إعجاز القرآن الكريم - [3] الإعجاز التصويري في: {وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ}
نطوي فترة زمنية لا تكون طويلةً عادة في قصة يوسف -عليه السلام- مع امرأة العزيز؛ إذ إن هذا النوع من القصص تكرر معظم فصوله في حياة الناس بأشكال مختلفة، فلنطو الأحداث السابقة لنصل إلى أحد مشاهد الابتلاء العظيم الذي يقابل الشباب ليأخذهم إلى المتاب أو إلى الدمار والتباب، فالتعبير القرآني ينقل لنا الأحداث كأنها أمام الأعين فنجد امرأة العزيز قد افتضحت وظهر مدى لعبها الشهواني.
إشاعات مجتمع الطبقات المترفة، وفتنة المغامرات العابثة القاذفة
نطوي فترة زمنية لا تكون طويلةً عادة في قصة يوسف -عليه السلام- مع امرأة العزيز؛ إذ إن هذا النوع من القصص تكرر معظم فصوله في حياة الناس بأشكال مختلفة، فلنطو الأحداث السابقة لنصل إلى أحد مشاهد الابتلاء العظيم الذي يقابل الشباب ليأخذهم إلى المتاب أو إلى الدمار والتباب، فالتعبير القرآني ينقل لنا الأحداث كأنها أمام الأعين فنجد امرأة العزيز قد افتضحت وظهر مدى لعبها الشهواني.
إنها تنتمي إلى مجتمع مترف مستكين يقضي وقته في ابتكار الأحاديث الإعلامية عن ثقافة الفضائح وإشاعة الفاحشة، التي منها ما ينتمي لحقائق ينبغي سترها، ومنها ما هو رجم بالغيب، وقذف بالتهم والشكوك والريب، وهو مجتمع يحب اللهو والعبث، بينما لا يؤرقه ضياع الحقوق ولا سجن الأبرياء ولا تعاسة الفقراء، وهذا النوع في المجتمع بريء في ظاهره، مجرم في باطنه، إذا تكلم باستنكار واستهجان عن الجرائم الأخلاقية إنما يتكلم ليبتكر أساليب جديدة في العبث الحيواني الرخيص، تجعله يصطاد البراء والطاهرين ليوقعهم في شباكه.
والذي حدث -كعادة مثل هذه الأحداث- نقل الخبر في بيوت المتصلين ببيت العزِيزِ، وقيل: إن امرأة العزيز باحت بالسر لبعض خلائلهَا، فأفشينه، كأنهَا أرادت التشاور معهن، أو أرادت الارتياح بالحديث إليهن (ومن أحب شيئا أكثر من ذكرِه)، أو أرادت البحث عن مكرٍ أدهى مما صنعته، ولم لا، ووقتها فراغ لا تملؤه الأهداف السامية، ولا الخلائق المغيثة الصافية، ولا الأفكار التي تنمي الفضيلة، ولا الأعمال التي تزيد المجتمع نقاء وتقدماً وعافية.
فبدأ البث الإعلامي التحليلي المستنكرُ ظاهراً، المتلهف باطناً من قبل العقول الفارغة للمجتمع المترف {وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ ۖ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا} [يوسف من الآية:30]، لقد انتشر الخبر في المجتمع، وصار مادة دسمة بين الجهات المختلفة، خاصة تلك التي لا شغل لها إلا اختراع مغامرات المراهقة في الطبقات المترفة.. انتشر الخبر، فتحدث النساء بأمر يوسف وأمر امرأة العزيز في بقاع هذه المدينة من مصر، وشاع من أمرهما فيها ما كان، فلم ينكتم، وقلن: {امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ ۖ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا} [يوسف من الآية:30]، وانظر هنا لدقة التعبير وما يخفيه من مكر كل طرف حسير: وصفن المرأة المتكَلم عنها بأنها {امْرَأَتُ الْعَزِيزِ} لم يسمينها باسمها، بل بالإضافة إلى زوجها إرادة لإشاعة الخبر؛ لأن النفس إلى سماع أخبار ذوي المكانات أميل، ولإظهار زيادة الاستنكار حيث إن هذه المذكورة هي امرأة عزيز مصر، والعزيز: المنيع بقدرته من أن يضام، فالعزة أخص من مطلق القدرة. وقلن: {تُرَاوِدُ} بالمضارع دلالةً على استمرارها، ولم يقلن: راودت، فهن يتفكهن بشعورهن أن الأمر ما زال يتكرر.
وحكى الله تعالى عنهن أنهن قلن: {فَتَاهَا} تهكماً منهن لتفاوت سنها وسنه، فعلى الرغم من أنها أكبر منه إلا أنه ما زالت تصر على مراودة فتى أصغر منها، هو بمنزلة خادمها. ثم حكى الله تعالى عنهن أنهن قيدن المراودة له بأنها {عَنْ نَفْسِهِ} وهو تحديد شديد لمرادها ثم لفضولهن وتلهفهن، فهن يردن أن يرين هذا الجسد الذي شغل عقلها وقلبها فشغل عقولهن وقلوبهن.
إذن فقول الله تعالى حكاية عنهن: {امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ} هو تعَجب وإنكار صورِي من جهات أربع:
الجهة الأولى: كون المتحدَّث عنها امرأة عَزِيزِ مصر، وزِير الملك الأكبر في علو مركزها.
الجهة الثانية: كونها تهين نفسها وتحقر مركزها بأن تكون مُرَاوِدَة لرجل عن نفسه، وشأن مثلهَا -إن سخت بعفتها- أن تكون مُرَاوَدَة عن نفسها، لا مُرَاوِدة لغيرها.
الجهة الثالثة: أن الذي تراوده عن نفسه هو فتاها ورقيقها.
الجهة الرابعة: أنهَا بعد أن افتضح أمرها، وعرف به سيدها وزوجها، وعاملها بالحلم، وأمرها باستغفارِ ربها، لا تزال مصرة على ذنبِهَا، مستمرةً على مراودتها، وهو ما أفاده قَولهن: (تراود) وهو فعل مضارِع يدل على أمرين:
الأول: الاستحضار لتلك الحالَة العجيبة؛ لقصد الإنكار عليهَا في أنفسهن، ولوْمها على صنيعهَا ظاهريًّا، مع أن السياق يدل على شدة شوقهن لرؤية الواقعة، والمشاركة في تلك المصيبة الباقعة.
الثاني: مما يفيده الفعل المضارع: الإعلام بأنها مستمرةٌ في غيها، ماضية في تحقيق مرادها، قد تحكمت شهوتها بها.
بشاعة ثياب المزورين، وشناعة كذب الشهوانيين
أيتها الكاذبات: ما هذه اللهجة المستنكرة؟!! هل هو استنكار، أم تلهفٌ ومتابعةٌ للأخبار؟ أم هي رغبة في المعاينة وكشف مزيد من الأسرار؟ أم هي شهوة عارمة لهتك الأستار؟ إنه "الاستنكار الذي تبدو فيه غيرة النسوة من امرأة العزيز أكثر مما يبدو فيه استنكار الفعلة!"، وقد بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبح منظر هؤلاء المتشبعين بما لم يعطوا، حيث يكون منهم من يزعمون الإنكار، وهم يريدون المشاركة في أفعال الفجار، فقال صلى الله عليه وآله وسلم فيما يرويه البخاري: « »، وقد قال الرافعي: "الرذيلة الصريحة رذيلة، ولكن الفضيلة الكاذبة رذيلتان".
ولعل إضافة هذه الفئة من المجتمع إلى المدينة بينما أضاف الأمر عند ذكر مجيء أخوة يوسف إلى القرية؛ ليدل على شيوع الانحلال المدني، إن لم يقم على نور من الله، وهدى من شرعه ورضاه، وفي حالة طلب إخوة يوسف عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام أن يسأل أهل القرية لدلالة القرية على الصدق والبساطة، وهم أرادوا بطلبهم أن يظهر صدقهم، على عكس الإضافة إلى المدينة، حيث تظهر الآثار القاتلة للترف والعبث.
ثم اسمع حديثهن: قلن {قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا} [يوسف من الآية:30] فهن يذكرن أن حب الفتى لم يعد في مقدور هذه المرأة دفعه، فقد وصل شغاف قلبها، فدخل تحته، حتى غلب على قلبها، فلا تحكم لها بها. أهذا الذي يذكرنه رثاء لها، أم نقد وذم لحالها؟، فـ"شغاف القلب": هو حجابه وغلافه الذي هو فيه، فعن الضحاك قال في معنى كلامهن: هو الحب اللازق بالقلب، فانظر لهذا التعبير العجيب في تغلغل حبه في قلبها. فالشغاف جلدة محِيطَة بالقلب يقال لها غلاف القلب، أو هو -كما يقول الزجاج- حبة القلب وسويداء القلب، فَقَوْلهن: {شَغَفَها حُبًّا} أي: دخل الحب الجلد حتى أصاب القلب، دلالة على تمكنه منها، وتحكمه بها، أو اخترق حبه شغاف قَلْبِهَا، أي: غلافه المحيط به، وغاص في سويدائه، فملك علَيها أمرها، حتى إنها لا تبالي ما يكون من عاقبة تهَتكهَا، وَاللَّائق بمقَامهَا الْكتمان ومكابرة الوِجدان.
المعنى الثاني لهذه الجملة التصويرية لحالة المرأة: أن حبه أحاط بقلبها، مثل إحاطة الشغاف بالقلب، ومعنى إحاطة ذلك الحب بقلبها هو أن اشتغالَها بحبه صار حجاباً بينها وبين كل ما سوى هذه المحبة، فلا تعقل سواه، ولا يخطر ببالهَا إلا إياه، أو وصل حبه إلى سويداء قلبها، فهذا تعبير عن الحب الشديد، والعشق العظيم حتى أهلكها حباً، وهو غمز من جهة، والتماس عذر لغاية خبيثة من جهة أخرى، وحالهن في كلامهن الذي تصوره العبارة القرآنية تصويراً عجيباً كقول مجنون ليلى:
أرى سقما في الجسم أصبح ثاوياً وحزناً طويلاً رائحاً ثم غاديا
ونادى منادي الحب أين أسيرنا؟ لعلك ما تزداد إلا تمادِيا
ثم أصدر نساء المجتمع المنحل المترف حكمهن، الذي يظهره السياق القرآني حاملاً لغريزة الفضول والاستطلاع واللقاء بأبطال الخبر أكثر مما يدل على الصدق والتنديد في التحليل {إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [يوسف من الآية:30]، َأي: إنا لَنراها بأعين بصائرنا، وحكم رأينا غائصة في غمرة من الضلال البين الظاهر البعيد عن محجة الهدى والصواب لرضاها لنفسها بعد عز السيادة بالسفول إلى درك الخيانةِ للزوجية، ورذالة الإهانة بمعاقرة الشهوة المحرمة، والضلال هنا: مخالَفة طَرِيق الصواب، أي هي مفتونة العقل بحب هذا الفَتى، وليس المراد الضلال الديني. وهذا كقوله تعالى آنفا: {إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [يوسف من الآية:8].
أ. د عبدالسلام مقبل المجيدي
- التصنيف:
- المصدر: