السلفية المعاصرة 1

منذ 2016-08-07

لا يستهويني كثيرًا اتساع رقعة النقد القائمة -اليوم- تجاه أدبيات ومنهجيات المدارس السلفية المعاصرة؛ لولوج هذا الباب فئام من الناس لا يكادون يحسنون أبسط مسائل العلم وتأصيلاته.. ولا تحسبن مقولتي هذه بمثابة المسوغ المقر لإشكالات وآفات السلفية المعاصرة -المستفيضة- منذ زمن ليس بقريب. بل يعلم جيدًا أولئك الذين شَرُفت بمتابعاتهم لي = أني من أكثر الناس نقدًا لتلك المناهج منذ أن ارتاد قلمي تلك الصفحات الزرقاء لعامين مضيا. وأصل ذلك أني أنقم على تلك المدارس أمورًا ليست بالهينة قبل أن تعرف تلك الثورات طريقًا إلينا.

على غير عادتي في عرض منشور طويل هكذا عليكم؛ غير أني أجده مهماً .. شاملاً .. حاويًا لخلاصة ما يمكن قوله في هذا الباب.

ثمرة جلسة كريمة ونقاش ماتع مع أخي الموفق أحمد سيف أفادني فيها بثمار جَنانه ورحيق بيانه .. فعزمت عليه عزمًا أن يكتب ما قال؛ رغبة مني في مشاركتكم هذا الجمال!

ونظرًا لغيابه -وفقه الله- عن الأزرق هذه الفترة .. فقد أردت التعجل بشرف نشره هنا .. (ملحوظة: هذا المنشور يحتاج كوباً من الشاي .. مع مزاج عالٍ ..)
وقتاً ممتعًا .. مفيدًا.

قال -نفع الله به- :
"الحمد لله المتفرد بصفات الكمال، وبعد:
أسطُر كلمات يسيرة في قضية أحدثت جدلًا كثيراً في يومنا هذا، أنطلق فيها من منطلق ما خرجه الإمام مسلم النيسابوري في صحيحه من حديث أبي رقية -تميم الداري- أن محمدًا نبي الله عليه دائم الصلوات والتسليم قال: «الدين النصيحة»، قلنا: "لمن؟"، قال: «لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم» (صحيح مسلم [55]).

فأقول مستعينًا بالذي جعل ميراث الأنبياء علمًا:
لا يستهويني كثيرًا اتساع رقعة النقد القائمة -اليوم- تجاه أدبيات ومنهجيات المدارس السلفية المعاصرة؛ لولوج هذا الباب فئام من الناس لا يكادون يحسنون أبسط مسائل العلم وتأصيلاته..

ولا تحسبن مقولتي هذه بمثابة المسوغ المقر لإشكالات وآفات السلفية المعاصرة -المستفيضة- منذ زمن ليس بقريب. بل يعلم جيدًا أولئك الذين شَرُفت بمتابعاتهم لي = أني من أكثر الناس نقدًا لتلك المناهج منذ أن ارتاد قلمي تلك الصفحات الزرقاء لعامين مضيا. وأصل ذلك أني أنقم على تلك المدارس أمورًا ليست بالهينة قبل أن تعرف تلك الثورات طريقًا إلينا.

والناس اليوم حيال ذلك على ضربين:
* طائفة يقع كثير من نقدها في محله؛ ومرد ذلك أن نقدهم قائم على أصول من العلم وبنيان من الفهم والتأصيل.
* وطائفة قام نقدها واستطار لا على شيء سوى ردة فعل -سلبية- تجاه أشياخ كانوا لهم يتعصبون، وبقولهم يقولون.
وحقيقة ذلك = أن هؤلاء القوم غضبوا غضبتهم تلك بعد عصر الثورات يوم أن أدركوا حقيقة ما كانوا فيه من طرق متوهمة انكشف زيفها مع جلاء موقف أكثر مشايخ الصحوة تجاه الأحداث الدامية.

فانبرى شباب الصحوة بإعلان البراءة من مشايخهم، من غير هدي حقيقي وتأصيل علمي يؤهلهم للخوض في تلك الماجريات.

بل وأكثر الأحكام التي أطلقها هؤلاء صوب أشياخ الأمس = ليست من العلم في شيء؛ بل هي أحكام جزافية مبناها الحب والبغض والعاطفة والحماس، بيد أن الفرق قائم جلي في أبواب الشريعة بين الحل والحرمة وبين العزائم والمعالي؛ ومن ثم وقع اتهام كثير من هؤلاء المشايخ في غير محله، وهذا باب يطول فيه الكلام، وقد أفردت له مقالاً عنونته: ما بين التخوين والاجتهاد، نشرته على شبكة المخلص بُعيد الانقلاب بأسابيع.

لذلك تجد الآن ممن يصوبون السهام تجاه المناهج السلفية من جعل جُل نقمته في جملة من مسائل الفروع الفقهية، وكأن هذا هو مدار النزاع الأوحد، وهذا وهم بيّن. بل وتجد من أولئك من لا يحسن هذا جملة وتفصيلًا؛ فتجد من يساوي بين جملةٍ من المسائل الفرعية الفقهية واضعًا إياها في سلة واحدة، رغم كونها متباينة كل التباين عند السلف الأولين.

فتبصر من يجعل خلاف اللحية وحلقها كالنقاب، والنمص كالمعازف.
فتراه ينكر على سلفيّ زمانه التشديد في تلك المسائل.
وهذا غلط لا محال، لما في تلك المسائل وأشباهها من تباين شديد من حيث درجة الخلاف -وجودًا وعدمًا، وشذوذًا وضعفًا-.

بل ومن تلك المسائل ما يكون الحق فيه مع ما اشتهر عن السلفيين؛ كتحريم المعازف وتحريم حلق اللحية.

ومنها ما يكون لهم فيه وجه قوي أو على الأقل ليس بمنكر ضعيف؛ كتحريم النمص على هيئته المشهورة -أعني النتف- وهو مشهور مذهب أحمد، وكذلك القول بوجوب تغطية الوجه، وهو ظاهر كلام أصحاب أحمد، ووجوب الجماعة، وهو المعتمد في مشهور مذهب الحنابلة، وغير ذلك من المسائل المتقررة بقوة عند الأئمة.

ولعلي أعرج قليلًا على تلك المدارس السلفية المنتشرة في أزماننا قبل أن أخوض في غمرات ما أظنه من نقدٍ وتأصيلٍ وفق ما بلغ إليه اعتقادي وفهمي وإن قصُرا.

الذي يظهر لي أن أصل تلك المدارس جميعًا = الدعوة السلفية النجدية التي خرجت في جزيرة العرب بالدعوة إلى التوحيد والنذارة عن الشرك المنتشر هنالك يومئذ.

وبعيدًا عن الخوض في معترك مسائل الاعتقاد والتوحيد وحسنات الدعوة ومآخذها، فإن المذهب الفقهي المعتمد رسميًا في أدبيات الدعوة النجدية = مذهب الإمام المبجل أحمد بن حنبل رضي الله عنه، نص عليه إمام الدعوة محمد بن عبد الوهاب التميميّ رحمه الله.

وهذا متواتر مشهور عن إمام الدعوة ومن بعده من متقدمي أئمة الدعوة، بيد أنهم مقرون بجواز الخروج عن المنصوص عليه في معتمد مذهب أحمد، إذا ما تبين لهم وجه صوابه، شريطة أن يقول بقولهم أحد الأئمة المعتبرين من سائر الأربعة رضي الله عنهم، ومن ذلك أيضًا القول ببعض روايات المذهب المخالفة لما اعتمده محققو المذهب ومحرروه.

إضافة لحفاوتهم الشديدة باختيارات شيخ الإسلام -أنزل الله على قبره شآبيب الرحمات- وابن القيم -طيب الله مثواه- من بعده، بل وتقديمها على مشهور المذهب أحيانًا.

ورغم عدم الانضباط الكلي -فيما يظهر لي- في التطبيق العملي لهذه المنهجية،إلا أن الأمور في بادىء الأمر كانت محكمةً إلى حد بعيد.

ويُنسب في ذلك قول إلى إمام الدعوة يعلن فيه التمرد على ما اعتمده متأخرو مذهب أحمد من المحققين والمحررين فيما يعرف بالمذهب الاصطلاحي.

فورد عنه أنه قال: "أكثر ما في المنتهى والإقناع مخالف لمذهب أحمد" انتهى.

وهما -أعني المنتهى والإقناع- عمدة المذهب الاصطلاحي عند المتأخرين، وعليهما المعول في الفتيا والقضاء، وفصل الخطاب في مشهور المذهب وما خالفه.

وفي ثبوت هذا عنه تردد، بل ينفيه بعضهم، والذي يظهر لي استبعاد أن يقول بهذا عالم بلغ منزلة علية كالتي بلغها محمد بن عبد الوهاب، خصوصاً أن الشيخ صنف كتابه أداب المشي إلى الصلاة من بين ثنايا كتاب الإقناع وسطوره، وللشيخ اختصار للإنصاف والشرح الكبير، فيبعد أن يقول مثل هذا رغم عنايته بكتب المتأخرين والله أعلم. وسواء قال به هو أو غيره، فلاشك أن ذلك مردود على قائله بلا أدنى ريب. علمًا بأن الشيخ نفى عن نفسه -غير مرة- القول بالاجتهاد المطلق ومخالفة مذاهب الأئمة بالكلية، وأثبت لنفسه التقليد واتباع الأئمة المعتمدين.

ومن ذلك قوله: "فنحن متبعين غير مبتدعين، على مذهب الإمام أحمد، ومن البهتان الذي أشاع الأعداء: أني أدعي الاجتهاد ولا أتبع الأئمة".

وقال عنه محمود شكري الآلوسي -البغدادي السلفي-: "فإن أهل نجد كلهم على مذهب الإمام أحمد، مقلدون له في الفروع وموافقون له في الأصول، وقد صرح الشيخ محمد بذلك في كثير من رسائله، وهو لم يدعِ الاجتهاد ولا دعا أحدًا من الناس لتقليده".

ظلت المنهجيات الفقهية منضبطة إلى حد بعيد في أروقة الدعوة زمنًا، إلى أن بدأت البوصلة الفقهية في الانحراف تدريجيًا، وأظن أن درجة الميل بدأت في الاتساع نسبيًا بعد موت الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله الذي تصدر إمامة الدعوة -رسميًا- في زمانه، وهو أحد أشياخ ابن باز، رحم الله الجميع. ثم وصلت درجات الانحراف إلى أعلاها في يومنا هذا.

وحوت الدعوة جمعًا فريدًا من الأشياخ والعلماء بلا شك في طيات تلك السنين المتقدمة كابن قاسم وابن سعدي والبسام، ثم ابن عقيل -الملقب بشيخ الحنابلة- وابن جبرين، وغيرهم كثير.

ظهرت عدة مدارس سلفية في جمع من البلدان -تبعًا- في مصر والأردن والشام واليمن والشمال الإفريقي..
وكان من أبرزهم المدرسة الألبانية، نسبة للإمام المحدث ناصر السنة الألباني -رحمه الله- التي تعد -فيما أحسب- من أكثر المدارس تغريدًا بعيداً عن مذاهب الأئمة والخروج عنها وعن اختياراتها، بل والخروج عن إجماعات الأولين.

ولا يزال تأثير تيك المدرسة إلى يومنا هذا ممتدًا مستطيراً على عدد من شباب الصحوة في أقطار متفرقة متباعدة.
في حين كان قطبا مدرسة نجد يومئذ: الشيخان العظيمان، ابن باز وابن عثيمين -رحمهما الله-، ولعل المدرسة الفقهية العثيمينية أكثرهن تحررًا داخل نجد وجزيرة العرب، وترى الشيخ كثيراً ما يقدم أقوال شيخ الإسلام على غيره من سائر الأئمة الأربعة، وعامة المتقدمين.

ولا أظن أن المدرسة السلفية المصرية لها هوية واضحة، سوى أنها تتبع ما سبق وتسير وفق منهجيات متخبطة تخلط ما بين مناهج هؤلاء الأشياخ دون قاعدة مطردة. فهم -أعني جمهورهم- في النهاية مقلدون متبعون لمن سبق ذكرهم من الأشياخ ، إلا قليلًا منهم، على ما بين هؤلاء الرموز السلفية من تباين، فمنهج ابن باز مغاير تماماً لمنهج الألباني، ومنهج ابن عثيمين كذلك، ومن ذلك تقرير ابن باز لرسالة الشيخ إبراهيم الصبيح والانتصار لقوله في معرض رده على ابن عثيمين في قوله بإطلاق قصر الصلاة للمسافر -الذي ينوي الإقامة زمنًا يجاوز ما حده العلماء للقصر- وقد خالف فيها ابن عثيمين جمهرة الفقهاء وعامة السلف ومنهم الأئمة الأربعة، بل وحكى فيها ابن المنذر وغيره الإجماع.

في أثناء ذلك نشأت عدة مدارس ليس لها بالسلفية ثمة علاقة، ونسبت نفسها إلى السلفية -زورًا وبهتانًا- ومن أبرزها الجامية في الجزيرة، وتفرع عنها المداخلة في مصر والحجوريون في اليمن، وغيرهم، وهم المعنيون أصالةً بمصطلح: أدعياء السلفية.

ثم امتدت تلك الطائفة إلى بلدان إفريقيا وأوروبا، وليس لي في هؤلاء في مقالتي كلام.

الكلام عن السلفية المعاصرة وجذورها يحتاج لمصنفات مستقلة، لكني فقط أردت أن أقدم مختصرًا يسيرًا بين يدي مقالتي هذه.

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام

محمد عطية

كاتب مصري

  • 7
  • 0
  • 5,258

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً