صاحب القرية

لما كان إيمان صاحب القرية صادقاً، حياً، نابضاً، حمله على استفراغ جهده، وبذل وسعه، كان يمكنه أن يأتي ماشياً لكنه جاء (يسعى)، ليقول بملأ فيه: {يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ}!، أما الإيمان البارد، الخامد، الضعيف؛ فلا يكاد يحرك ساكناً، ولا يتخطى عقبة، صاحبه يتردد في محله، وبساط العمر يطوى، وهو يعيش على الأماني.

  • التصنيفات: تزكية النفس - الطريق إلى الله -

قال تعالى: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ. اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ . وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ . أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ . إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ . إِنِّي آَمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ . قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ . بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} [يس:20-27].

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:

ففي هذه الحادثة الإيمانية التي خلَّد ذكرها القرآن بأجمل عبارة، وأفخم صورة؛ دروس وعبر، منها:

أولاً: الإيمان مصدر العزة

فالإيمان ينهض بالنفس الإنسانية من وهدة الضَّعة، وحِطَّة العزيمة، ويسمو بها إلى معالي الأمور، فتستشعر كرامتها وإنسانيتها، وتتذوق طعم الحياة المفعمة بالأهداف السامية، والمثل العليا، لقد كان هذا الرجل قبل أن يحل الإيمان في قلبه نكرةً من النكرات؛ (رجل) يسكن في (أقصى المدينة) التي لا يسكنها عادة إلا الفقراء، والوضعاء، والدهماء، ومن لا يؤبه له، ولا يرى لنفسه قدراً، ولا يرفع إلى الملأ والسادة طرفاً، فإذا به يستحيل خلقاً جديداً، وتسري فيه روح معنوية عالية، تحمله إلى ميدان القرية، ونادي النبلاء والكبراء ليصيح بصوت فصيح، لا تلجلج فيه، ولا تلعثم، بثقة، وعزة، ورباطة جأش، وتحدي: {إِنِّي آَمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ}! ولم يكن يحلم فيما مضى أن ينبس ببنت شفة بين ظهرانيهم، ولا أن يحِدَّ النظر إليهم! هكذا يفعل الإيمان في النفوس، فسبحان الله.

ثانياً: الإيمان التام يستلزم العمل التام

لما كان إيمان صاحب القرية صادقاً، حياً، نابضاً، حمله على استفراغ جهده، وبذل وسعه، كان يمكنه أن يأتي ماشياً لكنه جاء (يسعى)، ليقول بملأ فيه: {يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ}!، أما الإيمان البارد، الخامد، الضعيف؛ فلا يكاد يحرك ساكناً، ولا يتخطى عقبة، صاحبه يتردد في محله، وبساط العمر يطوى، وهو يعيش على الأماني.

ثالثاً: توحيد الربوبية أقوى، وأوضح، دليل على توحيد الألوهية

فالخالق، الرازق، المدبر هو المستحق للعبادة وحده دون ما سواه، فهو الذي ابتدأ الخلق، وإليه المصير، وهو الذي يملك النفع والضر، وبيده الأمر، فكيف يسوغ صرف العبادة لآلهة مزعومة مدعاة لا تملك لنفسها، ولا لعابديها؛ نفعاً، ولا ضراً؟! لعمر الله إنه لعين الضلال.

رابعاً: القول ركن في الإيمان، وجزء مسماه

الاستعلان بالدين، والانتماء للتوحيد شرط في صحة الإيمان، يجب الجهر به مع القدرة، ولا يجوز كتمانه، والظهور بمظهر ذي الوجهين، واللسانين.

خامساً: الإيمان يطلق عقال اللسان، ويمنح البيان

فحين يمتلئ القلب بالمعاني الكريمة تتدافع على اللسان ألفاظ مضيئة، وتراكيب عجيبة؛ لم يكن صاحبها يحسنها قبل ذلك، حين ينشرح الصدر تنحل عقدة اللسان، ويفيض بالبيان، قال تعالى عن عبده موسى عليه السلام:{قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي . وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي . وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي . يَفْقَهُوا قَوْلِي} [طه:25-28].

سادساً: الإيمان عيبة النصح، وقيد الفتك

لا تجد المؤمن غاشاً، لا تجده إلا ناصحاً، حياً وميتاً! فرغم شناعة ما عمل به قومه من قتل وإهلاك؛ لم يمنعه ذلك من تمني الخير لهم بعد رؤية كرامة الله له في الجنة، لا نكاية بهم، وتشفياً منهم، بل شفقةً عليهم.

اللهم اعمر قلوبنا بالإيمان، وأذقنا حلاوته، وارزقنا ثمراته، العاجلة، والآجلة.

 

أحمد القاضي