هناك من يعلم ما فعلت

منذ 2016-08-15

نتستر منهم ونخشى الفضيحة أمام أعينهم ونستحيي من نظراتهم، بينما لا نخجل منه! رغم علمنا بعلمه دقائق أحوالنا، وإحصائه لهفواتنا، فضلًا عن كبائر أخطائنا وخطيئاتنا! لماذا لم نستح منه ولماذا لم يأبه كثير منا بعلمه ونظره؟!

في التسعينات من القرن الميلادي الماضي خرج إلى شاشات السينما فيلم رعب أمريكي يعد من الأفلام التي صُنعت على منوالها مجموعة كبيرة من الأفلام تسير على نفس الطريقة بل لفرط نجاحه تم عمل أكثر من جزء منه بنفس الفكرة وأحيانا بنفس الأبطال

عنوان معبر اختاره صناع الفيلم للجزء الأول وهو:

"أنا أعلم ما فعلتم في الصيف الماضي"

I know what you did last summer

في العام التالي كان الجزء الثاني وبنفس الأبطال وكان العنوان شبيها ولم يزد إلا كلمة واحدة

كلمة لا زلت still

I still know what you did last summer

"لا زلت أعلم ما فعلتم في الصيف الماضي"

بعدها بعدة أعوام علمت أن جزءا ثالثا تم إنتاجه وكان العنوان شبيها أيضا بالعناوين السابقة

"سوف أظل دائما أعلم ما فعلتم بالصيف الماضي"

I'll Always Know What You Did Last Summer

 

أتذكر جيدًا فكرة ذلك الفيلم منذ أيام الصبا والمراهقة حيث كنت أشاهد مثل هذه الأعمال وكأنني شاهدته بالأمس

فكرة كابوسية هي، ربما لا يطيق بشر التعايش معها...

أن يعلم بشر مثلك أسوأ ما فعلت!

كان ما فعله مجموعة المراهقين أبطال الفيلم في ذلك الصيف ما يسمى بجريمة صدم وهروب، ولكن هذا الهروب لم يكن هروبًا عاديًا!

إن حادث سير قد أودى بحياة أحد المارة على الطريق السريع حين حطمت جسده سيارتهم المسرعة، ربما كان الحادث غير مقصود، وربما كان سفههم وسرعتهم الجنونية، أو الخمر التي أذهبت بعقولهم وتركيزهم سببًا في الحادث، لكن المشكلة الأخطر كانت فيما فعلوه بعد ذلك...

لقد ألقوا بجثة الذي صدموه في البحر وهربوا ثم ظنوا أن الأمر انتهى بمجرد هروبهم ومرور الأيام والشهور ونسيانهم لكل ما حدث!

لكنه لم ينته!

لقد بدأ للتو!

بدأ حينما طاردهم ذلك المجهول الذي يختم كل ما يفعله معهم بهذه الجملة عنوان الفيلم وأجزائه...

 

أنا أعلم ما فعلتم في الصيف الماضي!

 

إذا فالجريمة لم تسقط والخطيئة لم تُنس!

هناك من لم يزل يتذكرها... والأهم أنه يحاسبهم الآن عليها!

لن أطيل في ذكر الأحداث الكابوسية التي مرت بأبطال الفيلم، والتي لا أتذكر أكثرها لكنني أتذكر جيدًا أدت لتلك النتيجة التي خلصت إليها منذ سطور والتي لم تغادر ذهني بسهولة..

إنهم لم يعودوا يطيقون العيش مع تلك الفكرة..

 

هناك من يعلم أبشع أسرارهم..

وسيحاسبهم عليها!

والخطيئة لم تمر!

والمسؤولية لم تسقط!

هناك من يعلم!

ويحاسب ويعاقب!

وسيبوء كل منهم بما فعل..

سيبوء بذنبه!

 

المشكلة أن كثيرًا منا لا يتعايش مع فكرة أن يعلم بشر أكثر أسراره خزيًا، ويطمئن حين تستر تلك الخبايا والأسرار ويجيد إخفاءها، بينما لا يأبه للحقيقة التي ليس منها مهرب..

حقيقة أن هناك بالفعل من يعلم!

{يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَىٰ} [الأعلى من الآية:7].

{يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} [طه من الآية:7].

{يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت من الآية:45].

{يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ} [التوبة من الآية:78].

{يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ} [المائدة من الآية:99].

{يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ} [البقرة من الآية:235].

{يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [المائدة من الآية:97].

{يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ} [الأنعام من الآية:3].

{يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر:19].

{يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ ۗ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} [الحج:76].

{يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۖ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَىٰ ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَىٰ مِن ذَٰلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ۖ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۚ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المجادلة من الآية:7].

هذه الآيات المحكمات الواضحات القاطعات البينات ومثلها كثير مما تمتلئ به صفحات القرآن تظهر هذه الحقيقة جلية حاسمة.

الله يعلم.

والمسلم يعلم أن الله يعلم!

وهو على علمه بكل ما فعلنا وما نفعل؛ قادر مقتدر سريع الحساب شديد العقاب.

رغم ذلك يفزعنا علم المخلوق ولا نطيق كشف عورات أفعالنا وانتهاك حرمة خطيئاتنا أمام فانين مثلنا..

نتستر منهم ونخشى الفضيحة أمام أعينهم ونستحيي من نظراتهم، بينما لا نخجل منه! رغم علمنا بعلمه دقائق أحوالنا، وإحصائه لهفواتنا، فضلًا عن كبائر أخطائنا وخطيئاتنا!

 

فلماذا إذًا؟!

لماذا لم نستح منه ولماذا لم يأبه كثير منا بعلمه ونظره؟!

 

تأتيك الإجابة في آية من سورة فصلت

{وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَٰكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِّمَّا تَعْمَلُونَ} [فصلت:22].

إنه الظن الحقيقي..

الظن المترسخ في قلوبنا والذي يحول معلومة أن الله يعلم إلى حقيقة نابضة نحيا بها ونتحرك من خلال إدراكنا العملي لها.

 

هنا يظهر معنى تلك الكلمة التي علمنا إياها نبينا صلى الله عليه وسلم..

كلمة «وَأَبُوءُ لَكَ بِذَنْبِي» (صحيح البخاري [6306])..

أتحمله..

أستشعر ثقله على كاهلي..

أدرك عاقبته ومآلاته..

أعرف مسؤوليتي عنه..

وأبوء بكل ذلك!

يُخشى أن من لم يفعل ذلك منا يقع تحت طائلة ما هو أخطر من أي مما يضرب به المثل في أفلام الفزع الخيالية

طائلة مآل سوء الظن بالله

ذلك الذي حذر منه ربنا من وقعوا في مثل ما وقعنا فيه فلم يستحيوا من علم الله وسمعه وبصره فقيل فيهم:

{وَذَٰلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنَ الْخَاسِرِينَ} [فصلت:23].

ظنٌ أردى وأهلك!

أردى وأهلك حين لم تتحول معلومة أن الله يعلم إلى حقيقة نابضة نحيا بها ونتحرك من خلال إدراكنا العملي لها..

حقيقة تجعل دومًا نصب أعيننا..

حقيقة تتجاوز أعتى الأفلام الخيالية والروايات التي تحبس الأنفاس!

حقيقة أنه يعلم ما فعلت!

ولم يزل يعلم.ز

وسيظل دائمًا وأبدًا... يعلم..

يعلم كل ما فعلته ليس فقط في الصيف الماضي ولا الذي قبله ولا الذي قبله..

ولكن في كل لحظة مرت بك.. وتمر... وستمر..

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام
  • 2
  • 0
  • 5,140

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً