ذا فويس كيدز، الجاهلية المنظمة!

منذ 2016-03-11

العجيب؛ حين تجد مَنْ يعمل عملاً غير مصبوغ بصبغة الإسلام ينتهج نهج الاحترافية، والذي يعمل على نشر القيم والدين والإسلام متخلٍّ عنها -أي: عن الاحترافية-!

لم يعد الحديث عن الاحترافية في العمل الإسلامي -عامةً- ضربًا من ضروب الترف أو العبث؛ فتَجَدُّد الظروف وزيادة التحديات وتطور الحياة بشكل مخيف؛ جعل الاحترافية في العمل الإسلامي في كل المجالات سواءٌ في (الدعوة، أو الإعلام، أو السياسة، …) أمرًا محتمًا بعيدًا عن العشوائية والمزاجية والوساطة والدروشة!

وقد حثنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على الاحترافية، وجعلها لنا معيارًا في العمل؛ إذ قال: «إن الله يحب إذا عمل أحدُكم عملاً أن يتقنه»؛ فهي صفة لا بد من وجودها في الشخصية المسلمة؛ لتنطبع على العمل؛ ليخرج له أثر على الفئة المستهدَفة، وبشكل قادر على المنافسة، وغالب للتحديات الموجودة.

وقد طرأت عليَّ تلك الخاطرة عندما كنت أتابع -مع ابنتي- قنوات الأطفال المحسوبة على التيار الإسلامي، وصادفتُ برنامجًا لاكتشاف الأصوات الحسنة؛ وهو عبارة عن مواسم يشترك فيها الأطفال للمنافسة على أجمل صوت، إلى هنا الفكرة جيدة، ولكن إذا تعمقتَ في التفاصيل؛ فستجد الجرح المتكرر في أغلب أعمال التيار الإسلامي؛ وهو غياب الاحترافية؛ فلجنة التحكيم عبارة عن (صاحب القناة) وبعض العاملين فيها من مذيعين أو منشدين غير مختصين في السماع والأصوات؛ فطريقة دخول الأطفال ومشاركتهم قريبة بطريقة الاختبارات الشفوية في المدارس بكل ما تحمله الكلمة من معنى، وأصوات المشاركين غير منتقاة قبل الخروج إلى الشاشة، كأنها مسابقة للنشاز، وبالكاد تجد صوتًا عذبًا! وأضف إلى ما سبق؛ شكل الأستوديو، وطريقة التصوير الرديئة إذا قورنت بغيرها من المسابقات.

وعلى الجانب الآخر؛ تابعتُ حلقة من برنامج (ذا فويس كيدز) الذي تذيعه قناة (mbc)، وهو مسابقة -أيضًا- بين الأطفال لاختيار الأصوات الحسنة -بغض النظر عن المضمون والـحُكام وفعلهم-؛ فالاحترافية تحيط بالعمل من كل جوانبه؛ بدايةً من طريقة دخول الطفل المسرح، ولقطات تصوير من داخل الكواليس لانطباع أهله، إلى طريقة اختيار الـحُكام للأصوات عن طريق كَرَاسٍ متحركة، تتحرك بالعكس ليكون في وجه الطفل عندما يستحسن صوته، وأيضًا التحكم في الإضاءات، وشكل الأستوديو، وتفاعل الجماهير، وأضف إلى ذلك؛ الاستعانة بأهل الخبرة في المجال من مغنين ومشاهير؛ لجذب المشاهدين إلى البرنامج، ولم يكتفوا بذلك فحسب، بل أبدعوا في طريقة منافسة الأطفال في التصفيات.

لم يكـن كلامي عن (ذا فويس كيدز) مـن باب مدح مضمونه أو حُكامه أو الـقائمين عليه -أعاذنا الله وأولادنا من مشاهدة هذه البرامج أو المشاركة فيها-، وإنما الشاهد هو؛ المقارنة بين منتج منتمٍ للتيار الإسلامي وغيره من حيث الاحترافية والإبداع والإتقان.

والعجيب؛ حين تجد مَنْ يعمل عملاً غير مصبوغ بصبغة الإسلام ينتهج نهج الاحترافية، والذي يعمل على نشر القيم والدين والإسلام متخلٍّ عنها -أي: عن الاحترافية-!

وعلى سبيل المثال -أيضًا-؛ اشتركتُ يومًا في عمل مجتمعي -غير مصبوغ بصبغة إسلامية-، وكان نموذج محاكاة لهيئة من الهيئات العالمية، وفوجئتُ ببراعة التنظيم والاحترافية عند الشباب المنظِّم للعمل، وحرصهم على تقديم العمل في أتم صورة! وقارنت بين إدارة هذا العمل وإدارة الأعمال الشبابية الدعوية التي شاركتُ فيها من قبل؛ فلاحظتُ بَوْنًا شاسعًا من ناحية الإتقان والاحترافية في الإدارة، بينما الشباب في النموذج الأول -غير المصبوغ بصبغة إسلامية- كانوا يقسمون العمل إلى لجان، وكل لجنة تختص بمهام، واستعانوا بأهل التخصص في كل مجال. وللأسف؛ كانت أغلب المشاريع الشبابية المحسوبة على التيار الإسلامي التي شاركتُ فيها؛ تعاني من العشوائية والتخبط وعدم المواكبة، بشكل ينفر الفئة المستهدَفة!

فغياب الاحترافية جرح له قيح على أغلب الأعمال الإسلامية؛ ودعنا نطرح بعض الحلول للتخلص منه:

1- إسناد الأمر لأهله: تأمل طلب (بني اسرائيل) حينما قالوا لنبي لهم: {ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [البقرة من الآية: 246]، فلماذا لم يطلب بنو إسرائيل من نبيهم أن يقود هو المعركة بنفسه؟! ولماذا لم يتقدم نبيهم ليقودهم وينصب نفسه قائدًا حربيًّا حينما  طلبوا؟! تجد الإجابة عن هذه الأسئلة في قوله تعالى -على لسان نبيهم-: {إنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} [البقرة من الآية: 247]؛ فالله -عز وجل- اختاره كونه أعلمهم وأقواهم. وللأسف؛ أغلب العمل الإسلامي غير خاضع لهذا المبدأ، ويعاني من التخبط والعشوائية، وعدم احترام التخصص، وتولية أهل الثقة وأهل السمت وتقديمهم على أهل الكفاءة وأصحاب الخبرة. وقد قدم الله الكفاءة على الثقة في القرآن في قوله: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأمِين} [القصص من الآية: 26]؛ فجاءت القوة بمعنى الكفاءة، والأمانة بمعنى الثقة. واختار الله الكفاءة وجعلها المعيار الأول، وتبعها بالثقة التي تزين عملية الاختيار؛ ليكون مثاليًّا ، ولقد شَهِدتُّ -بنفْسي- عدة أشخاص من التيار الإسلامي قائمين على بعض المشاريع الإعلامية؛ لا يستطيعون صياغة خطاب أو خبر أو تقرير! مؤهله الوحيد في التعيين كان ثقة الممول ليس إلا! ألم يسمع هؤلاء قول الله عز وجل: {لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف:2]، أم عَمُوا عنها؟! كما أن العمل الإسلامي مقيد بضوابط الشريعة، على العكس في الأعمال غير الإسلامية، وهو تحدٍّ كبيرٌ يزيد من تمسكنا بشرط الكفاءة في إسناد الأمور لأهلها.

2- التطوير المستمر: من ضمن الاحترافية في العمل؛ مواجهة التحديات التي تطرأ على الواقع والتغلب عليها، وتكييف رسالتنا مع التغيرات دون الإخلال بالثوابت، ودون الإخلال بجذب الفئة المستهدفة؛ فمن المأساة أن تجد جلسة في المسجد بعنوان (لقاء الشباب)، تُعقَد من السبعينيات، ومستمرة إلى الآن بالاسم نفسه والمضمون! والغريب؛ أنك تجد اندهاشًا من القائمين عليها بسبب عزوف الشباب عن تلك اللقاءات.

وأثناء حديثنا عن تلك اللقاءات الدعوية التقليدية؛ دعونا ننظر إلى الصعيد الآخر؛ حيث المشاريع التي جذبت آلاف الشباب بسبب مواكبة مضمونها وأسلوبها للتغير الطارئ في الواقع، وفي الوقت الذي يجلس الشيخ على مكتب في أستوديو للوعظ أو تعليم الناس، تجد في الوقت نفسه على الصعيد الآخر مَنْ طوّر أسلوبه، وطريقة عرضه، ومضمون كلامه؛ ليجتذب الناس أكثر من الشيخ! وقد حاولتُ في مرة من المرات عدّ المشاركين في إعداد برنامج ساخر -وكان ممن يستهدف التيار الإسلامي بسخريته-؛ فكانت المفاجأة أن تجاوز عددهم الثلاثين فردًا! وعلى ضفتنا المِسْكِينة هذه لا تُذكَر كلمة (الإعداد) من الأصل في أي برنامج!

فالمطلوب هو؛ إدارة المضمون بشكل احترافي؛ ليتكيف العمل الإسلامي على مستوى المضمون والأسلوب؛ ليتناسب مع الشريحة المتلقية وتأهيله لكسب التحدي أمام الكَمّ الهائل الذي يتلاقاه الجمهور عبر الوسائل الأخرى، فلا يصلح بأي شكل من الأشكال أن تظهر مؤتمرات مناقشة الأفكار، ونماذج المحاكاة، والصالونات الثقافية، ونحن لا نطور من عملنا.

فلا بد من تطوير ذوي الاختصاص في مجالاتهم؛ بالتدريب المستمر، والدراسة، والاطلاع على التجارب الأخرى والاستفادة منها، وتدوين التجارب للاستفادة من السلبيات والإيجابيات، ولا مانع من عقد جلسات للعصف الذهني؛ للتطوير المستمر، ودراسة علوم الإدارة والتخطيط للاستفادة منها.

3- إلغاء المحسوبية: يقول الله عز وجل: {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا} [النساء:85]؛ فقد حث القرآن الكريم على نفع الناس ودفعهم للتيسير على العباد، وهذه سميت شفاعة حسنة، حضّ عليها الشارع، وهو ما كان لوجه الله، وكان من باب الإرفاق، ولم يكن فيه حرمان مَن هو أولى وأحق من جهة الكفاءة. أما الشفاعة السيئة؛ فهي الشفاعة في حدود الله أو إعطائه ما ليس حقه، أو هضم حق.

فالمحسوبية وتفضيل المعارف والثقات على الأكفاء من العوامل الرئيسة في غياب الاحترافية؛ لأن الغالب فيها تولية العمل لغير الأكفاء؛ مما يؤثر على جودة العمل، والمحسوبية هي الوجه الآخر  لتولية الأمر لغير أهله، وقد أفردتُّ لها عنصرًا خاصًّا لكثرة تواجدها داخل العمل الإسلامي بشكل مرعب!

فكل منا يحب الخير لأهله ولمعارفه، ولكن حب العمل للدين يجب أن يفوق ذلك الحب، ولنا أسوة في رسول الله صلى الله عليه وسلم حين طلب منه أبو ذَرّ رضي الله عنه الاستعمال، والاستعمال الذي قصده أبو ذَرّ هو؛ أن يجعله عاملاً، واليًا، حاكمًا، موظفًا كبيرًا، رجل مسئولية؛ فقال أبو ذَرّ: قلتُ: "يا رسول الله، ألا تستعملني؟" قال: فضرب بيده على منكبي -تحببًا، وترفقًا، وتلطفًا- ثم قال: «يا أبا ذَرّ، إنك ضعيف -أي: القيادة تحتاج إلى خصائص- وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها، وأدى الذي عليه فيها»؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم بالرغم من حبه لأبي ذَرّ ومدحه؛ لم يوله مهمة يرى أنه غير كفء لها؛ فعن  عبد الله بن عمرٍو رضي الله عنهما  قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما أقَلّت الغبراء، ولا أظَلّت الخضراء، من رجل أصدق لهجة من أبي ذَرّ».

فلو اجتمعت القرابة والمعرفة مع الكفاءة؛ فبها ونعمت، أما أن يكون غير كفء ونعتمد في تولية الأمر لمجرد المعرفة أو القرابة؛ فإننا بذلك نجني جناية عظيمة على العمل؛ لتولية غير الأكفاء في تلك الأماكن التي من المفترض أن يقوم بها من هو أحق.

4- صناعة الكوادر: من إحدى الوسائل الناجحة لتوفير الاحترافية في العمل الإسلامي هي (صناعة الكوادر)؛ فالشركات التي تبغي (الربح الدنيوي) تتسابق لحيازة العامل الماهر الناجح في مجاله، و تعرض عليه الحوافز والمكافآت، بل تساعده في دراسته وحضور دورات في مجاله؛ من أجل كسب ولائه لمكان العمل، وخروج العمل على أفضل صورة. فحريّ بالكيانات الإسلامية ذات (الربح الأخروي) والأهداف السامية أن تهتم بصناعة الكوادر، ودعمهم بكل ما يريدون من إمكانات للوصول بالعمل إلى أقصى جودة.

ومن طرف آخر في جانب الكادر؛ أن يُسخّر كل طاقته وكل ما استفاده من دراسة ودعم لخدمة الثغر الواقف عليه، ولا يُسخّر ما حصّله لخدمة أغراض دنيوية فحَسْب، وقد حذّر الأستاذ (محمد الراشد) في كتابه (المسار) من تلك الفئة وقال: "قد تصير الدعوة متجرًا لأبناء الدنيا، يلزمها أحياناً، حتى إذا صار موظفًا كبيرًا، أو أستاذًا جامعيًّا، أو اختصاصيًّا خبيرًا؛ تركها، وانفرد يبني مستقبله".

فاعقدوا -أيها الإخوة- العزم على الوفاء لهذه الدعوة المباركة، واجعلوا الشهادة العالية أو التجارة أو المنصب في خدمة الدعوة لا الصّيت.

والخلاصة: أننا -في هذه الدنيا- في صراع عَقَدي بامتياز، فوجب الحرص على جودة قنواتنا ووسائلنا التي نجتذب بها الناس إلى معسكرنا؛ لأننا إن قصرنا ذهبوا للمعسكرات الأخرى، وقد صدق الأستاذ سيد قطب رحمه الله حين قال: "إن الجاهلية المنظمة، لا يهزمها إلا إسلام منظم"؛ فالوسائل الجاهلية المحترفة لا تهزمها إلا وسائل إسلامية ذات جودة عالية ومحترفة.

المصدر: البلكونة (مدونة الكاتب عبدالرحمن ضاحي)

عبد الرحمن ضاحي

كاتب إسلامي مصري

  • 16
  • 0
  • 10,832

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً