هل أصابك الفتور؟ فأنت إذن على الطريق!

منذ 2016-06-14

يصيب كثيرًا منا اليأسُ والقنوطُ بعد أسبوع من رمضان، أو أقل قليلا، أو أكثر قليلا. ينظر إلى نفسه فيجد أنه قد فتر، وتعبَتْ روحُه، بعد البداية الجادّة الحامية.

إنما يصبر منك القلب!

أوّل صلاة تهجّد صلّيتها، كنت في الثامنة عشرة من عمري في مسجد يختم في التهجد في العشر الأواخر؛ أي: يقرأ في كل يوم ثلاثة أجزاء. كنتُ بعدُ شابًّا طريًّا، أطلقتُ لحيتي، ولبستُ ثوبًا إلى منتصف ساقيّ، ونصبتُ نفسي قيّمًا على تديّن الناس على جهل!

ووَفق الثقافة السلفيّة السائدة حينذاك؛ كنتُ أنظر إلى كلّ هؤلاء (الحلقى) (المسبلين) على أنّهم على خطر عظيم! إنهم (حلقى) و(مسبلون) إنهم مخالفون لما هو الحق..الذي ما عداه ضلال! ليس لهم أي عذر عندي.. لقد أخبرتهم مرارًا بخطورة ذلك.. إذن..(!). لا سيّما كبار السنّ هؤلاء؛ فهم حملة أختام المخالفات الشرعية البدعيّة هنا!!

في صلاة التهجّد الأولى في حياتي، كان الصفّ الأوّل في المسجد الكبير عامرًا كلّه بهؤلاء (الحلقى) (المسبلين) (سوى اثنين أو ثلاثة).. وفيهم من (كبار السنّ) حملة الأختام (!) كثير!

وكنتُ أنا بلحيتي وثوبي القصير أعودُ بعد الركعتين إلى مؤَخَّر المسجد أتأملهم وهم يراوحون بين جباههم وأقدامهم في ثبات، إلى درجة الحرص على تأمل أقدامهم ومتى يحرّكونها!

كانت الرسالة واضحة: إنما يصبر منك القلبُ أيّها الضعيف!

 

هل أصابك الفتور؟

يصيب كثيرًا منا اليأسُ والقنوطُ بعد أسبوع من رمضان، أو أقل قليلا، أو أكثر قليلا. ينظر إلى نفسه فيجد أنه قد فتر، وتعبَتْ روحُه، بعد البداية الجادّة الحامية.

1- فإمّا أن ييأس من نفسه، ويتهمها بأنها ليست من (أولئك) المؤمنين الصابرين الصادقين، ربما يقول لها (مفيش فايدة)!

2- وإما يقول لنفسه: أنا لستُ ممّن فتح له في باب صلاة النافلة، ولا باب قراءة القرآن، ولا سائر أعمال رمضان.

وغالبا في الحالتين يترك العمل بأعمال البر الرمضانية، الصدقة، والصلاة، والقراءة، والتدبر، وربما ينصرف عن الاعتكاف، يترك كل ذلك أو بعضه، أو يقتصر على حدّ ضئيل جدًّا منه. ويظل كذلك إلى قريب من آخر الشهر، أو ربما: الشهر كلّه! حتى يفيق بعد انفضاض الموسم، فتعلوه الكآبة ويعتريه الحزن؛ وهو حزن الصدق، وكآبة الإيمان، فقد كان يخدع نفسه!!

صاحبنا ذاك، لم يفقه أنّ حقيقة الدّين: التعب والنّصب، وقهر النّفس على الطاعة. الدّين كله صبر! والصّبر ضياء (كما في صحيح مسلم)، وليست نورًا كما في نفس الحديث!

وقد ذكروا في التفرقة بين النور (الصلاة)، والضياء (الصّبر): أن النور غير حارق، خلاف الضياء فهو حارق، أي: مؤلم، أي متعب.

قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا} [يونس:5].

فالصّبر: ضياء، ولا بد. وسلعة الله غالية!

 

الخواء التربوي والفقر السلوكي، الذي نعيشه من أجيال، حتى على المستوى النظري: قد سمح لبعض الأفكار الخطيرة سلوكيًّا لتنتشر وترسخ، وهي في الحقيقة من أهم أسباب الانتكاس بدرجاته المختلفة! هذه قضية طويلة.

 

لكن لعل من المناسب التنبيه على أنّ حصول الفتور لا بدّ منه، والتأكيد على أنّ نفسا لا تفتر:

1- هي نفس ليست على الطريق!

2- أو نفس في نهاية الطريق!

أما السالك، فلا بدّ له من فتور بعد نشاط.

وقد ذكرتُ هذا المعنى في مقال طويل سابق، لكنّه من المعاني التي يجب تكرارها وشرحها وتذكير النفس بها، غير مرة، وبأكثر من عبارة.

في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم ذُكر له أقوام يجتهدون في العبادة، فقال: «تلك ضراوة الإسلام وشرّته، ولكلّ ضراوة شرّة، ولكلّ شرّة فترة» (مسند أحمد:10/51).

يعني: كل صاحب عمل يكون نشيطًا قويًّا عليه في أوّله، ثم (لا بدّ) بعد هذا النّشاط من فتور، فـ(لكلِّ شرّة: فترة)!

 

الإيمان والعمل الصالح، لا بدّ فيه من حَمل للنّفس على ما تكره، أو قهرها على ما يشقّ عليها، أو تدريبها على ما لم تألفه ولم تعتده. وهي حقيقة التكليف، وما سوى ذلك فاتباع للهوى.

هذان هما القسمان: {فَأَمَّا مَن طَغَىٰ . وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا . فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَىٰ . وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَىٰ . فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:37- 41].

ولو كانت التكاليف والأعمال الصالحة (كلّها) مما تعتاده النفس، أو تحبّه، أوتألفه، أو لا يشقّ عليها: لما كانت الجنّة هي (السلعة الغالية المحفوفة بالمكاره والمشاقّ)، ولا كانت الدنيا (دار البلاء والاختبار)، ولا كانت النار (محفوفة بالشهوات)!

 قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات» (مسلم:9037).

نعم، هناك أصحاب القلوب السليمة، الذين تكون قلوبهم وجوارحهم منساقة لله طوعًا وحبًّا، وهؤلاء هم الأنبياء، والصدّيقون، والصالحون، وكلّ هؤلاء قد سلكوا الطريق حتى منتهاه، فأين موضعك أنت على الطريق؟!

قال محمد بن المنكدر: "كابدت نفسي أربعين سنة حتى استقامت".

 

أنا لست هنا لأخدعك!

فلا بدّ أن أخبرك أن في نفوس بني آدم نفوسًا تعمل الطاعات المجهدة الشاقة راضية مطمئنّة! أي: لا يسوق نفسه إلى الطاعة مكرهةً، (بل تكون دواعي قلبه وجواذبه منساقة إلى الله طوعًا ومحبةً وإيثارًا. كجريان الماء في منحدره. وهذه حال المحبين الصادقين. فإن عبادتهم طوعًا ومحبةً ورضًا. ففيها قرة عيونهم، وسرور قلوبهم، ولذة أرواحهم. كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «جعلت قرة عيني في الصلاة» (السلسلة الصحيحة:3291)، وكان يقول: «يا بلال، أرحنا بالصلاة». فقرة عين المحب ولذته ونعيم روحه: في طاعة محبوبه. بخلاف المطيع كرها، المتحمل للخدمة ثقلًا) (ابن القيّم).

تلك عبادة الأنبياء والصالحين والصّديقين، المصنوعين على عين الله، والمجاهدين أنفسهم في ذاته تعالى، الذين امتحنهم الله، وابتلاهم، ثم اجتباهم وهداهم!

فسِرْ على الدرب: تصل!

 

أنا لم أخدعك، قد أخبرتك!!

ألم أذكر لك أن نفس محمّد بن المنكدر قد استقامت له في نهاية الأمر، لكن بعد صراعه معها (عشرين سنة)!

واستمتَع ثابت البناني بالصلاة عشرين سنة، لكن بعد أن قهر نفسه بقي يروّضها (عشرين سنة)!

وأنت، هل تعيش غافلا العام، وتريد أن تستمتع وتعيش إيمان المجاهدين أنفسهم في ذات الله؟!

هذا يا أخي لا يكون.. لكن: من سار على الدرب: وصل!

 

(فإن قلتَ: كلّ مجدٍّ في طلب شيءٍ لا بدّ أن يَعرض له وقفة وفتور، ثم ينهض إلى طلبه. قلتُ: لا بدّ من ذلك، ولكن صاحب الوقفة له حالان:

1- إما أن يقف ليجُمّ نفسه (يستجمع قواها)، ويعدّها للسير: فهذا وقفته سيرٌ! ولا تضرُّه الوقفة، فإنَّ لكلّ عملٍ شرة، ولكل شرة فترة.

2- وإما أن يقف لداع دعاه من ورائه، وجاذب جذبه من خلفه، فإن أجابه أخره ولا بد! فإن تداركه الله برحمته، وأطلعه على سبق الركب له وعلى تأخره: نهض نهضة الغضبان الآسف على الانقطاع، ووثب وجمز واشتد سعيًا ليلحق الركب...) (ابن القيم).

وهو معنى ما ورد في تمام الحديث السابق عن النبي: «لكل عمل شرة ولكل شرة فترة فمن كانت فترته إلى سنتي فقد أفلح ومن كانت إلى غير ذلك فقد هلك» (مسند أحمد: 11/159).

 

هل أصابك التعب، هل تألّمت من الوقوف:

1- تذكّر أنه بدون تعب، لا جنّة.

2- هل تذكر يومًا تعبتَ فيه من الصلاة أو الصيام ثم بعد انتهاء ورد الصلاة، أو بعد الإفطار استمرّ تعبك، فلم ترتح؟!

بل: هل لم تفرح وتسعد وتطمئنّ نفسك؟!

ومع ذلك فكما قال أحمد بن حنبل: "إنما هو طعام دون طعام، ولباس دون لباس، وصبر أيّأم قلائل".

3- تذكّر أن يوم القيامة مقداره خمسون ألف سنة، يقف العباد منها كم ألف سنة، حتى يؤذن لهم في البحث عن شفيع من الأنبياء!

فمن أتعب نفسه في الدنيا؛ هوّن الله عليه الوقوف يوم تدنو الشمس!!

4- تذكّر وقوفك بين يدي الله، وأنك تمشي إلى الله، لتلقاه وحدك، ليس معك إلا عملك، تجادل عن نفسك، فتوفى عملك حسْب!

كما في صحيح مسلم (ونحوه في البخاري) عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إنكم ملاقو الله حفاةً عراةً مشاةً غرلا» (مسلم:2860).

 

هل أصابك الفتور والسأم، والملل:

تذكر أن الله لا يملّ إلا بعد أن تملّ أنت! وأما ربك العظيم، فلا يضيع أجر من أحسن عملا، وما تقرّب أحدٌ إليه وطلب رضاه، إلا كان اللهُ أسرعَ إليه!

وتذكّر أن المثقال يوم القيامة: الذرّة!! وأنك تقف عند الميزان فتكون كسائر الناس، فـ(للناس عند الميزان تجادل وزحام) كما قال ابن مسعود. فتبحث لنفسك عن المثاقيل؛ الذرّ!

 

قم، وانفض عنك غبار الكسل والبطالة، واطرد وسواس الملل! دونك عشرة أيام، تعتق فيها رقبتك من النار، وتطلب من الله الخلاص بصدق!

 

ما زلت أعاني من وقفات قارئ التروايح وبداياته، ويضيق صدري منه! لكن طال المنشور!

سبحانك اللهم وبحمدك !

المصدر: مجلس الألوكة
  • 11
  • 2
  • 27,657

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً