خطب مختارة - [54] التحذير من البدع في شعبان وغيره

منذ 2016-03-01

يُعلم أنه ليس لليلة النصف من شعبان ولا ليومها خصوصية على غيرها من الليالي والأيام، فمن كان معتادًا لقيام الليل في سائر السنة فليقم في تلك الليلة كغيرها من الليال.

الخطبة الأولى:

الحمد لله رب العالمين، أمرنا باتباع صراطه المستقيم، ونهانا عن اتباع السبل التي تبعدنا عن صراطه المستقيم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك البر الرحيم، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله بلغ البلاغ المبين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين تلقوا عنه الدين. وبلغوه للمسلمين. ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليمًا كثيرًا. أما بعد:

أيها الناس: اتقوا الله تعالى وتمسكوا بكتابه وسنة نبيه؛ ففيهما الكفاية والهدى والنور، وفيهما النجاة من عذاب الله؛ والفوز برضوانه وجنته، وإياكم ومحدثات الأمور، فإنها ضلال وغرور، قال تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ} [الأعراف:3]، وقد وعد الله من تمسك بكتابه وعمل به أن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة فقال تعالى: { فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} [طه:123]، وتوعد من أعرض عن كتابه فقال: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه: 124] ؛ أي: من خالف أمري وما أنزلتُه على رسولي فأعرض عنه وتناساه، وأخذ من غيره هداه {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا} أي : ضنكا في الدنيا فلا طمأنينة له ولا انشراح لصدره، بل صدره ضيقٌ حَرَجٌ وإن تَنعَّم ظاهِرُه؛ ولبس ما شاء وأكل ما شاء فإن قلبه في قلق وحيرة وشك، بسبب ضلاله، {وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى}، أي: أعمى البصر والبصيرة، كما قال تعالى: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ} [الإسراء:97]، وقد أمر الله بطاعته وطاعة رسوله في كثير من الآيات، وطاعة الله تكون باتباع كتابه، وطاعة الرسول تكون باتباع سنته قال تعالى: {وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ . وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ} [النساء:13-14]، وهذا من مقتضى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسولُ الله، فمن شهد أن لا إله إلا الله وجب عليه أن يطيعَه ويتبعَ كتابَه، ومن شهد أن محمدًا رسولُ الله، وجب عليه أن يطيعَه ويتبعَ سنتَه.

وقد أخبر الله سبحانه أن من يطع الرسول صلى الله عليه وسلم فذلك دليل على محبته لله ومحبة الله له، وأن من تولى عن طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم فإن ذلك دليل على كفره قال تعالى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ . قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:31-32]

وأخبر الله سبحانه أن من أطاع الرسول فقد أطاع الله لأن طاعة الرسولِ طاعةٌ لمن أرسله قال تعالى:   {مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء:80]، وأخبر سبحانه أن من أطاع الرسول صلى الله عليه وسلم حصلت له الهداية التامة فقال: {وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور:54]، وأخبر أن طاعة الرسول سبب للرحمة فقال تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [آل عمران: 132]. وتوعد اللهُ من خالف أمر رسوله بالعقوبة العاجلة والآجلة فقال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْأَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63]

وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحذِّرُ من مخالفة الكتاب والسنة ويُبَيِّنُ أن ما خالف الكتاب والسنة فهو بدعة وضلالة فكان يقول في خطبه: «إنَّ خيرَ الحديثِ كتابُ اللهِ. وخيرَ الهديِ هديُ محمدٍ. وشرَّ الأمورِ مُحدثاتُها. وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ» [صحيح مسلم: 867]، ويقول: «من يَعِشْ منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بما عرفتُم من سُنَّتي، و سُنَّةِ الخلفاءِ الراشدين المهديِّينَ، عضُّوا عليها بالنواجذِ، و عليكم بالطاعةِ» [السلسلة الصحيحة:937]، وقال صلى الله عليه وسلم: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» [صحيح مسلم: 1718]، أي: مردود على مُحْدِثه وعامِلِه لا يُقبل؛ لأنه بدعة مخالفة لما شرع الله لعباده، ففي هذه النصوص وأمثالها التحذير من البدع والمخالفات.

إذن ما هي البدعة ؟ والجواب: البدعة هي الطريقة المخترعة في الدين التي ليس لها دليل من الكتاب والسنة يقصد فاعلها ومخترعها التقربَ بها إلى الله عز وجل  كإحداث عبادة لم يشرعها الله ولا رسوله، أو تخصيصِ وقت للعبادة المشروعة لم يخصصه الله ولا رسوله لها، أو فعلِ العبادة المشروعة على صفة لم يشرعها الله ورسولُه، أو تخصيص زمان أو مكان لم يخصصه الشرع.

فالبدعة قد تكون بإحداث عبادة ليس لها أصل في الشرع مثل بدعة الاحتفال بمناسبة مولد النبي صلى الله عليه وسلم والاحتفال بمناسبة الإسراء والمعراج، أو بمناسبة الهجرة النبوية. وقد تكون البدعة بتخصيص وقت من الأوقات للعبادة ليس له خصوصية في الشرع، كتخصيص شهر رجب أو ليلة النصف من شعبان بصلاة أو ذكر أو دعاء، وتخصيص يوم النصف من شهر شعبان بصيام وليلتها بقيام، وقد تكون البدعة بإحداث صفة للعبادة غير مشروعة، كالدعاء الجماعي بعد الصلوات المفروضة، والأذكار الجماعية وما أشبه ذلك.

فاتقوا الله - عباد الله - وتمسكوا بكتاب ربكم، وسنة بينكم، وما كان عليه السلف الصالح، واحذروا من البدع ومروجيها، كما حذركم النبي صلى الله عليه وسلم.  

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.

الخطبة الثانية:

عباد الله: إننا في زمان كثرت فيه البدع ونشط فيه المبتدعة، فصاروا يروجون البدع بين الناس وخاصة مع هذه الفضائيات؛ ويدعون إليها في كل مناسبة، وهذا بسبب غربة الدين، وقلة العلماء المصلحين في العالم. ومن هذه البدع التي يُروج لها كلَّ عام، ويغتر بها الجهال والعوام الاحتفال بليلة النصف من شعبان وتخصيصها بأنواع من الذكر والصلاة، لأنهم يزعمون أنها تقدر فيها الآجال والأرزاق وما يجري في العام، ويظنون أنها هي المعنية بقوله تعالى: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان: 4]، ويخصون اليوم الخامس عشر من شهر شعبان بالصيام، ويستدلون بأحاديث لم تصح، وهذا كله من البدع المحدثة، لأنه لم يثبت تخصيص ليلة النصف من شعبان بذكر ولا قيام. ولا تخصيص يومها بالصيام، ولم يثبت في ذلك حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وما لم يثبت فيه دليل فهو بدعة في الدين ومخالف لعمل المسلمين المتمسكين بالسنة التاركين للمحدثات المبتدعة في الدين.

وأما زعمهم أن هذه الليلة تقدر فيها أعمال السنة وأنها المعنية بقوله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ . فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان: 3:4]، فهو زعم باطل،لأن المراد بتلك الليلة ليلة القدر؛ وهي ليلة في رمضان، كما قال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر: 1]، وليلة القدر إنما تكون في شهر رمضان.

وبهذا يُعلم أنه ليس لليلة النصف من شعبان ولا ليومها خصوصية على غيرها من الليالي والأيام، فمن كان معتادًا لقيام الليل في سائر السنة فليقم في تلك الليلة كغيرها من الليال. ومن كان معتاد الصيام أيام البيض من كل شهر فليصم تلك الأيام من شعبان كعادته في شهور العام. وكذلك من كان يصوم الاثنين والخميس من كل أسبوع، وصادف ذلك يوم النصف من شعبان فليصمه على عادته تابعًا لغيره، وهكذا من كان عادته أن يصوم غالب شهر شعبان؛ كما روى مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: «ولم أره صائما من شهر قط أكثر من صيامه في شعبان» [صحيح مسلم: 1156]، عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: قلت يا رسول الله: لم أرك تصوم من شهر من الشهور ما تصوم من شعبان ؟ قال صلى الله عليه وسلم: «ذاك شهر تغفل الناس فيه عنه، بين رجب ورمضان، وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين، وأحب أن يرفع عملي وأنا صائم» [صحيح النسائي: 2356].  فمن اقتدى بالنبي صلى الله عليه وسلم وصام غالب شعبان ومر النصف أثناء صيامه فلا بأس. لأنه في هذه الحال صار تابعًا. وإنما الممنوع تخصيصه دون غيره.

عباد الله؛ اعملوا أن فيما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من نوافل الصلوات والصيام غنيمة للمسلم وخير كثير، فلا يجوز للمسلم أن يلتفت لما سوى ذلك من الشذوذات والمبتدعات والمرويات التي لم تثبت، فإن هذا سبيل أهل الزيغ الذين يتبعون المتشابه ويتركون المحكم ويحبون البدع ويميتون السنن. وإنك لتعجب حين ترى حرصَ بعضِ الناس على تتبع الشواذ، وترك الثوابت من العبادات.

فاتقوا الله، واعلموا أن خير الحديث كتاب الله، فتمسكوا به.وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم فاقتدوا به. وشر الأمور محدثاتها فاجتنبوها. فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

  • 7
  • 2
  • 13,988
المقال السابق
[53] التحذير من أذية المسلم
المقال التالي
[55] التحرش بالمرأة

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً