خطب مختارة - [89] الدين النصيحة

منذ 2016-03-15

إنّ مِن فضل الله على عباده أن وضَع لهم مع نُصحِ الناصحين دلائلَ وأسبابًا تعِظُ النفسَ وتُحيِي القلب، فالقرآنُ والسنّة منبعا النصح والموعظة.

الخطبة الأولى:

أمّا بَعد: فاتَّقوا الله - عِبادَ الله - حَقَّ التّقوَى، واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى، وتزودوا بالأعمال الصالحة فإن أجسامكم على النار لا تقوى.

إخوة الإسلام، لقد بَصَّر الله عِبادَه بالحقّ، ويسَّر لهم سُلُوكه، وأمَر مَن يُعينهم عليه من ناصح وصُحبةٍ صَالحةٍ، فالمسلمُ إن رأى في أخيه قصورًا أو خَللاً وجبَ عليه أن يعينه على إصلاحِه، يفعلُ ذلك من منطلق إيمانه وإسلامه، إذِ النصيحة أصل الدين، قال عليه الصلاة والسلام: «الدين النصيحة» [صحيح مسلم: 55]. قال الإمام النووي رحمه الله: مَدارُ الدّين على حديث: الدين النصيحة.

والنصيحة دأْبُ الأنبياء والمرسَلين، قال نوحٌ عليه السلام لقومه: {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ} [الأعراف: 62]، وقال هود عليه السلام: {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَاْ لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِين} [الأعراف: 68]، وقال صالحٌ عليه السلام: {يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ} [الأعراف: 79]، وقال شعيبٌ عليه السلام: {يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ} [الأعراف: 93]. وبعث الله موسى لتذكيرِ الناس ونصحهم وإنذارهم، قال عزّ وجلّ: {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِن رَّحْمَةً مِّن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُون} [القصص: 46].

ومن أخصِّ صفاتِ نبيِّنا محمّد صلى الله عليه وسلم أنّه مُذكِّر ناصح، قال الله تعالى: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّر} [الغاشية: 21]. قال عليٌّ رضي الله عنه: "كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يخطُبُنا فيُذكِّرُنا بأيام الله". وهي من عباداتِ الصالحين، قال سُبحانه: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيم} [لقمان: 13].

وامتَثَلها الصحابةُ  في حَياتهم، فكان عمر رضي الله عنه يقول لأبي موسى رضي الله عنه: ذكِّرنا ربَّنا، فيقرأ عنده القرآن. وكان ابن مسعودٍ رضي الله عنه يقول: "أتخوَّلُكم بالموعظة كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخوَّلنا بها"

واشترَط النبيُّ صلى الله عليه وسلم على من أسلَمَ مِن الصحابةِ فعلَ هذه العِبادة، وهذا يعني أنَّ النصيحة من الحقوق الواجبة بين المسلمين، قال جريرٌ رضي الله عنه: "بايَعتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم على الإسلام، فاشتَرط عليَّ النصحَ لكلِّ مسلم".

وإنَّ من خصالِ الإيمان الواجبة حبُّ الخير للمسلمين، والخوفُ عليهم من السيِّئات والعقوباتِ، قال عليه الصلاة والسلام: «لا يؤمِن أحدُكم حتى يُحبَّ لأخيه ما يحبُّ لنفسه» [صحيح البخاري: 13]. قال الإمام الذهبيّ رحمه الله: "من لم ينصَح لله وللأئمّة وللعامّة كان ناقصَ الدين".

إخوة الإسلام، إنّ النصيحة تُصلِح المجتمعَ، وتَجلِبُ له الأُلفة، وتُبعِدُ عنه الغِيبة، وهي من الأعمالِ الدالّة على صفاء السّريرة، قال الفضيل رحمه الله: "ما أدرَك عندَنا من أدرَك بكثرةِ الصلاة والصيام، وإنما أدرَك عندَنا بسخاءِ الأنفس وسلامةِ الصدور والنصح للأمّة، وأنصحُ الناس لك من خاف الله فيك".

وكان السلفُ يحبُّون من يُبصِّرهم بعيُوبهم، قال مِسعَرُ بن كِدام رحمه الله: "رحِم الله من أهدَى إليَّ عُيوبي في سرٍّ بيني وبينه". ولا غنى لأحدٍ عن التذكير، فإن كان المنصوحُ ذا خيرٍ عمَّ خيرُهُ. أشارَ عمر رضي الله عليه وسلم على أبي بكرٍ رضي الله عنه بجمعِ القرآن، فجمَعَه فانتفعت الأمة برأيه.

وقال رجلٌ في مجلسٍ فيه الإمامُ البخاريّ: لو جَمعتُم كتابًا مختصرًا لسنَن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال البخاري: فوقَع ذلك في قلبي، فأخذتُ في جمع الصحيح. فكان كتاب صحيح البخاري غُرَّةً في جبين الزّمان. وجمع الإمام مسلمٌ صحيحَه بطلبٍ من غيره، فصار نفعُهُ في الآفاق.

والغافِل أيضًا يحتاج إلى نُصح الناصح، دُعِي عمرُ بن الخطاب رضي الله عنه إلى الإسلامِ، فكان فاروقَ هذه الأمة. وأبو بكرٍ رضي الله عنه دعا عثمانَ بن عفان وعبدَ الرحمنِ بنَ عوف وطلحةَ وأبا عبيدة والزبير إلى الدين، فكانوا من العشرة المُبشَّرين بالجنة.

قال صلى الله عليه وسلم: «الدين النصيحة، قلنا: لمن؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم» [صحيح مسلم: 55]، فالنصيحةُ واجبةٌ على كلِّ مسلم، فينصَح لنفسِه ولغيره بطاعة الله والبُعدِ عن معاصيه وتحقيق التوحيد الخالص له، ولكتاب ربِّه بتعلُّمه وتعليمه وفهمه والعمل به، ولرسولِه بامتثال أوامره وعدم الابتِداع في الشريعة، ونشر سنته، وينصح لأئمَّة المسلمين بإعانتهم على الحقِّ وتذكيرهم به والدّعاء لهم، وينصح لعامّة المسلمين بجلب الخير لهم ودعوتهم إليه، ودَرء الشر عنهم وتحذيرهم منه.

والله أمر بالنصح حتى مع من علا وطغَى، قال الله لموسى وهارون: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} [طه: 43]، وأمر الله رسولَه عليه الصلاة والسلام أن يَعِظ المنافقين، فقال: {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغًا} [النساء: 63].

والنصح للكبار والصغار، قال النبي صلى الله عليه وسلم ناصحًا لابن عباس وهو صغير: «يا غلام، احفَظِ الله يحفظك» [تخريج مشكاة المصابيح: 5232]، وقال للجاريةِ الصغيرة: ((أين الله؟)) قالت: في السماء. رواه مسلم.

ومن نصَح وجَب عليه أن يبذَل غايةَ النّصح للمنصوح، وأن يَعدِل في قولِه ولفظه، والحياءُ لا يمنعُ من النصيحة. وتكون بأحسنِ الألفاظ وأحكمِها، قال جلّ شأنه: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل: 125]، وتكون بالقولِ اللّيّن، قال عز وجل: {فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 44]. وتكون في حال سرٍّ بينك وبين من تَنصحه، قال ابن رجبٍ رحمه الله: "كان السّلَف إذا أرادوا نصيحةَ أحدٍ وعظوه سرًّا".

وإن رُدَّ قول الناصِح فلا يحزَن، فقد أدَّى عبادةً، فليرجُ قبولها عند الله، وليس أحدٌ من الناس لا تُرجَى هِدايَتُه، قال سبحانه مخاطبا نبيه صلى الله عليه وسلم: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى} [عبس: 3، 4].

ومن قام بالنصيحة وتجرَّد لله وبذَل جهدَه فيها بالصّدق مع الله فحَقُّه الإكرام والدعاء والثناء، قال الحسن البصري رحمه الله: "مَا زال للهِ نُصحاءُ ينصَحون لله في عبادِه، وينصحون لعبادِ الله في حقِّ الله، ويعمَلون لله في الأرضِ بالنّصيحة، أولئك خُلفاءُ الله في الأرض". ومن أعرضَ عن نصيحةٍ سديدة قُدِّمَت لَه ندِمَ، ومن أسباب سعادةِ المجتمَع حُبُّ النصيحة والعمل بها؛ وانتشارُ النصح؛ ومحبة الناصحين. قال تعالى: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَاب} [المائدة: 2].

بارَك الله لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونفَعني الله وإيّاكم بما فيه منَ الآيات والذكرِ الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كلِّ ذنب، فاستغفروه إنّه هو الغفورُ الرحيم.

الخطبة الثانية:

عباد الله، إنّ مِن فضل الله على عباده أن وضَع لهم مع نُصحِ الناصحين دلائلَ وأسبابًا تعِظُ النفسَ وتُحيِي القلب، فالقرآنُ والسنّة منبعا النصح والموعظة، قال عزّ وجلّ: {وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِه} [البقرة: 231]. والتفكُّر في خلق الله وآياته الكونية يُعظِّمُ الخالقَ، قال عزّ وجلّ: {وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُون} [البقرة: 221]. واستشعار نِعم الله يجلبُ الحياءَ من الله ويباعِد عن المعاصي، قال الله لموسى عليه السلام: {أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللّهِ} [إبراهيم: 5].

ومما يعظ الإنسان به نفسه تذكر الموت والرحيل من هذه الدنيا، قال صلى الله عليه وسلم: «أكثروا من ذكر هادم اللذات» [صحيح الترغيب: 3334]، وزيارَة الرّجال للمقابرِ فيها الموعظة، قال صلى الله عليه وسلم: «زوروا القبور؛ فإنها تُذكِّر الموت» [صحيح مسلم: 976]. وفي رواية: ( تذكركم الآخرة ) رواه ابن ماجه.

والابتلاءاتُ نَذيرُ عودةٍ إلى الله، قال تعالى: {فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُم بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا} [الأنعام: 43]، وقال جلّ شأنه: { أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُون} [التوبة: 126].

فواجبٌ علينا أن ننتصح بالقرآن والسنة وأيام الله ونعَمِه ونُذُرِه، وأن نصغَى لنصيحة الناصح وتذكير المُذكِّر، وأن نُقابلَ ذلك بالقبول، حتى وإن لم يوفق الناصح للأسلوب الأفضل.

اللهم اجعلنا من الناصحين الموفقين، واجعلنا من المحبين للناصحين. اللهم اجعلنا من الناصحين لك ولكتابك ولنبيك ولأئمة المسلمين وعامتهم. اللهم احفظ ووفق الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر. اللهم وفقنا وولاة أمرنا أن نكون لهم ناصحين؛ وأن يكونوا لنا ناصحين. اللهم أرنا الحق حقًا؛ وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلًا وارزقنا اجتنابه.

  • 43
  • 6
  • 64,853
المقال السابق
[88] الدنيا عرض زائل
المقال التالي
[90] الذكر

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً