خطب مختارة - [71] الجنة

منذ 2016-03-06

الجنة هي الجزاء العظيم والثواب الجزيل والدار الأبدية التي أعدها الله لأوليائه وأهل طاعته، وهي نعيم كامل لا يشوبه نقص ولا يعكر صفوَه كدر، يقول الله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ} [النحل:30].

 الخطبة الأولى:

أما بعد: فقد خلقنا الله تعالى لعبادته، ومن أراد النعيم الدائم فليغتنم هذه الحياةَ الدنيا بالعمل الصالح، وليغتنم الشباب والصحة والغنى والفراغ بصالح الأعمال، فالواجب أن نعمل في هذه الحياة الدنيا القصيرة، لنسعد في الحياة الآخرة الأبدية، {فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ} [التوبة:38].

وإن الجنة هي الجزاء العظيم والثواب الجزيل والدار الأبدية التي أعدها الله لأوليائه وأهل طاعته، وهي نعيم كامل لا يشوبه نقص ولا يعكر صفوَه كدر، يقول الله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ} [النحل:30].

عباد الله، نقف مع بعض الآيات والأحاديث عن الجنة وما فيها من نعيم، ليزداد شوقنا إلى الجنة، فيكون ذلك حافزًا لنا بإذن الله للعمل بجدٍ بالأعمال التي تقرب منها، والابتعاد عن الأعمال التي تبعد عنها. فالأمر جِدٌّ فالآخرة إما جنة وإما نار. يقول الله تعالى في الحديث القدسي: «أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر» (صحيح البخاري؛ برقم: [4780]).

الجنة عالية ودرجاتها عالية؛ في الحديث عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه: «الجنة مائة درجة؛ ما بين كل درجتين منهما كما بين السماء والأرض، الفردوس أعلاها درجة؛ منها تفجر أنهار الجنة الأربعة؛ ومن فوقها يكون العرش، وإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس» (صحيح الترمذي؛ برقم: [2531])، أعلى هذه الدرجات الوسيلة؛ التي نرجو ونسأل الله بعد كل أذان أن تكون لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم.

وأعلى أهل الجنة منـزلة هم الذين غرس الله كرامتهم بيده وختم عليها فلم ترَ مِثلَها عينٌ ولم تسمع مثلَها أذنٌ ولم يخطرْ على قلب بشر، وأما أدناهم منـزلة فهم من يعطى مثل مُلك مَلك من ملوك الدنيا عشر مرات كما في حديث المغيرة عند مسلم.

ودرجاتها تتفاوت حسبَ إيمانِ أهلِها؛ وإخلاصِهم، وكثرةِ أعمالِهم الصالحة، فقد روى البخاري ومسلم عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم كما ترون الكوكب الدري الغابر في الأفق من المشرق أو المغرب؛ لتفاضل ما بينهم، قالوا: يا رسول الله، منازل الأنبياء لا يبلغُها غيرُهم، قال: بل والذي نفسي بيده، رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين» (صحيح مسلم؛ برقم: [2831]).

وفي الجنة قصورٌ مبنية من الذهب والفضة تَسُرّ الناظرين ويَتَنَعم بها الساكنون، قال صلى الله عليه وسلم عن بنائها: الجنةُ بناؤها «لَبِنَةٌ من فضةٍ، ولَبِنَةٌ من ذهبٍ، ومِلاطُها المسكُ الأذفرُ، وحصباؤها اللؤلؤُ والياقوتُ، وتربتُها الزَّعفرانُ» (صحيح الجامع؛ برقم: [3116])، وعن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ في الجنةِ غُرَفًا يُرَى ظاهِرُها من باطِنِها، وباطِنُها من ظاهِرِها، أعدَّها اللهُ تعالى لِمَنْ أطعمَ الطعامَ، وألانَ الكلامَ، وتابعَ الصِّيامَ، وصلَّى بِالليلِ، والناسُ نِيامٌ» (صحيح الجامع؛ برقم: [2123])، وقال صلى لله عليه وسلم: «إنَّ للمؤمنِ في الجنَّةِ لَخَيمةً من لؤلؤةٍ واحدةٍ مجوَّفةٍ. طولُها ستُّونَ ميلًا. للمؤمِنِ فيها أَهلونَ. يطوفُ عليهمِ المؤمِنُ. فلا يَرى بعضُهم بعضًا» (صحيح مسلم؛ برقم: [2838])، وتراب الجنة المسك والزعفران كما في حديث أنس رضي الله عنه.

وللجنة رائحةٌ عَبِقَةٌ زكيةٌ تملأ جنباتها، وهذه الرائحة يجدها المؤمن من مسافات شاسعة، ففي الحديث أنها توجد من مسيرة أربعين سنة، وفي رواية من مسيرة سبعين سنة. وفي الجنة الحدائقُ والأعناب والنخيل والرمان والفاكهة والسدرُ المنضودُ وغيرُها. وثمر هذا الشجر لا ينقطع، بل أُكُلُها دائم وما له من نفاد، ومن أشجار الجنة شجرةٌ يسير الراكب الجواد المضمر السريع مائةَ عامٍ وما يقطعها كما في حديث أبي سعيد المتفق عليه، ومنها سدرة المنتهى التي رآها  صلى الله عليه وسلم عند معراجه.

وسيقان أشجار الجنة من الذهب كما في حديث أبي هريرة، قال صلى الله عليه وسلم: «ما في الجنة شجرة إلا وساقها من ذهب» (صحيح الترمذي؛ برقم: [2525]). وكثرة أشجار الجنة للمؤمن بإكثاره من ذكر الله. ويأكل ويتفكه أهل الجنة في الجنة، ففيها ما تشتهيه الأنفس من المآكل والمشارب، والطيور والدواب، ويقال لهم: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة:24].

وفي الجنة أنهار متعددة، قال تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى} [محمد:15]. وفي الجنة عُيونٌ عذبةٌ؛ منها عينُ الكافور، وعين التسنيم، وعين السلسبيل، كما وردت بذلك الآيات.

عباد الله، إنَّ فضلات الأكل والشرب في الجنة مسكًا؛ فكيف بطعام وشراب الجنة، قال صلى الله عليه وسلم: «إن أهل الجنة يأكلون فيها ويشربون ولا يتفلون ولا يبولون ولا يتغوطون ولا يمتخطون، قالوا: فما بال الطعام؟! قال: جشاء ورشح كرشح المسك» (صحيح مسلم؛ برقم: [2835]).

ولأهل الجنة في الجنة زوجات عفيفات جميلات، منهن نساء الدنيا، ومنهن الحور العين، فأما نساء الدنيا فزوجة المؤمن في الدنيا زوجته في الآخرة إذا دخلت الجنة، وتكون مع الحور العين؛ وتكون أجملَهن، قال تعالى: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ} [الزخرف:70].

وأما الحور العين فهن حورٌ عينٌ؛ كواعبٌ؛ أبكارٌ؛ عربًا أترابًا؛ كأنهن الياقوت والمرجان، وفي الحديث المتفق عليه قال صلى الله عليه وسلم: «ولِكُلِّ واحدٍ منهم زَوجتانِ، يُرى مخُّ ساقِهِما مِن وراءِ اللَّحمِ، منَ الحُسنِ» (صحيح مسلم؛ برقم: [2834])، وروى البخاري قوله صلى الله عليه وسلم: «ولو أن امرأة من أهل الجنة اطلعت إلى أهل الأرض لأضاءت ما بينهما ولملأته ريحًا، ولنصيفها على رأسها خير من الدنيا وما فيها» (صحيح البخاري؛ برقم: [2796]).

ويعطى المؤمن في الجنة قوةَ مائة رجل، فعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يُعطَى الرَّجُلُ في الجنَّةِ قوَّةَ كذا وكذا مِن النِّساءِ قيل يا رسولَ اللهِ أوَ يُطيقُ ذلكَ قال يُعطَى قوَّةَ مِئةٍ» (المعجم الأوسط: [3/72]). وجَمَالُ أهل الجنة يفوق الخيال، قال صلى الله عليه وسلم: «إنَّ أولَ زُمرَةٍ يَدخُلونَ الجنةَ على صورةِ القمرِ ليلةَ البدرِ، ثم الذين يَلونَهم على أشدِّ كوكبٍ دُرِّيٍّ في السماءِ إضاءةً» (صحيح البخاري؛ برقم: [3327]).

وأخبر صلى الله عليه وسلم «أن يدخل أهل الجنة الجنة جردًا مردًا بيضًا جعادًا مكحلين أبناء ثلاث وثلاثين على خلق آدم ستون ذراعًا في عرض سبع أذرع» (مسند أحمد: [15/74])، وأخبر صلى الله عليه وسلم عن خِلقتهم أنها «على خَلْق رجل واحد؛ على صورة أبيهم آدم، ستون ذراعًا في السماء» (صحيح البخاري؛ برقم: [3327]). وفي الجنة سوق يتمتع أهل الجنة فيها يوم الجمعة؛ ويعودون منه بجمال أشد من جمالهم الأول، كما في حديث أنس رضي الله عنه عند مسلم.

وفي الجنة الألبسة الجميلة الناعمة من الحرير من السندسُ والإستبرقُ، والحلي الغالية من الذهب والفضة واللؤلؤ، والأواني من الذهب والفضة؛ في البخاري من حديث أبي هريرة قال صلى الله عليه وسلم: «وآنيتهم الذهب والفضة، وأمشاطهم الذهب، ومجامرهم الألوة (عود الطيب) ورشحهم المسك» (صحيح مسلم؛ برقم: [2834]).

وثياب أهل الجنة وحليهم لا تبلى ولا تفنى، ففي صحيح مسلم قال صلى الله عليه وسلم: «من يدخل الجنة ينعم ولا يبأس، لا تبلى ثيابه، ولا يفنى شبابه» (صحيح مسلم؛ برقم: [2836]).

اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل.

الخطبة الثانية:

كل الجنة نعيم عظيم لا يَمل منه أهل الجنة، ألا وإنّ أفضل ما يُعطَونه فيها رضوان الله تعالى عليهم، ففي حديث أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة، فيقولون: لبيك ربنا وسعديك والخير كله في يديك، فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى يا رب وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدًا من خلقك؟! فيقول: ألا أعطيكم أكثر من ذلك؟ فيقولون: يا رب، وأيُّ شيء أفضلُ من ذلك؟! فيقول: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدًا» (صحيح مسلم؛ برقم: [2829]).

ألا وإنّ أحب شيء إلى أهل الجنة النظرُ إلى وجه الله الكريم، قال صلى الله عليه وسلم: «إذا دخل أهل الجنةِ الجنةَ، قال يقولُ اللهُ تبارك وتعالى: تريدونَ شيئًا أزيدكُم؟ فيقولونَ: ألم تبيضْ وجوهنا؟ ألم تدخلنا الجنةَ وتنجنا من النار. قال: فيكشِفُ الحجابَ. فما أُعطوا شيئا أحبَّ إليهِم من النظرِ إلى ربّهم عز وجلَّ» (صحيح مسلم؛ برقم: [181]).

إخوة الإيمان، إنّ من دخل الجنة لم يخرج منها، بل يخلد فيها أبد الآباد، قال تعالى: {ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ} [ق:34]، وأخبر صلى الله عليه وسلم أنه: ينادي منادٍ لأهل الجنة: «إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبدا، وإن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبدا، وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبدا، وإن لكم تنعموا فلا تبأسوا أبدا، ثم قرأ: {ونودوا أَنْ تِلْكُمْ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (الأعراف:43)» (صحيح مسلم؛ برقم: [2837]). 

اللهم إنا نسألك رضاك والجنة، ونعوذ بك من سخطك والنار، اللهم إنا نسألك الفردوس الأعلى، اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة، ونسألك كلمة الحق في الغضب والرضا، ونسألك القصد في الفقر والغنى، ونسألك نعيمًا لا ينفد، ونسألك قرة عين لا تنقطع، ونسألك الرضا بعد القضاء، ونسألك برد العيش بعد الموت، ونسألك لذة النظر إلى وجهك؛ والشوق إلى لقائك؛ في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة، اللهم زينا بزينة الإيمان واجعلنا هداة مهتدين.

  • 19
  • 3
  • 19,967
المقال السابق
[70] التوكل
المقال التالي
[72] الجنة والنار

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً