قراءة في ظاهرة التطاول على (النِّقاب)

منذ 2010-10-14

عاد المعارضون إلى تطاولاتهم على "النِّقاب" ووصمه بما قدروا عليه مِن اتهامات "التخلُّف" و"منع التواصل بين فئات المجتمع" وغير ذلك مما هو معلومٌ في كلامهم الذي تجري به "وسائل الإعلام" في أيامنا هذه..



الحمدُ لله رَبِّ العالمين، وصلَّى الله وسلَّم على المبعوث رحمة للعالمين، ورضي الله عن آله وصَحْبِه أجمعين، ومَنْ تَبِعَهم بإحسانٍ إلى يومِ الدِّين، أما بعد:
فقد رجعت من جديدٍ "معركة النِّقاب"، التي يخوضها ضد معارضيه ومخالفيه، الذين اعتادوا إشعال فتيل الحرب ضده؛ كلما سنحتْ لهم الفرصة.

وعاد المعارضون إلى تطاولاتهم على "النِّقاب" ووصمه بما قدروا عليه مِن اتهامات "التخلُّف" و"منع التواصل بين فئات المجتمع" وغير ذلك مما هو معلومٌ في كلامهم الذي تجري به "وسائل الإعلام" في أيامنا هذه.

وقَوَّى المعارضون ما فاهوا به ببعض الزلَّات الصادرة عن شخصياتٍ إسلاميةٍ لها "رمزيّتها" في العالم الإسلامي، فلبس المعارضون لباس المفتين والعلماء، وخاضوا في صياغة حكم النقاب الشرعي بما يوافق أغراضهم، فبدأ كلامهم بالتهوين مِن شأنه وانتهى إلى القطع بعدم إسلاميَّته.

فكأَنَّ المَعَرِّي قصدَهم بقوله (1):
 

هلْ صَحَّ قولٌ مِن الحاكي فَنَقْبَلَهُ *** أَمْ كلُّ ذاكَ أَباطِيلٌ وأَسْمَارُ؟
أَمَّا العقولُ فَآلَتْ أنَّهُ كَذِبٌ *** والعقلُ غَرْسٌ له بالصِّدْقِ إِثْمارُ

وبقوله (2):
 

قَدْ بالَغُوا في كلامٍ بَانَ زُخْرُفُهُ *** يُوهِي العُيونَ، ولم تَثْبُتْ له عَمَدُ
وما يَزالونَ، في شَامٍ وفي يَمَنٍ *** يَسْتَنْبِطُونَ قياسًا مَا لَهُ أمَدُ
فَذَرْهُمُ ودَنَايَاهُمْ، فقدْ شُغِلُوا *** بها، ويَكْفِيكَ منها القادرُ الصَّمَدُ


وكأَنَّ "النقاب" يُردِّد مع المعرِّي قوله (3):
 

بــأيِّ لســانٍ ذَامَنِي(4) مُتَجَاهِل *** عَلَيَّ، وخَفْقُ الرِّيحِ(5) فِيَّ ثَنَاءُ
تكلَّمَ بالقولِ المُضَلِّلِ حاسِدٌ *** وكلُّ كلامِ الحاسدين هُرَاءُ
ومَنْ هُوَ، حَتَّى يُحْمَلَ النُّطْقُ عن فَمِي *** إِليه، وتَمْشِي بيننا السُّفَرَاءُ؟


وكأَنَّ المنتقبة تردِّد مع المعرِّي قوله (6):
 

تُعَدُّ ذُنوبي عند قومٍ كثيرةً *** ولا ذنبَ لي إِلَّا العُلَى والفَواضِلُ
وقد سارَ ذِكْرِي في البلادِ، فَمَن لهمْ *** بإِخْفَاءِ شمْسٍ، ضَوْؤُها مُتَكَامِلُ؟
وأَغْدو، ولو أَنَّ الصَّباحَ صَوَارِمٌ (7) *** وأَسْرِي (8)، ولو أَنَّ الظلامَ جَحَافِلُ
ولَمَّا رأَيتُ الجهلَ في النَّاسِ فاشِيًا *** تَجَاهَلْتُ، حتى ظُنَّ أَنِّيَ جَاهِلُ
إِذا أَنتَ أُعْطِيتَ السعادةَ لَمْ تُبَلْ (9) *** وإِنْ نظرَتْ، شَزْرًا، إليكَ القَبَائِلُ


فلندَع المَعَرِّيَّ ولنرجع إلى ما نحن فيه حيثُ الأمر لم يعُد مقتصِرًا على بلدٍ دون أخرى، وإنما أصبح التطاول على النِّقاب ظاهرةً عالميَّة، تستدعي إعادة قراءة المسألة مرةً أخرى، للوقوف على أبعادها الحقيقية.
وهذا يستلزم الكلام في أكثر مِن جهةٍ أقتصر منها الآن على أمرين؛ أحدهما: مِن جهة الدليل على شرعية النِّقاب، والثاني: مِن جهة حقيقة الخلاف بين النقاب ومعارضيه.


فأما مِن جهة الدليل على شرعية النِّقاب:
فالنقاب كغيره مِن شئون المسلمين، لا يمكن الوقوف على حُكْمِ شيءٍ منها بمعزلٍ عن الإسلام بشموليته وترابط أركانه وتشريعاته، فكان لزامًا على مَن أراد الوقوف على حكم النقاب مِن جهة الشرع أنْ يضعه في مكانه بين النصوص والشرائع الإسلامية، ويُعيد قراءة الصورة مِن كلِّ زواياها وأطرافها؛ لتظهر له المسألة بوضوحها وكمالها؛ كما هي في حقيقتها، لا كما يُرَاد لها أن تكون.


وأول ما يقابلنا في أركان هذه الصورة هو اتِّفاق المسلمين جميعًا قديمًا وحديثًا على ستر المرأة لوجهها أمام الرجال الأجانب عنها، مهما كان الخلاف الفقهي المتوارث لدى المسلمين ما بين وجوب النقاب أو استحبابه، فهذا الخلاف الفقهي بين الوجوب والاستحباب لم يتجاوز حدَّ الخلاف الفقهي على الثواب والعقاب المترتِّبِ، ولم ينتقل هذا الخلاف إلى الشارع فيصبح ظاهرةً عامة، وبعبارةٍ أخرى فإِنَّ اختيار فريقٍ مِن أهل العلم لاستحباب النِّقاب لم يترتَّب عليه أنْ يصبح كشف الوجه ظاهرةً عامةً في الأمة على مدار تاريخها مثلًا، وإِنَّما جَرَتْ عادة النساء على ستْر الوجه، بغض النظر عن الحكم الشرعي الذي يتبناه هذا العالم أو ذاك، ما بين وجوبٍ أو استحبابٍ.


وقد نقل إمام الحرمين الجويني اتفاقَ المسلمين على منع النساء من الخروج كاشفات الوجوه؛ وذكر عددٌ مِن أهل العلم ذلك نقلًا عن الجويني ولم يتعقَّبه بشيءٍ.
فعلى سبيل المثال يقول الإمام تقي الدين الحصني: "ثم إن النظر قد لا تدعو إليه الحاجة(10)؛ وقد تدعو إليه الحاجة؛ الضرب الأول: أنْ لا تمسّ إليه الحاجة؛ فحينئذ يحرُم نظر الرجل إلى عورة المرأة الأجنبية مطلقًا، وكذا يحرُم إلى وجهها وكفَّيْها إِنْ خاف فتنة، فإِنْ لَمْ يخفْ ففيه خلافٌ؛ الصحيح: التحريم؛ قاله الاصطخري، وأبو علي الطبري، واختاره الشيخ أبو محمد، وبه قطع الشيخ أبو إسحق الشيرازي، والروياني، ووَجَّهَهُ الإمامُ(11) باتِّفاق المسلمين على منع النساء مِن الخروج حاسِرَاتٍ سَافِرَاتٍ(12) وبأنَّ النظر مظنّة الفتنة وهو محرِّك الشهوة فالأليق بمحاسن الشرع سد الباب والإعراض عن تفاصيل الأحوال كما تحرُم الخلوة بالأجنبية. ويحتجّ له بعموم قوله تعالى: { قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور: 30]. وهل للمراهق النظر؟ وجهان؛ أصحهما أنَّ نَظَرَهُ كنظرِ البالغ؛ لظهوره فيه على عورات النساء، فعلى هذا المعنى أنه كالبالغ، ويجب على المرأة أَنْ تحتجبَ عنه، كما أَنَّه أيضًا يلزمها الاحتجاب مِن المجنون قطعًا، ويلزم الولي أَنْ يمنعه مِن النظر كما يلزمه أنْ يمنعه مِن الزنا وسائر المحرّمات" أهـ(13).


ويقول الإمامُ ابنُ حجرٍ العسقلاني: "ولَمْ تَزَلْ عادة النساء قديمًا وحديثًا يَسْتُرْنَ وجوههنَّ عن الأجانب" أهـ(14).
وقال الإمام ابن حجر في موضعٍ آخر: "قوله( 15): (باب نظر المرأة إلى الحبشة ونحوهم مِن غير رِيبةٍ): وظاهر الترجمة أَنَّ المصنِّف(16) كان يذهب إلى جواز نظر المرأة إلى الأجنبي بخلاف عكسه، وهي مسألة مشهورة"؛ إلى أَنْ قال ابن حجر: "ويقوِّي الجواز: استمرار العمل على جواز خروج النساء إلى المساجد والأسواق والأسفار منتقبات لئلا يراهن الرجال، ولم يؤمر الرجال قط بالانتقاب لئلا يراهم النساء، فدلّ على تغاير الحكم بين الطائفتين، وبهذا احتج الغزالي على الجواز فقال: لسنا نقول أنَّ وجه الرجل في حقّها عورة كوجه المرأة في حقّه بل هو كوجه الأمرد في حقّ الرجل فيحرم النظر عند خوف الفتنة فقط وإنْ لم تكن فتنة فلا إِذْ لم تزل الرجال على ممر الزمان مكشوفي الوجوه والنساء يخرجن منتقبات(17) فلو استووا لأُمِرَ الرجال بالتنقّب أو مُنِعْنَ(18) مِن الخروج" انتهى(19).

ونقل الشوكاني وغيره عن ابن رسلان قوله بـ: "اتفاق المسلمين على منع النساء أن يخرجن سافرات الوجوه؛ لا سيما عند كثرة الفُسَّاق" أهـ(20).
وهذه الأقوال وما يجري مجراها يدل على استمرار عمل المسلمين بالنقاب، وخروج النساء منتقبات، ومنعهنَّ مِن الخروج كاشفات الوجوه، بغض النظر عن الاختيار الفقهي الخاص بوجه المرأة، وهل هو مِن العورة أم لا؟ وهل يجب عليها تغطيته أم يستحب لها ذلك؟ فهذا الخلاف الفقهي ظلَّ محصورًا في نطاق الآراء، ولم ينتقل إلى عملٍ.


وهذه العادة المضطردة للمسلمين على مَرِّ الزمان لا يجوز لأحدٍ خرقها، خاصةً بعد الفساد الذي حَلَّ بالناس في هذه الأزمان، ولو لم تدل النصوص الشرعية على العمل بالنقاب لكان مشروعًا بناء على العُرف والعادة الجارية المستمرة، والقاعدة في ذلك أَنَّ "العادة مُحَكَّمة"(21)، وما كان الله عز وجل ليجمع المسلمين عبر هذه الأزمان المتتالية على ضلالةٍ.
فمَنْ ذا الذي يُجَوِّز لنفسه اليوم مخالفة سبيل المؤمنين على مَمَرِّ الأزمان؟، خاصة وقد نزلت النصوص المُشَرِّعة للنقاب أول ما نزلتْ على أطهر القلوب وأصفاها، فقالت: سمعنا وأطعنا، وكان النبي صلى الله عليه وسلم بينهم، يُربِّيهم ويصنعهم على عينه، وتحت سَمْعِه وبصره صلى الله عليه وسلم، والناس تنتشر فيهم خصال النخوة والغيرة والمروءة، ونحوها مِن خصال الخير.

فالرجال والنساء حينئذٍ أَغْيَر الرجال، وأطهر الرجال، وأعظم الرجال، وأعف الرجال، ومع ذلك كله يأمرهم الله عز وجل جميعًا، رجالًا ونساءً؛ بغض النظر، فيقول سبحانه لنبيِّه صلى الله عليه وسلم: { قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ. وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُ نَّ} [النور: 30- 31]، وأمرَ عز وجل نساءَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم (ونساء المؤمنين لهُنَّ تبع) بعدم الخضوع بالقول في حديثهنَّ؛ فقال سبحانه: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا } [الأحزاب: 32]، فجعل سبحانه هذه التدابير الاحترازية حاجزًا يحول بينهُنَّ وبين طمع مَن في قلبه مرض.


وفي سياق هذه التدابير الاحترازية نجد تدبيرًا احترازيًّا آخر يتمثل في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ المُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الأحزاب: 59]، وقد كان ذِكْر أزواجه وبناته صلى الله عليه وسلم في هذه الآية الكريمة كافيًا في تأكيد الأمر لعموم نساء الأمة؛ لأنه إذا أُمِرَتْ أمهات المؤمنين، وبنات النبي صلى الله عليه وسلم بذلك؛ كان غيرهنَّ أولى وآكد بالأمر؛ لكن في ذِكْر { وَنِسَاءِ المُؤْمِنِينَ } في الآية الكريمة زيادة تأكيد لأمر نساء المؤمنين بما أُمِرَتْ به أمهات المؤمنين وبنات النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه أيضًا ردٌّ على مَن قد يزعم تخصيص الأمر بأمهات المؤمنين وبنات النبي صلى الله عليه وسلم.

ولا منافاة بين هذا كله وبين قوله تعالى: { وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا }؛ لأنَّ الراجح في تفسير ما ظهر منها هو الثياب الظاهرة التي تظهر ضرورة، خلافًا لمن فسَّر { إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} بالوجه والكفين؛ لأنّ الاستثناء هنا من الزينة، وهي أقرب مذكور في السياق، وليس من الجسد، فلزِمَ مِن ذلك أن يكون ما ظهر منها هو الثياب أو الخمار أو النقاب، فهذا كله يظهر ضرورة، وهو من الزينة؛ كما قال الله تعالى: { يَا بَنِي آَدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ } [الأعراف: 31]، وقد صحَّ تفسير { ما ظهر منها} بالثياب عن جماعة مِن السلف؛ منهم ابن مسعود رضي الله عنه، من الصحابة، وإبراهيم النَّخَعِيِّ، مِن أئمة التابعين(22).

والثياب المقصودة هنا هي الزينة الظاهرة؛ لأن الآية تتكلم حول { ما ظهر منها}، ويُلْتَقَط هذا المعنى مِن مثل قول الطبري(23): "وهما زينتان؛ إحداهما: ما خَفِي، وذلك كالخلخالين والسوارين والقرطين والقلائد، والأخرى: ما ظَهَرَ منها..." أهـ، وروى الطبري والطحاوي(24) وغيرهما؛ نحو هذا التفسير عن ابن مسعودٍ رضي الله عنه.


ويُؤَكِّد ذلك أيضًا: قوله تعالى: { يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ}، وقوله سبحانه: { وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ }، وأمثال هذه الآيات التي تدلّ على أَنَّ الخطاب متوجِّهٌ إلى تشريعٍ خاصٍّ بشيءٍ (عضوٍ) من المرأة، بخلاف آية الزينة، فالخطاب فيها متوجِّه إلى زينة المرأة لا إلى شيءٍ منها، وسياق الآيات صريحٌ في ذلك حيثُ تكلم عن تشريعات خاصة بأعضاء مِن المرأة ثم انتقل للكلام عن تشريع خاصٍّ بزينتها؛ فقال تعالى: { وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آَبَائِهِنَّ أَوْ آَبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعًا أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 31]، فذكرت الآية الكريمة نوعين مِن الزينة، الأول: لا يُبْدِينه إلا ما ظهر منها، والثاني لا يُبْدِينه إلَّا للأصناف المحدَّدة في الآية؛ فدلَّ ذلك على أَنَّ الزينة المعهودة للنساء لا تظهر إلا لمن حدَّدتْهم الآية، وأَنَّ الثياب الظاهرة هي المقصودة بالزينة الأولى في الآية، أو تكون الزينة التي أُجْمِلَت في أول الآية قد فُسِّرَتْ في آخرها، وفُسِّر الأصناف الجائز ظهور الزينة لهم دون غيرهم، وهم الذين ذكرتهم الآية الكريمة، فيكون المراد إلا ما ظهر من الزينة لأصناف بعينهم مِن الناس، وليس لمطلق الناس، ويؤيد ذلك أيضًا أَنَّ المرأة مأمورة بعدم التَّبَرُّج؛ فعُلِمَ بذلك أَنَّ الآية الكريمة إما أنها قد استثنتْ نوعًا بعينة مِن الزينة وهو اللباس الظاهر ضرورة، أو أَنَّها استثنت ما ظهر مِن الزينة لفئاتٍ بأعيانهم حددتهم الآية، دون بقية الناس، وقد يكون الاستثناء هنا يعني عند الضرورة والاضطرار؛ أي: ولا يبدين زينتهنّ إلَّا ما ظهر منها رغمًا واضطرارًا وضرورة مِن تمريضٍ ونحوه.

ولا أريد أن أستطردَ في الكلام على هذه المسائل، فلم أقصد هنا استيعاب النصوص الواردة في مشروعية النقاب أو استحبابه أو وجوبه، وإنما المقصود الإشارة إلى أصله الشرعي الإسلامي، وكينونته أحد التشريعات التي وردتْ بها النصوص الشرعية، ومَن أراد الاستزادة في أدلة مشروعيته والوقوف على حكمه وآراء العلماء فيه؛ فعليه الرجوع للمؤلَّفات المشهورة في هذا الباب.

وأَمَّا مِن جهة حقيقة الخلاف بين النقاب ومعارضيه:
فتظهر حقيقة هذا الخلاف بوضوح عند الربط بين العداء للنقاب والعداء لعددٍ من الشرائع الإسلامية الأخرى كالحج والآذان وصلاة الجمعة، فهناك عداء مستمرٌّ ومتجدِّد لهذه الشعائر وأمثالها، والرابط بين هذه التشريعات وما يجري مجراها: هو كينونتها من شعائر الإسلام المميِّزة لشخصيته عن غيره، فهي إذن ليست مجرَّد تشريعات إسلامية فقط؛ لكنها إلى جوار ذلك شعائر مُمَيِّزة للشخصية الإسلامية؛ إِذ هي الإعلان الظاهر والواضح عن الهوية الإسلامية والانتماء للإسلام، فالأمر في هذه الشعائر يتعدَّى مجرَّد العبادات إلى كونه علامة مُمَيِّزة للهوية الإسلامية، وإعلانًا ظاهرًا عن الإسلام، وإذا كان الكتاب يتضح من عنوانه؛ فإِنَّ هذه الشعائر وأمثالها هي مِن عنوان الإسلام الظاهر والدالّ عليه، ومِن هنا تأتي أهمية مثل هذه العبادات والتشريعات من الجهتين الإسلامية وغير الإسلامية على السواء.


فالعراك هنا ليس واقعًا مع عبادات أو تشريعات لها طابع الخفاء أو نحوه، وإنما العراك بين دينين وهويّتين، يُعْلن كلٌّ منهما عن نفسه بوسائل خاصة به، فيُعْلن الإسلام عن هويَّته بشعائره المُمَيِّزة لشخصيته، والتي تتجاوز حدّ الاستجابة والإذعان في خاصَّةِ الشخص، بخلاف العبادات العامة أو الظاهرة التي تتسم بالعموم والظهور، بحيث يراها المسلم وغير المسلم، ومنها النقاب الظاهر الواضح، الذي يراه الناس بأكملهم عندما تخرج المسلمة من بيتها لقضاء بعض حوائجها فتمرُّ على الناس، تخبرهم في صمتٍ، وتدعوهم في سكونٍ، وتُعلن بغير كلام وعبارات عن هويتها الإسلامية، وانتمائها الأصيل للشعائر الإسلامية، حينئذٍ يُخْرِج المخالفُ أضغانَه، مستخدِمًا في ذلك ما قَدَرَ عليه من ترغيبٍ وترهيب للمرأة المسلمة من جهة، ولمَن يتعاطف مع قضيتها من جهة أخرى(25)، والمخالفُ في عدائه للنِّقاب خاصة أو لشعائر الإسلام عامة قد يتزيَّن ليصل إلى مراميه بأقصر الطرق وأقلّها ثمنًا؛ فتراه يختفي خلف "اللافتات" التي فرَّغها من محتواها؛ كالحرية الشخصية وحقوق الإنسان، ونحو ذلك مما يتذرَّع به لتنفيذ أغراضه، لكنه حين يتزيَّن بهذه "اللافتات" يضع لها من الضوابط والقيود ما يجعلها قاصرة عليه، فلا يسمح لأحدٍ غيره باستخدام تلك اللافتات لنصرة حقٍّ أو إبطال باطلٍ؛ إلَّا فيما يُمَكّنه هو مِن أداء دوره والوصول لأهدافه، فالحرية الشخصية مقصورة على أصحاب "اللافتات" المزيفة، وحقوق الإنسان عندهم وحدهم؛ ولذا تراهم ينعون كلبًا أو قطة ماتت عندهم، بينما لا يكترث هؤلاء لعشرات الأرواح المسلمة البريئة.

وينسى هؤلاء جميع خلافاتهم ويتحدون في وجه امرأة منتقبةٍ هنا أو هناك، نظرًا لما يثيره نقابها في نفوسهم مِن زلازل عميقة لاتصال الأمر بالهوية، ولذا يتحدثون عن الهوية بجوار حديثهم عن النقاب ومحاربتهم له، ويجمعون بين الأمرين في كثيرٍ من أحاديثهم بعبارة أو بأخرى.

وقد كان الشيخ علي محفوظ رحمه الله مُلْهَمًا عندما قال(26): "ومن العادات المحرمة: تقليد الأجانب في الملابس والأزياء حتى انتشر ذلك في النساء والأطفال، فإذا وقع بصرك على امرأة أو ابنة مثلًا رأيتها إفرنجية في كل شيء وهي زوجة أو ابنة مَن يَعُدُّ نفسه من جماعة المسلمين، وهذا ضلالٌ يفضي بالأمة إلى تلاشي قوميتها وعاداتها و شعارها حتى تندمج في غيرها" إلى آخر كلامه الذي يدلّ على العلاقة الوثيقة بين قضية الثياب والمظهر وبين قضية الدين والهوية الإسلامية لهذه الأمة.
ومما يؤكد هذا أَنَّ المسألة في عيون المعارضين للنقاب لا تقف عند منعه أو تشويه صورته، وإنما تتجاوز ذلك إلى منع كل أشكال الاحتشام أو تغطية الرأس بأي غطاء كان؛ والإلحاح الواضح على نشر كل ألوان التبرُّج وتوابعه من انفلاتٍ أخلاقيٍّ، فيصبح الناس وقد صارت المتبرِّجة نجمة مشهورة، في حين يتم التنفير من الطبيبة والباحثة والأستاذة الفاضلة لمجرد كونها ممن يرتدين النقاب، فالمسألة هنا تتجاوز حدَّ الخلاف الفقهي في حكم النقاب لدى علماء المسلمين، لتصبح دعوات منظمة ومتكررة إلى الانفلات، ثم يحاربون النقاب مِن جهةٍ لضمان نجاح سعيهم إلى الانفلات دون عوائق، ومِن جهةٍ ثانية: حتى ينغمس الجميع فيما هم فيه فيستوي الجميع في الفساد، فلا يفضلهم أحد، حسدًا مِن عند أنفسهم.


وأيضًا ممَّا يؤكد وقوف قضية الهوية وراء هذه التصرُّفات كلها: إصرار المخالف على تشويه صور بعض المشاهير ممن ارتدَيْنَ النقاب ودافَعْنَ عنه ودَعَوْن إليه؛ بخلاف عشرات المنتقبات غير المشهورات؛ واللاتي لا يُؤَثِّرْن في توجُّه الناس أو لفت انتباههم إلى النقاب والفضيلة، وهذا التمييز في التصرُّف تجاه المشهورة وغير المشهورة يؤكِّد أيضًا صلة النقاب بقضية التميُّز والهوية، وأن المسألة ليست خلافًا مع عبادة خفية، أو سلوكٍ شخصيٍّ؛ وإنما خلافهم مع المظهر الإسلامي المُمَيِّز للهوية الإسلامية، مهما تنوَّعَتْ أغراضهم ودوافعهم.

وهذا يُعطي قضية النقاب بُعْدًا آخر ينبغي أن لا يغيب عن أذهان المعالجين لقضيته؛ لأن الذي سيبدأ بالتنازل اليوم عن واجب أو مستحبٍّ؛ سيتنازل غدا عن معلومٍ مِن الدين بالضرورة؛ لأن معارضة النقاب إنما هي مظهرٌ ومقدِّمة لمعارضة الهوية الإسلامية كلها، ولن تقف المسألة عند النقاب؛ لأنها ليست خلافًا مع النقاب؛ وإنما هي خلاف مع الإسلام بكل شعائره وأشكاله.


وقد كان خلافهم قبل فترة قصيرةٍ مع اللحية أيضًا ثم هدأ الخلاف كثيرًا بعدما انتشرت اللحية في الأمم الأخرى بشكلٍ أو بآخر، وصار شكلها مألوفًا غير مختصٍّ بالمسلمين في نظر هؤلاء المعارضين، فهدأ الخلاف مع اللحية مقارنةً بما كان عليه سابقًا، وبقي الخلاف مع النقاب المختصّ بالمسلمين مستمرًّا، كما ثار الخلاف أيضًا مع الحجارة والجدران، عندما تشير هذه الحجارة إلى شيءٍ من شعائر الإسلام، فالخلاف ليس مع الطوب والجدران وإنما هو خلافٌ مع ما تشير إليه هذه الحجارة من المساجد في طول أوروبا وعرضها، أو مع المآذن كما حصل مؤخَّرًا في سويسرا التي أجرت الاستفتاء على حظر المآذن، ثم خطى بعض وزراء إيطاليا خطوة أخرى فقال بضرورة إجراء استفتاء استشاري قبل المضي في بناء المزيد مِن المساجد(27)، فانتقلت المسألة للمساجد بعدما كانت في المآذن، والحجارة هي الحجارة، تُبْنى بها الملاهي فلا تثور لهم ثائرة، فإذا بُنِيَتْ بها المآذن والمساجد ثارت الدنيا؛ لما تشير إليه حينئذٍ من الهوية الإسلامية.

فالخلاف كما هو واضح مع الهوية الإسلامية لا مع النقاب أو المآذن أو غيرها من شعائر الإسلام وخصوصيَّاته، ويتأكَّد هذا أكثر وأكثر عندما يصل اعتراضهم إلى لعبة أطفال يتم تصنيعها مرتدية الحجاب، لما في ذلك من إشارة إلى شعيرة إسلامية حتى وإنْ جاء ذلك عرضًا بدون قصدٍ من الصانع!، فما وجه الخلاف مع لعبة أطفال؟ وهل تملك لعبة الأطفال قوة يخشى منها هذا أو ذاك؟ لكن لما كانت المسألة تشير إلى شيء من شعائر الإسلام ثارت الثائرة على لعبة الأطفال أيضًا، واستدعَت المسألة عندهم سَنّ الترتيبات الصارمة في وجه هذه اللعبة.

وهذه الوقائع جميعها لا يسع أحدًا التعامي عنها وهو يتناول ظاهرة التطاول على النقاب التي تدور رحاها هذه الأيام، والتي لا يمكن معالجتها اقتصارًا على بيان حكم الإسلام في النقاب وجوبًا أو استحبابًا؛ فالمسألة أعمق مِن هذا بكثير، سواء في نظر الإسلام أو في نظر المعارضين له.
وفَّق الله الجميع إلى ما فيه صالح الإسلام والمسلمين.

---------------------------------------------------------
(1) «شرح اللزوميَّات» نظم أبي العلاء المعرِّي (2/77).
(2) المصدر السابق (1/403).
(3) والأبيات في «سقط الزّند» (ص/189) ضمن قصيدة «أمراء القوافي».
(4) ذَامَ فلانٌ فلانًا: عَابَه وحَقَّرَهُ. انظر: «تهذيب اللغة» للأزهريِّ (15/25).
(5) صوتها أو حركتها.
(6) المصدر السابق (ص/193- 194) ضمن قصيدة "ألا في سبيل المجد".
(7) الصَّارِمُ: السَّيف القاطع، والجمع صوارم، ومعنى البيت أَنَّه سيظل يسير إلى غايته مهما كانت التحدّيات التي يلاقيها، حتى لو كان الصباح سيوفٌ قاطعة والليل جيوشٌ مهلكة.
(8) يعني يسير بالليل.
(9) لم تُبالِ.
(10) الضرورة.
(11) إمام الحرمين: الجويني.
(12) كا شفات لوجوههن.
(13) «كفاية الأخيار في حَلِّ غاية الاختصار» للإمام تقي الدين الحصني (ص/466- 467)، وانظر أيضًا: «روضة الطالبين» للإمام النووي (7/21)، و«مغني المحتاج» (3/128).
(14) «فتح الباري بشرح صحيح البخاري» لابن حجر العسقلاني (9/235- 236، شرح الحديث رقم 5224).
(15) يعني الإمام البخاري في «صحيحه».
(16) الإمام البخاري.
(17) فالغزالي أيضًا مِمَّن يحكى خروج النساء منتقبات على مَمَرِّ الأزمان.
(18) يعني النساء.
(19) «فتح الباري» لابن حجر (9/248، شرح الحديث رقم 5236).
(20) «نيل الأوطار» للشوكاني (6/174)، أثناء الكلام على حكم نظر الرجل للمرأة، «عون المعبود شرح سنن أبي داود» لأبي الطيب محمد شمس الحق العظيم آبادي (11/162 ح4086) باب: «فيم تُبْدِي المرأة مِن زينتها».
(21) ينظر لهذه القاعدة: «القواعد الفقهية بين الأصالة والتوجيه» د.محمد بكر إسماعيل (ص/152)، «القواعد الفقهية المستخرجة من كتاب إعلام الموقعين» لعبد المجيد الجزائري (ص/347)، «القواعد الفقهية الكبرى» د.صالح السدلان (ص/325).
(22) روى الآثار بذلك عنهم: ابن أبي شيبة في «المُصَنَّف» (9/280- 281)، والطبري في «تفسيره» (17/256- 258)، والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (4/332)، والطبراني في «المعجم الكبير» (9/260) وغيرهم. وقال أبو حيان في «تفسيره» (6/412): «ونص على ذلك أحمد قال: الزينة الظاهرة الثياب»؛ يريد: الإمام أحمد بن حنبل رحم الله الجميع.
(23) في «تفسيره» (17/256).
(24) في المواضع المذكورة لهما آنفًا.
(25) نشرت جريدة «المصريون» الإلكترونية بتاريخ 12/12/2009م خبرًا بعنوان «فرنسا تمنع أزواج المنتقبات من الحصول على الجنسية»، وقالت فيه: «أعلنت وزيرة العدل الفرنسية ميشيل أليوت ماري أن الحكومة الفرنسية ستمنع إعطاء الجنسية الفرنسية للرجال الذين ترتدي زوجاتهم النقاب، وحاولت ماري تبرير قرارها قائلة: إن هؤلاء الرجال لا يؤمنون بما أسمتها القيم الفرنسية» إلى أنْ قال الخبر: «واعتبرت ماري، والتي كانت تشغل من قبل منصب وزيرة الداخلية والمسئولة أيضًا عن الأديان، أن المشكلة الحقيقية للنقاب هو أنه يمسّ حياة الفرنسيين ويمسّ أيضًا قيم فرنسا، وبالتالي فإن من يطلب الحصول على الجنسية الفرنسية بينما زوجته ترتدي النقاب، فإنه يكون بذلك شخصًا لا يشارك فرنسا قيمها وبالتالي فإنه يتعين رفض منحه الجنسية، على حد قولها».
http://www.almesryoon.com/news.aspx?id=21969

(26في كتابه «الإبداع في مضار الابتداع» (ص/413).
(27) نشرت جريدة «المصريون» الإلكترونية في يوم 2/ 1/ 2010م خبرًا تحت عنوان «وزير إيطالي متطرف يعلن الحرب ضد المساجد»، وقال الخبر: «قال وزير الداخلية الإيطالي، روبرتو ماروني، أنه من الضروري إجراء استفتاء استشاري قبل المضي في بناء مزيد من المساجد. واستنكر ماروني قرار مجلس بلدية جنوة، شمال غربي إيطاليا، القيام بتخصيص قطعة أرض للمسلمين لبناء مسجد. وقال: (أعتقد أن قرار بلدية جنوة قرار خاطئ ويجب اللجوء إلى استفتاء استشاري كما فعلت بلديات أخرى مهمة مثل بلدية بولونيا)، على حد ادعائه» أهـ. إلى أن قال الخبر: «يشار الى أن (روبيرتو ماروني) أحد قادة حزب رابطة الشمال المعروف بخطابه العنصري العلني المعادي للعرب والمسلمين» أهـ إلى آخر الخبر.
http://www.almesryoon.com/news.aspx?id=22886


 

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام
  • 109
  • 0
  • 8,789

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً