما ذكره الإمامُ ابن القيم في كتبه في تحليله للنَّفس البشرية من امتلاك الفرد لقوَّتين؛ هما قوتا الإقدام والإحجام، والمحك في تنمية هذه القُوى في النَّفس البشريَّة ذاتها، واستخدامها الاستخدامَ الأمثل، فبهما يُحَدَّد اتِّزان المرء وثباته على الصَّلاح.

فعلى المستوى الفردي، أحيانًا تكون قوَّة إحجام المرء عن المعاصي كبيرة، فيَرتدِع بسهولةٍ عن النَّواهي، ويحجم عنها كأفضل مؤمنٍ، لكن قوَّة إقدامه على البرِّ والطاعة والبذْل تكون ضعيفةً، ويصعب عليه تَنميتها؛ فتجده يفرِّط في البرِّ والإحسان للغير، ويتهاون في المعاملات، ويتساهل في الآداب، على بُعدِه عن الحرام وعفَّته عنه...

وفي المقابل أحيانًا تكون قوَّة الإقدام على الطَّاعة كبيرة، يساعِده عليه دينُه وبيئته وغير ذلك، فتراه مستمسكًا بالصوم وقِراءة القرآن، وصِلة الأرحام وبعضِ العبادات، ولا يرى في ذلك صعوبة؛ ففطرتُه تتماشي معها، وطِباعه تتوافَق بيُسر، إلَّا أنَّ قوة إحجامه عن المعاصي ضَعيفة؛ فلا يَكاد يستقر إلَّا وزلَّ، وتجده يقَع فريسةً للمعاصي، ويَظهر ذلك بصورة أكثر وضوحًا في هَدْيه الظَّاهر وامتثاله الأوامر، وهذا ما يَجعله الأكثرَ ظهورًا عن النَّموذج الأول؛ لأنَّه لم يطبِّق الهديَ الظاهر الذي يَجعله الكثيرُ من البشر علامةَ الالتزام.

والنموذجان ليسا بالتقاسم، لكن بينهما درجات معقَّدة في التفاوت، ويَحكم الأمرَ مقدارُ الإيمان الذي يَزيد وينقص، إلَّا أنَّ كلا الطَّرفين في حقيقة الأمر على تَقصير وإن تفاوتَت درجاتهم، وكلا الطَّرفين يمثِّلان الإيمان من حيث الذَّات وليس الموضوع، وهذا لا يَجعلنا نَحكم على الانفِصال بين العقيدة والأخلاق وكأنَّنا في إطار تَجربةٍ عمليَّة ندرس فيها المقدِّمات، ونَحكم بالنتائج، فهذه في حدِّ ذاتها نوعٌ من أنواع الفَصل العلماني بين الشريعة والحياة.

فالإسلام قيِّمٌ بذاته، ومعاييرُه ثابتة عبر الزَّمان والمكان، إلَّا أنه يخوننا كثيرًا التدقيقُ والبحث، ونتسرَّع كثيرًا في إلقاء الأحكام، وهذه آفَةٌ عامَّة من آفات العصر، جرَّتها علينا الحضارةُ الماديَّة الغربيَّة.

الشريعة تحكم الأخلاقَ:
والشَّريعة تَحكم الأخلاقَ وتوظِّفها من ضمن فرعيَّات الإيمان وضروريَّات الحياة، وما نجده على سَطح المعاملات الحاليَّة للملتزمين في القرن الواحد والعشرين ليس إفرازَ القرون الأولى؛ بل هو نتائج لمحاولاتٍ فرديَّةٍ ضعيفة السَّعي والعزم لتطبيق المنهج الإسلامي كل على قدْر اجتِهاده، دون النَّظر إلى تسلسل وتماسُك الجماعة المسلِمة كوحدةٍ واحدة ووعيٍ جمعي دارٍ بأهميَّة كلٍّ منهما وعلاقته بالآخر.

وبما أنَّ الإيمان كموضوع ثابت؛ فلا يمكن أبدًا نِسبته إلى متغيرات وتجارب فرديَّة، مهما كثرَت هذه التجارب وفشَت على هيئة نماذِج فرديَّة ظاهرة أو جماعاتٍ معاصرة، ولكن وللأسَف الشَّديد هذا هو الحادِث.

والسؤال الصاروخي -دومًا- موجَّهٌ نحو المنظومة الأخلاقيَّة المنسقة في العالم الغَربي بالمقارنة بالمنظومة الأخلاقيَّة في المجتمعات الإسلاميَّة المعاصرة.

ففي الدُّول الغربيَّة يُتوهَّم فكُّ الارتباط بين العقيدة والأخلاق ويبدو جليًّا؛ لأنَّ البون يتَّسع بينهما، فبالرغم من التظاهر بالرُّقي والأخلاق والآداب السَّامية، فإنَّ المنظومة الأخلاقيَّة في الدول الغربية - كما سنُثبتُ - تَرتكز على مَعايير بديلة عن الإيمان، وهي في حقيقتها مَعايير براجماتية* مؤقَّتة لا تَنبني عليها قيَم ثابتة، ومن ثمَّ لا يَنبغي هنا أيضًا الخلْط بين الذات والموضوع، فالفلسفة الغربيَّة ترتكز على ركائز هامَّة تفسِّر هذا الإلغازَ:
الأولى: احترام القوانين والآداب العامَّة؛ فالجريمة يَحكمها القانون، والقانونُ يُحترم؛ لأنَّه يحقِّق للفرد مصلحتَه الخاصَّة، ويوفِّر له في النهاية حقوقَه الشخصيَّة على أكمل وجهٍ، فهي إذًا اتِّفاقية وعقْدٌ ما بين تاجرين: (منسِّقي الحضارة الغربية وعامَّةِ الشعب)؛ لا إله ولا إيمان إذًا بيوم الحِساب.

وثانيًا - وهي نتيجة للأول -: حِماية الحريَّات والمصالح العامَّة (الانتقائية)؛ بمعنى أنَّها تَنتقي من المصلحة العامَّة ما سيَعود بالنَّفع على المصلحة الفرديَّة فحسْب، فالمهمُّ لديهم تَحقيق اللذَّة الفرديَّة والمصلحة الخاصَّة، وكل ما يَسبق ذلك ما هو سوى مقدِّمات لهذا الهدَف عندهم؛ هذه هي أُسس الفلسفة الغربيَّة المعاصِرة كما أسَّسوها وكما طبَّقوها.

وهذه الركيزة في حدِّ ذاتها لا تعبِّر عن مِعيار ثابت، بل تتوقَّف على اللذَّة الفردية التي تَختلف من مجتمع لآخَر، ومن شخصٍ لآخر، ومن ثمَّ فالمعيار كله مَحمولٌ على العرف المتغير، وليس على القِيَم الثَّابتة.

وثالثًا: هو ما تبقى عند البعض من الفِطَر السَّليمة في سجايا وتعاليم في الكتب المقدَّسة وطبائع الشعوب التي فطَرَها الله تعالى فلم تتلوَّث، وهذا هو الثابِت الوحيد في حياة الغربيِّين.

وما يَخرج عن هذا، فلن تجِد له أثرًا في الحياة الغربيَّة؛ فالغِيبة والنَّميمة والرذائل بأنواعها مثلًا ليست جرائمَ يُعاقِب عليها القانونُ؛ لذا فهي من ضِمن الحقوق والحريَّات، أو لنَقُل: فهي سلوكيَّات شائعة لا مشاحة فيها، رغم خروجها عن إطار الثَّابت الأخلاقي، وكذا البر والإحسان، والتضحية والإيثار، والتهادي والتناصح، وغيرها من أعمال البرِّ - لا تَعني شيئًا في مفهوم العقليَّة الغربية، إلَّا ما تبقَّى من فِطرةٍ أو دين لم تَشُبْه شائبة؛ لذلك فلو دقَّقنا النَّظر نجد أنَّ المنظومة الأخلاقيَّة الغربية مَحكومة أيضًا بمتغير؛ وهو حكم القانون، أو لنقل: بالحاكميَّة البشريَّة، البديلة للحاكمية الربَّانيَّة.

كما أنَّ المنظومة الأخلاقيَّة في الإسلام مَحكومة بمعيار؛ وهو الإيمان، ولكن شتَّان ما بين رابط القانون ورابط الإيمان.

والمصلحة الفرديَّة في الغرب نتج عنها أنَّ التعاملات الحياتيَّة قد وقعَت تحت قوانينها، فأصبح الحبُّ والعطف والتراحم متوقفًا على المصلحة الفرديَّة في الغالب الأعمِّ، وحتى الابتِسامات والمعاملات الحسَنة ليست سوى ثقافة مضطربة هشَّة في أدبيات الحضارة الغربيَّة الحديثة؛ فهي موجودة طالما ارتبطَت في نهاية المطاف بالمصالح الفرديَّة، وهي ليست سوى إجراءات جمعيَّة تصبُّ في مَصلحة المواطِن لتنظِّم العلاقات، وهذا ليس ظنًّا منِّي؛ ولكن كل خُلق لم يَرتكز على أساس يَربطه باليوم الآخِر والإيمان بالغيب، فلا عَلاقة مباشرة له بالمصلَحَة العامَّةِ، ولا مكان له في المنظومة الأخلاقيَّة، سوى إرجاعه إلى المصلحة الخاصَّة، وعلى العكس؛ فالارتِباط باليوم الآخِر يحقِّق المصلحةَ العامَّة على أكمل وجهٍ.

إذًا فالوثاق بين العقيدة والأخلاق : درجات ومعابر، تتكوَّن من بضع وسبعين شُعبة، يَستطيع أن يتشبَّث بها المرءُ حسبما شاء؛ ليوفِّق بينهما في وصلةٍ واحدة؛ أولها وأجلُّها هي كلمة التوحيد وما تَحملها من معانٍ تنظِّم القِيَم والأخلاق، فـ"لا إله إلَّا الله" تدلُّ على معاني الحاكميَّة مثلما تدلُّ على معاني العبوديَّة؛ فالحكم له تعالى في كلِّ أفعالك وأقوالك، ودواخلك ونوازلك...، ولئن أيقنتَ بأنَّ الحكم له وأنَّه وحده المستحق لهذا التحكيم، فسيَنطبِع ذلك حتمًا على تصرُّفاتك وسلوكك بينك وبين نفسِك وبين البشر، وبل وبين الكائنات، وحتى الجمادات؛ حتى تميط الأذى عن الطَّريق ابتغاءَ الصَّدَقة، فتحقِّق المصلحةَ العامَّة ابتغاء الآخِرة، وليس لتحقيق مَصلحة فرديَّة فحسب.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1][الراوي: أبو هريرة / المحدِّث: مسلم / المصدر: صحيح مسلم، الصفحة أو الرقم: (35) / خلاصة حكم المحدِّث: صحيح].

[2][الراوي: أبو هريرة / المحدِّث: البخاري / المصدر: صحيح البخاري، الصفحة أو الرقم: (6772)].

*البراجماتية: أو فلسفة الذرائع هو مذهب فلسفي يعتبر نجاح العمل المعيار الوحيد للحقيقة.  

المصدر: فريق عمل طريق الغسلام
  • 5
  • 0
  • 35,437

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً