تذكرت نفسي وعرفت قدري

منذ 2016-04-08

وعدت إلى نفسي متسائلًا: من أنا بين هذه الجموع؟ وماذا يضير هذا الجمع إن لم أكن معهم؟!

أذن المؤذن بصوته العذب الذي تستقبله بقلبك قبل أن تسمعه أذناك، ثم أقيمت الصلاة واصطفت الجموع نحو القبلة تؤدي خلف الإمام صلاة العشاء ثم التراويح في خشوع وخضوع وتسليم لرب العالمين سبحانه، ووقفت بينهم خافض الطرف، ناظرًا إلى الأرض، متفكرًا في أمري، مستشعرًا قيمتي الحقيقية وأنا أقف بين يدي ربي سبحانه.

وتساءلت بعد أن زال عني انتفاشي وغروري واغتراري:

تساءلت عندما ذهبت الألقاب وتلاشت قيم الدنيا الفارغة الجوفاء، ولم أشعر بأن لي قيمة حقيقية أو مؤهل حقيقي أمتلكه سوي أنني مسلم!

تساءلت بعدما تلاشت ذاتي في الجمع الكبير وانخرطت في صف من صفوف المسبحين الراكعين الساجدين الباكين، الذين يتحركون كسرب طير يطير خلف قائده ويأتمر بأمره.

تساءلت وأنا لا أعرف هذا الباكي المتضرع بجواري، فلا أعرف قدر ماله ولا نوع عمله ولا مستواه العلمي، كل الذي أعرفه أنه يبكي بحرقة ويرفع صوته حينًا ويكتمه أحيانًا متذللًا معتذرًا يقول يارب، وأسمع نفس الصوت عن يميني ويساري ومن خلفي وأمامي، فالكل في خشوع تام واعتراف بالخطأ وبالتقصير وسوء الفعل والقول فتنهمر دموعهم.

وعدت إلى نفسي متسائلًا: من أنا بين هذه الجموع؟ وماذا يضير هذا الجمع إن لم أكن معهم؟!

فأنا مسلم واحد بين ملايين المسلمين، الذين يشهدون لله بالوحدانية ويركعون ويسجدون لله سبحانه في نفس اللحظة.

أنا مسلم واحد بين مليارات الموحدين، الذين عبدوا الله ووحدوه منذ خلق آدم عليه السلام إلى أن تقوم الساعة.

أنا مخلوق واحد من مليارات المليارات من مخلوقات الله على هذه الأرض، وكل المخلوقات تسبح لله دون أن نفقه تسبيحها، وما تساوي أرضنا كلها بكل ما فيها من مخلوقات في ذلكم الخلق البديع العظيم في هذا الكون الفسيح الهائل الممتلئ بشموسه وأقماره ونجومه وكواكبه الذي لا نعلم عنه إلا القليل جدًا.

أظن أنني في هذا الجمع لست الأكثر ثراء أو علمًا أو قدرًا وشرفًا أو مكانة، وأوقن أنني لست أكثرهم اتقاءً لله وخشية له ولا أخلصهم عبادة وحبًا له!

فمن أنا؟!

دارت بي هذه الأفكار وأنا أستمع إلى هذه التلاوة العذبة للقرآن الكريم، والتي أشعر أني أستمع للآيات لأول مرة والتي كنت اشعر أنها تخاطبني وتصر على هذا المعنى: عظمة الله المطلقة مع ضعفي المطلق وعجزي التام أمام قدرته.

وفي جلسة من جلسات الاستراحة أخفيت وجهي بين كفي يدي وأغمضت عيني وتفكرت:

ألمثلي ينصب العظيم سبحانه وجهه الكريم تجاه وجهي إن شرعت في الصلاة؟!، ففي الحديث الشريف «فَإِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يَنْصِبُ وَجْهَهُ لِوَجْهِ عَبْدِهِ مَا لَمْ يَلْتَفِتْ، فَإِذَا صَلَّيْتُمْ فَلَا تَلْتَفِتُوا» (مسند أحمد؛ برقم: [17443]).

ألمثلي يرد الجبار سبحانه عند قراءتي للفاتحة ففي الحديث القدسي الذي حسنه الترمذي: «قَالَ اللهُ تَعَالَى: قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ، فَنِصْفُهَا لِي وَنِصْفُهَا لِعَبْدِي، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، يَقُومُ الْعَبْدُ فَيَقُولُ: {الْحَمْدُ لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَفَيَقُولُ اللهُ: حَمِدَنِي عَبْدِي، فَيَقُولُ: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} فَيَقُولُ اللهُ: أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي، فَيَقُولُ: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} فَيَقُولُ: مَجَّدَنِي عَبْدِي، وَهَذَا لِي وَبَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي، {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} وَآخِرُ السُّورَةِ لِعَبْدِي، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، يَقُولُ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ . صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ}» (جامع الترمذي؛ برقم: [2953])

ألمثلي يستمع قيوم السماوات والأرض إلى خافت دعائي ويعدني بالإجابة {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة من الآية:186]؟؟

أبمثلي -وبكل ما أحمله من ذنوب وآثام وتقصير- يفرح الغني سبحانه بعودتي وتوبتي إليه. يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «اللهُ أَفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ أَحَدِكُمْ سَقَطَ عَلَى بَعِيرِهِ وَقَدْ أَضَلَّهُ فِي أَرْضِ فَلَاةٍ» (صحيح البخاري؛ برقم: [6309]، ورواه مسلم بلفظ: «لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ حِينَ يَتُوبُ إِلَيْهِ..» (صحيح مسلم؛ برقم: [2747]).

أمن أجلي ومن أجل أمثالي يسخر الله جنوده للدفاع عنا فيقول سبحانه: {إِنَّ اللهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} [الحج من الآية:38]، ويقول: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر من الآية:33]؟

أومن أجلنا يعادي الله أقوامًا ويتوعدهم بالعذاب وينزل عليهم سخطه ونقمته: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} [البروج:10]؟

أومن أجلنا يعلن الله الحرب على من يؤذينا ويبشرنا بمحبته ومعيته ونصرته لنا إن أكثرنا من نوافل العبادات، فيقول الرسول صلى الله عليه وسلم كما في البخاري: «إِنَّ اللهَ قَالَ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ..» (صحيح البخاري؛ برقم: [6502]).

تذكرت قيمتي وعرفت قدري، فلا قيمة لي في حضرة ذي الجلال والإكرام، وعرفت أن طاعتي لن تزيده ومعصيتي لن تضره، وعرفت أنني أحوج ما أكون إليه وإلى عفوه ورضاه.

 

 

يحيى البوليني

  • 4
  • 1
  • 4,521

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً