خطب مختارة - [98] السعادة

منذ 2016-08-03

إن المتمتع بالسعادة الحقيقية هو المؤمن الصادق الإيمان؛ الذي إذا أصابته سراءُ شكر فكان خيرا له، وإذا أصابته ضراءُ صبر فكان خيرا له. هنا تكمن السعادة في الشكر على النعماء بالأقوال والأفعال؛ والرضا الدائم بقضاء الله وقدره؛ والعيش في ظل القرآن والسنة.

الخطبة الأولى

عباد الله، إن السعادة هي الهدف الأسمى والأمنية العظمى لكل الناس، وقد اختلف الناس في طلب هذه السعادة، فالبعض يرى أنا السعادة هي في جمع الأموال، والبعض الآخر يرى أن السعادة هي في المأكل والمشرب والزوجة والأولاد، والبعض يراها في الجاه والسلطان، وكل إنسان يرى السعادة من زاوية معينة. والكل يبحث عن السعادة بكل ما أوتي من قوة. وإنَّ كثيرًا من الناس رغم أن عندهم أسبابَ السعادة المادية؛ ومع ذلك فهم غير سعداء. إذن ما السعادة الحقيقية يا ترى؟.

إخوة الإسلام، هل السعادة في الملك والسلطان والمنصب والجاه؟! لا، وألف لا؛ فلقد كان فرعون يبحث عن السعادة في الملك؛ وكان يقول بكل غرور: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} [الزخرف: 51]، ونسي أن الذي أعطاه الملك هو الله، وأن الله هو الذي أطعمه وسقاه، قال تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل: 14]، كل ذلك في سبيل البحث عن السعادة، ولكن هل حصل هذا الطاغية على السعادة؟! لا والله، إنه ظلَّ وسيظلُّ تعيسا شقيا إلى الأبد، فكان جزاء هذا الانحراف وهذا العتو والتكبر والتمرد على الله أن أخذه الله نكال الآخرة والأولى، فبعد أن كانت الأنهار تجري من تحته جعلها الله تجري من فوقه، {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر: 46]. فَقَد فرعونُ ملكَه؛ بل كان سببا في هلاكه في الدنيا والآخرة، وكذلك أهل المناصب والجاه والسلطان سيفقدونها؛ وستكون هلاكًا لهم إذا لم يتقوا الله فيها.

إخوة الإيمان، هل السعادة في جمعِ الأموالِ وبناءِ القصورِ؛ هل هي في المراكب الفارهة؛ هل هي في كثرة الأولاد والزوجات؟، ليس الأمر كذلك ، فهذا قارون قد منحه الله أموالًا وكنوزًا؛ كما قال الله عنها: {مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ} [القصص: 76]، ونسي أن الله هو المعطي، وأن الله هو الرزاق الوهاب، فقال: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} [القصص: 78]، فكفر بنعمة الله؛ وتكبر واغتر، وظن أن هذه هي السعادة، فماذا كان جزاؤه؟ وكيف كانت نهايته ؟ لقد خرج على قومه في قمة زينته وغطرسته وغروره، فخسف الله به وبداره الأرض، فما أغنى عنه ماله من الله شيئا، فما أشقاها من نهاية! وما أتعسها من خاتمة!، هلك قارون وفارق أمواله ؛ فلم يكن في سعادة حقيقية، وما قارون إلا رمز ومثل لكل من أعطاه الله مالا؛ وظن أنه في السعادة الحقيقية؛ فاغتر به وتكبر به عن طاعة الله وتكبر على عباد الله.

أيها الإخوة، هل السعادة هي في حياة الملاهي والمحرمات؛  والنوم والبعد والتراخي عن تكاليف هذا الدين، والهروب من الواجبات الشرعية التي لله والتي لعباد الله؟ والجواب: إنّ من يعيشون كذلك هم في الحقيقة في قمة التعاسة؛ لأنهم ليس لهم هدف في الحياة ولا قيمة في الوجود. وينطبق عليهم قول الله تبارك وتعالى:   {إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ . أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يونس: 7، 8]. إنها حياة الشهوات والملذات وحياة الغفلة والحيوانات، فما أتعسها وأتفهها من حياة!

أيها الأحبة، إن الكل يبحث عن السعادة الحقيقية، ولكن الكثير يخطئون الطريق إليها؛ ويَضِلُّون عن سواء السبيل؛ وذلك بسبب إعراضهم عن السبب الرئيسي للسعادة، قال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه: 124]. ولماذا هو أعمى يوم القيامة؟ إنه أعمى بسبب أنه تعامى عن طريق السعادة الحقيقية، فأعماه الله عن المعيشة الهنيَّة في الدنيا؛ وأعماه الله عن الجنة في الآخرة، {قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا  قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى} [طه: 125، 126].

إخوة الإسلام، إن السعادة الحقيقية هي والذي نفسي بيده في طاعة الله عز وجل وفي عبادته وفي التمسك بشرعه؛ وامتثال أوامره؛ واجتناب نواهيه. ولقد ذاق طعمَ السعادة إبراهيمُ عليه الصلاة والسلام عندما حطم الأصنام وقُذِف في النار، {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ . وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمْ الأَخْسَرِينَ} [الأنبياء: 69، 70]. وذاق طعم السعادة يوسف عليه الصلاة والسلام عندما قال: {رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} [يوسف: 33]، فوجد السعادة في حياة الطاعة والطهر لا في الملذات المحرمة، بل وجعل السجن الرهيب مدرسةً للإيمان والتوحيد. ووجد تلك السعادة أولئك الفتية الذين آمنوا بربهم وزادهم الله هدى؛ عندما أووا إلى الكهف فنَشَر لهم ربهم من رحمته ؛ وهيأ لهم من أمرهم مرفقا.

وذاق طعم السعادة خير البشر محمد صلى الله عليه وسلم، مع ما لا لقي من بلاء وجهد وتعب من محاربة وكيد المشركين واليهود والمنافقين، وهو صامد صابر يبلغ دين الله، وذاق طعمَ الإيمانِ والسعادة أهلُ التمسك بالدين والتضحية له؛ من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم، وهكذا يجد طعم الإيمان كل من سار في دربهم، لأن الله تعالى يقول: {فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى} [طه: 123 ]. بارك الله لي ولكم في القرآن الكريم.

الخطبة الثانية

قال تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً . الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف: 103، 104]، إنهم أناس يعيشون سعادة وهمية؛ يظنون أنهم سعداء؛ بسبب الأمور المادية التي منحهم الله إياها، ولكنهم بعيدون عن الإيمان بالله وعبادته وطاعته، بعيدون عن القرآن والسنة، بعيدون عن المساجد، بعيدون عن الأخوة الإيمانية، بعيدون عن التواصي بالحق والتواصي بالصبر، بعيدون عما يقربهم إلى الله، بل إن هذه النوعية من الناس قد يكونون منغمسين في أنواع من المعاصي والملذات المحرمة؛ التي يجدون فيها متعة سرعان ما تزول، و هم في ذلك يبحثون عن السعادة، ولكنهم واهمون في تلك السعادة؛ لأنه لن يعيش سعيدا ويُبعث سعيدًا إلا من كان قريبا من الله؛ بطاعته؛ والبعد عن معصية؛مشتاقا إلى فضله ورحمته وكرمه والفوز بجنته.

إن السعادة الحقيقية هي التي تكون في الدنيا طريقًا إلى الفوز في الآخرة، هذه السعادة التي تكون أولًا وقبل كل شيء طريقًا للإيمان بالله والعمل الصالح، قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97]، وقال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28].

إن المتمتع بالسعادة الحقيقية هو المؤمن الصادق الإيمان؛ الذي إذا أصابته سراءُ شكر فكان خيرا له، وإذا أصابته ضراءُ صبر فكان خيرا له. هنا تكمن السعادة في الشكر على النعماء بالأقوال والأفعال؛ والرضا الدائم بقضاء الله وقدره؛ والعيش في ظل القرآن والسنة، يقول صلى الله عليه وسلم: «تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبدا ؛ كتاب الله وسنتي» [منزلة السنة: 13].

فيا طلاب السعادة؛ ويا عشاق السعادة؛ ويا أيها الباحثون عن السعادة؛ إن السعادة الحقيقية لن تكون إلا بالتمسك بكتاب الله تلاوة وتدبرًا وعملًا، والتمسك بطريق محمد عليه الصلاة والسلام؛ والسير على دربه، إن السعادة الحقيقية في الهداية والاستقامة والقرب من الله، قال تعالى: {فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى} [طه: 123].

اللهم اشرح صدورنا، واغفر ذنوبنا، واستر عيوبنا. اللهم أسعد قلوبنا بذكرك وشكرك وحسن عبادتك.

  • 4
  • 2
  • 11,241
المقال السابق
[97] السحرة والمشعوذون
المقال التالي
[99] السعداء والأشقياء بعد رمضان

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً