بين الثبات والتجديد - [03] بين الثبات والتجديد

منذ 2016-08-03

إن الواقع الإسلامي على جميع الصعد ليس هو الخيار الأمثل ولا الصورة الشرعية، ولذا يتحتم على المصلحين السعي في التدارك والتغيير وفق الأحكام إلى القاعدة الشرعية ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.

المعنى الخامس: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] من معانيها: الانتقال من الحسن إلى ما هو أحسن منه، فهناك حسن وأحسن، ولذلك يقول الله سبحانه وتعالى: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر:18].
ويقول: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} [الزمر:55] فحتى في بعض أوامر الشريعة ثمة تخيير، فهناك تخيير في باب الكفارات، وهناك تخيير في الحقوق، فالإنسان له أن يأخذ الدية وهذا حق له مشروع، وهو حسن، ولكن هناك ما هو أحسن منه، وهو العفو والصفح خاصة إذا كان معه الإصلاح.

ومن ذلك الانتقال من عمل فاضل إلى عمل أفضل منه، فقد يكون الإنسان منصرفًا إلى عبادة، والعبادة خير وقربة إلى الله سبحانه، ولكن العبادة نفعها لازم خاص، فإن انتقل إلى التعليم وإلى الدعوة فقد انتقل من عبادة إلى عبادة، لكن العبادة الجديدة أحسن من الأولى؛ لأن نفعها متعدٍ، ولهذا كان الزهري و مالك وغيرهم يقولون:  "إن طلب العلم أفضل من نوافل العبادة لمن صلحت نيته"، وما ذلك إلا لأن العلم فيه نفع للناس بخلاف العبادة فإن نفعها مقصور غالبًا على صاحبها، وهذا كما يكون للفرد يكون للجماعة ويكون للأمة، فقد يفتح الله تعالى لقوم هم على خير خاص، فيفتح الله لهم خيرًا أعم وأوسع وأعظم فينبغي أن يغتنموا ذلك وأن لا يضيعوا الفرصة، وكما قيل:

إذا هبت رياحك فاغتنمها فعقبى كل عاصفة سكون


وقد يكون الشيء حسنًا ويكون غيره أحسن منه في حال أخرى، وهذا يتجلى في الأخلاق والمواقف، ولذلك قيل: 

ووضع الندى في موضع السيف بالعلى مضر كوضع السيف في موضع الندى


المعنى السادس: أن يتجلى للمؤمن أو العالم ويثبت له ما لم يثبت لغيره، وهذا من معاني اهدنا الصراط المستقيم.
ولذا كان الأئمة الكبار أئمة الحديث المتقدمون المحققون يقع لأحدهم بسبب البحث والتحري والاطلاع على الأسانيد ومعرفة الرجال وتتبع طرق الحديث من القطع واليقين والجزم بأن هذا الحديث صحيح، بل قد يكون عنده متواتر، ويحلف أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال هذا ونطق به ولا يستثني، ويكون محقًا في ذلك بارًا راشدًا؛ لأنه تيقن ذلك يقيناً قلبياً جازماً بسبب عملية البحث الطويلة والاطلاع، ومعرفة الأسانيد والمتون والطرق والرجال وغيرها، فمثل هذا العالم تحقق له من اليقين في مسألة ما لم يتحقق لغيره حتى من العلماء، فضلاً عن عامة الناس ممن لم يصلوا إلى هذا ولم يسلكوا طريقه، فيكون لهذا العالم هداية خاصة خصه الله تعالى بها عرف بها صحة هذا الحديث بل ثبوته، بل تواتره أحيانًا وأنه ضروري وقطعي ويقيني ما لم يقع لغيره، ولا يستطيع هذا العالم أن يلزم غيره بذلك ممن لم يسلك هذا السبيل ولم يصل إلى هذه النتيجة، فهـذه أنواع من الهدايات التي يطلبها المرء. 
أخيرًا: لماذا يقع هذا؟ 
هذا التنوع الذي يحدث ويتجدد له أسباب عديدة منها: 
أولًا: هناك ما هو من باب تجدد الاجتهاد الفقهي والدعوي ودفع التعصب والهوى وترك تقليد النفس، وهذا يحتاج إلى تجرد والتزام بالنقد، وتصحيح المفاهيم والتصورات والأعمال والمواقف والاجتهادات الفردية والجماعية، فبسبب ذلك يقع الانتقال. 

ثانيًا: قد يقع ذلك بسبب تغير الظروف والبيئات وأحوال الناس، فيكون لكل حال ما يناسبها، الداعية كالتاجر الذي يعرض بضاعته في السوق، لكن بضاعته ليست سلعةً من سلع الدنيا، وإنما هي أغلى السلع وأعظمها، بضاعته الهداية والتي ثمرتها الجنة "ألا إن سلعة الله غالية ألا إن سلعة الله الجنة"، والتاجر لا يستطيع أن يتحكم في الأسعار ولا في نوعية البضائع ولا في طريقة البيع ولا في الزبائن، وإنما قصاراه أن يعرض بضاعته على الناس، وهو إذا كان حريصًا على تسويقها ونشرها وإيصالها فسوف يتلطف ويتذرع بكل وسيلة أذنت بها الشريعة، وسوف يجدد من وسائل العرض والتقديم والتوصل إلى قلوب الناس وعقولهم والتأثير عليهم فيما يحبون مما أباحه الله تعالى ووسع فيه مما هو من التنوع المحمود.

وها هي الأنظمة السياسية في العالم الإسلامي كله تغير قراراتها وتغير سياساتها وتحالفاتها بحسب تجدد الأحوال وتغير الظروف. 
وهاهي الدول العظمى والإمبراطوريات الكبرى، كـالولايات المتحدة الأمريكية .. تحاول أن تهيمن وتسيطر على معاقد الأمور في العالم كله، ومع ذلك تغير سياساتها وتحالفاتها، وتغير خريطة علاقاتها الدولية ومواقفها السياسية والاقتصادية وقوانينها الداخلية، إلى غير ذلك بسبب الأحداث التي طرأت. 
فالوقوف والجمود على أمر معين ليس أمراً جديراً بمن يعيشون الحياة وتقلباتها. 

ثالثًا: ومنه ما يكون بسبب تنوع الخبرة والدراية وإحكام التجربة المبنية على عقل الإنسان، والتجربة لا تحصل للإنسان إلا بخوض الغمرات وقوة الملاحظة والصبر والتدبر، وما يمنح الله سبحانه وتعالى عبيده من الفهم والإدراك، ولهذا لما سئل علي رضي الله عنه: "هل خصكم رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل البيت بشيء؟ قال: لا. والذي برأ الحبة وفلق النسمة إلا فهماً أوتيه رجل في كتاب الله تعالى". 
فالناس يتفاوتون في فهومهم، سواء فهمهم لكتاب الله عز وجل، أو فهمهم لمجريات الأمور ومعرفة النتائج من مقدماتها، ولهذا يقول بشار بن برد العقيلي:

إذا بلغ الرأي المشورة فاستعن برأي نصيح أو نصيحة حازم

ولا تجعل الشورى عليك غضاضة فإن الخوافي قوة للقوادم

وما خير كفٍ أمسك الغل أختها وما خير سيف لم يؤيد بقائم

وخل الهوينا للضعيف ولاتكن نؤوماً فإن الحزم ليس بنائم

وأدن على القربى المقرب نفسه ولا تشهد الشورى امرأً غير كاتم

فإنك لا تستطرد الهم بالمنى ولا تبلغ العليا بغير المكارم


ويقول المتنبي في قصيدته المشهورة: 

الرأي قبل شجاعة الشجعان هو أول وهي المحل الثاني

فإذا هما اجتمعا لنفس حرة بلغت من العلياء كل مكان

ولربما طعن الفتى أقرانه بالرأي قبل تطاعن الأقران

لولا العقول لكان أدنى ضيغم أدنى إلى شرف من الإنسان

ولما تفاضلت النفوس ودبرت أيدي الكماة عوالي المران


إن الواقع الإسلامي على جميع الصعد ليس هو الخيار الأمثل ولا الصورة الشرعية، ولذا يتحتم على المصلحين السعي في التدارك والتغيير وفق الأحكام إلى القاعدة الشرعية ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه. 

سلمان بن فهد العودة

الأستاذ بكلية الشريعة وأصول الدين بالقصيم -سابقًا-

  • 0
  • 1
  • 1,678
المقال السابق
[02] بين الثبات والتجديد
 

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً