شذور الذهب من ذكرى سَفْرَة عجَب - (16) هل أُذّن للفجر

منذ 2016-04-16

وشرعنا نبحث في الأمتعة عن زجاجات المياه الماتعة، وبدأ السؤال: هل أذن للفجر؟ أم بقي بعض الوقت!

تقول صاحبتنا:

في منتصف الليل وصلت سفينتنا إلى ميناء جدة، وإذا بمكيفات الهواء تتوقف عن عملها فجأة. تأهبنا للنزول إلى الميناء، فلم يؤذن لنا فاضطررنا إلى البقاء، فلما تعبنا من الانتظار الطويل، واشتداد الحرارة لتوقف المكيفات كليًا وبلا تعليل!

منا من نام، ومنا من بقي ساهرًا مع الأنام، وبعد ساعات أيقظونا، هيا لنغادر السفينة، كذا جاءنا الأمر، وبدأنا المغادرة على الفور، ولم يكن الأمر باليسير، فسرنا في هرج  وزحام كبير.

استغرق خروجنا من السفينة وقتًا طويلاً طويلاً؛ فقد أثقلنا ما كان من الأمتعة معنا، وفي الأخير وصلنا وعلى أرض جدة حللنا!

وقد أخذ منا التعب كل مأخذ، وتعذر مع شدة الرطوبة التنفس. ومع شدة التعرّق؛ تاقت أنفسنا إلى ماء مبَرَّد. وشرعنا نبحث في الأمتعة عن زجاجات المياه الماتعة. وبدأ السؤال: هل أذن للفجر؟ أم بقي بعض الوقت! والحق لم نجد جوابًا يريحنا، ولم يكن أحد من العاملين في الميناء بجوارنا.

كنا في انتظار السيارات، التي ستقلنا إلى داخل الميناء لإتمام الإجراءات.

فانقسم القوم ما بين:

- ممسكٍ عن الشراب لنفسه، ومانعٍ منه غيره ؛ متورعًا يحتاط -بزعمه- لصومه.

- وشاربٍ لشدة عطشه عازمًا الفطر يومه، آخذًا برخصة الفطر في السفر.

- وناظرٍ إلى السماء محاولًا تَبَيُّن الخيط الأبيض من الخيط الأسود في رجاء.

- وقوم يقلبون أبصارهم إلى هؤلاء ثم إلى هؤلاء، متلهفة قلوبهم، مشرئبة أعناقهم لا حول ولا قوة لهم.

- أما أنا فقلت: باسم الله وشربت في غير أناة: شربت وشربت وشربت حتى ارتويتُ، ثم قلت على الفور: يا قومنا عليكم بالأصل في ذلك الأمر.

- فالتفت الجمع إليّ، مقبلين بكليتهم عليّ، عن أي أصل تتحدثين. فضلاً أوضحي ماذا تقصدين؟

- قلت: هل تبين أحدكم طلوع الفجر؟

- أجابوا: أن لا!

- قلت: إذن الأصل بقاء الليل.

- قالوا كيف؟

- قلت: قال الشيخ العثيمين حفظه الله: "الأصل بقاء الليل حتى يأتي دليل على طلوع الفجر" واستدل بقوله تعالى: {وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ُثمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ.} [البقرة من الآية:187].

فقال: إن الأكل والشرب أبيح في الآية الكريمة حتى تَبَيُّن الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر.

*كما استدل بحديث عائشة رضي الله عنها حيث قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن بلالاً يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم» ( صحيح البخاري / رقم:  622).

* وكذا استدل بحديث عدي بن حاتم الطائي: "لما نزلت: {حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ​} [البقرة:187] قال له عدي بن حاتم: يا رسول الله! إني أجعل تحت وسادتي عقالين: عقالاً أبيض وعقالاً أسود. أعرف الليل من النهار. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن وسادتك لعريض. إنما هو سواد الليل وبياض النهار»" (صحيح مسلم / رقم: 1090).

- فها نحن لم نتبين طلوع الفجر، ولم نألُ في سبيل التبين الجهد؛ إذن يبقى العمل بالأصل، وهو بقاء الليل.

فنظر القوم إلىّ مندهشين ومن قولي بدوا متعجبين، ثم قالت إحدى الأخوات تنوب عن الأخيرات: ماذا إذا شربنا، ثم تبين لنا بعدُ أننا أخطأنا؟!

 فأجبتُ مطمئنة النفس: صوم من وقع في مثل هذا اللبس صحيح مجزئ وليس فيه بأس [1]. وهنا سارع الجميع يعبون من الماء العذب، بسكينة واطمئنان قلب، وإذا بصوت النداء يصدح عاليا في سماء الميناء: الله أكبر الله أكبر ***** الله أكبر الله أكبر
...........................

الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.

ويتبع بإذن الله.

-----------------------------------------------
[1] من أكل أو شرب يظن الليل لم ينته، وأن الفجر لم يطلع، بيد إنه أخذ بالتحري، فلا شيء عليه لقوله تعالى:{رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا​} [البقرة:286 ]، وقوله تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَـٰكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ​} [الأحزاب من الآية:5].

ولأن عدي ابن حاتم كان يأكل ويشرب حتى يتبين العقال الأبيض من الأسود ثم يمسك، فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم أن المراد بالخيطين سواد الليل وبياض النهار ولم يأمره صلى الله عليه وسلم بالقضاء، لأنه كان جاهلاً بالحكم.

- وثبت في الصحيح عن أسماء رضي الله عنها عن أبيها: "أنهم أفطرنا يومًا في رمضان في غيم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم طلعت الشمس" (صحيح البخاري / رقم:1823) ولم يأمرهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالقضاء. فدل هذا على أن من أكل في وقت يظن فيه أنه مباح له الأكل فإنه لا حرج عليه،إذا تبين له أنه في النهار، سواء كان ذلك من أول النهار أو من آخره؛ لأن العلة واحدة.

**ولكن الفرق بين أول النهار وآخره:

-أن أول النهار يجوز له الأكل مع الشك في طلوع الفجر؛ لأن الأصل بقاء الليل.

- وأما في آخر النهار فلا يجوز له الأكل مع الشك في غروب الشمس ؛ لأن الأصل بقاء النهار. انتهى الشرح الممتع.

أم هانئ

  • 0
  • 0
  • 6,326
المقال السابق
(15) غسل الإحرام
المقال التالي
(17) وفي جدة تجدد الأمل: ووجدنا من إيانا ينتظر

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً