خطب مختارة - [108] الصدقة الجارية (الوقف)

منذ 2016-08-07

عمر الإنسان محدود، فالمسلم يجتهد أن يقدم لنفسه أعمالًا صالحة في حياته القصيرة، ليجدَها في حياته الآخرة الحياة الأبدية، ويحسن به أن يكون له أعمالٌ صالحة يستمر له ثوابها بعد موته، وإن من فضل الله علينا أن جعل لنا أعمالًا صالحة يستمر ويتضاعف أجرها حتى بعد موت أحدنا.

الخطبة الأولى

أما بعد، اعلموا يا عباد الله، بأن الاستعداد للآخرة، بالأعمال الصالحة، من أوجب الواجبات، ومن أهم المهمات، ولا أدل على ذلك من قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر: 18]، فينبغي للمسلم بل يجب عليه، أن يجعل بينه وبين عذاب الله وقاية، وأن يكون اهتمامه منصبًا على ماذا قدم ليوم القيامة، الذي سماه الله عز وجل بغدٍ، لقربه وسرعة مجيئه.

أيها الإخوة المؤمنون، عمر الإنسان محدود، فالمسلم يجتهد أن يقدم لنفسه أعمالًا صالحة في حياته القصيرة، ليجدَها في حياته الآخرة الحياة الأبدية، ويحسن به أن يكون له أعمالٌ صالحة يستمر له ثوابها بعد موته، وإن من فضل الله علينا أن جعل لنا أعمالًا صالحة يستمر ويتضاعف أجرها حتى بعد موت أحدنا،  يقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه مسلم: «إذا مات ابنُ آدم ، انقطع عملُهُ إلا من ثلاث: صدقةٍ جارية، أو علمٍ ينتفع به ، أو ولدٍ صالح يدعو له» [صحيح مسلم: 1631] فهي والله فرصة. أن يكون لك عمل صالح حتى بعد موتك، حتى وأنت في قبرك بين الأموات، تكون  لك أعمالٌ جارية، وحسناتٌ غير منقطعة. فاحرص على هذه الثلاث أو ما تيسر منها. فبادر إلى صدقة جارية، ينتفع منها المسلمون ويدعون لك، يستمر أجرها لك وأنت في قبرك، أو قدّم علما من تلك العلوم النافعة المفيدة، ينتفع منه الناس، واحرص ما استطعت أن يكون لك ولد صالح، يدعو لك في حياتك وبعد مماتك.

وما تبقى من حديثنا في هذه الخطبة سيكون عن الصدقات الجارية، روى البخاري عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من حفر بئر رومة فله الجنة». قال عثمان رضي الله عنه: فحفرتها [صحيح البخاري:2778].  وفي رواية أخرى: أنها كانت لرجلٍ من بني غفار عينٌ يقال لها رومه، وكان يبيع منها القربة بمد ، فقال صلى الله عليه وسلم: تبيعنيها بعين في الجنة؟ فقال: يا رسول الله ليس لي ولا لعيالي غيرها. فبلغ ذلك عثمان: فاشتراها بخمسة وثلاثين ألف درهم . ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أتجعل لي ما جعلت له ؟ ـ يعني عين في الجنة ! قال صلى الله عليه وسلم: نعم. قال: قد جعلتها للمسلمين.

وهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أصاب أرضًا بخيبر، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم يستأمره فيها، فقال: يا رسول الله؛ إني أصبت أرضًا بخيبر لم أُصب مالا قط هو أنفس عندي منها. فقال صلى الله عليه وسلم:   «إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها» [صحيح الترمذي: 1375] فتصدق بها عمر رضي الله عنه في الفقراء وفي ذي القربى وفي الرقاب وفي سبيل الله وابن السبيل والضيف.

إخوة الإيمان، إن الحرص على ما ينفع بعد الموت من الأشياء التي يتميز بها عبادُ الله الصالحون، بل كانوا يعملونها لأنفسهم ولموتاهم، فهذا سعد بن عبادة رضي الله عنه الذي تميز وعرف ببره لأمه، أراد أن يوقف وقفًا لها ينال به الأجر عند الله عز وجل، فقال: يا رسول الله إن أم سعد ماتت فأي الصدقة أفضل ـ أي أكثر ثوابًا-؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الماء» . فحفر سعد رضي الله عنه بئرًا، وقال: هذه لأم سعد . تبرع بها لينتفع منها المسلمون.

فالوصية ـ يا عباد الله أن قدموا لأنفسكم {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هو خيرًا وأعظم أجرًا} [المزمل: 20]، بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم.

الخطبة الثانية

أيها الأخوة المؤمنون: إن للوقف في الإسلام لشأن عظيم، وقد وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووقف أصحابه من بعده، ولا يزال أهل الصلاح يوقفون من أموالهم إلى يومنا هذا.

وإن الأولى مباشرة الإنسان لهذه الصدقات التي يريدها، وله أن يوكل فيها من يثق به، ومن ذلك المكاتب الخيرية المعتمدة، وإن الزائر لهذه المكاتب الخيرية ليجد مشاريع متنوعة من هذه الصدقات الجارية وغيرها.

والوقفُ يا عبادَ اللهِ أنواعٌ كثيرة، يجمعها في الوصف أنها يستمر نفعها للناس، مِنْهَا الوقفُ لبناء المساجدِ ورعايتِها، والقيامِ بشئونِها يقول الله عز وجل:   {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [التوبة: 18]، وفي الحديث المتفق عليه يقول صلى الله عليه وسلم: « من بنى مسجداً للهِ تعالى يبتغي بهِ وجهَ اللهِ بنى اللهُ له بيتاً في الجنةِ» [صحيح مسلم: 533]، وفي رواية عند ابن ماجه يقول صلى الله عليه وسلم: «من بنى مسجداً للهِ ، ولو كان كمفحصِ قطاةٍ أو أصغرَ، بنى اللهُ له بيتاً في الجنةِ».

ومن أنواع الوقف: الوقفُ على توزيعِ الكسوةِ للفقراءِ والأراملِ والمحتاجينَ، وإطعامُ الجائعينَ، ومنها الوقفُ على المكتباتِ العامةِ كإنشائِها وإيقافِ الكتبِ الشرعيةِ بهاَ، وإنشاءُ المراكزِ الطبيةِ الخيرية؛ وإيقاف أراضٍ للمقابر، وكذلك تعبيدُ الطرقِ وشقِّها وإنشاءُ وحفرُ الآبارِ، وإجراءُ الماءِ، ومنها بل من أهمها : الوقفُ على نشرِ دعوةِ التوحيدِ وتبليغِ الإسلامِ، وذلك بطبعِ الكتبِ والأشرطةِ وتوزيعِها، وكذلك من أنواع الوقف: بناءُ مراكزِ الأيتامِ، ورعايتِهم والعنايةِ بهم، ومنها الوقفُ على جمعياتِ تحفيظِ القرآنِ الكريمِ، ومنها الوقفُ على تفريجِ الكربِ من ديون وغيرها، فكم من مسلمٍ لا ينامُ الليلَ من الهمومِ والغمومِ والديونِ التي لحقتْهُ، يقول صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: «ومن فرجَ عن مسلمٍ كربةً فرجَ اللهُ عنه بها كربةً من كُرَبِ يومِ القيامةِ» [صحيح مسلم: 2580].

بهذا يعلم أن أبوابَ الصدقة الجارية أبوابٌ كثيرة، وهي مرتبطة بحاجة الناس في دينهم ودنياهم. فاتقوا الله عبادَ الله، وقدِموا لأنفسكم خيرًا تجدوه عند الله، {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ} [آل عمران: 30]. ألا وصلوا على البشير النذير، والسراج المنير، فقد أمركم بذلك اللطيف الخبير.

  • 4
  • 0
  • 7,072
المقال السابق
[107] الصحابة عند أهل السنة
المقال التالي
[109] الصلاة الصلاة

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً