حارسٌ أخيرٌ لأشلاء المدينة

منذ 2016-12-22

أنتَ لا تعرفُ بعدُ قدرَ هذه المدينة، حلَبُ مخزنُ الأشلاء، صومَعةُ الثأر، لا نعرف مثيلتَها في خصوبة الانتقام.

الفوجُ الأخير من الأشباح يتجهّز للرحيل. غادرت الأفواج الأخرى كلّها، وأنا الذي كنتُ أظنّ أنّ المدينة العامرة بالسكون والصمت والغبار، ستظلّ عامرةً بالأشباح. حتى مقبرة الشهداء التي انتهى إليها لياذي بالمقابر، هاهُم سُكّانها يتأهبّون للمغادرة. كانت المقابر هي ملاذي الآمِن الوحيد. رُدِمَت أمي وأختي تحت أشلاء مَشفى الأطفال، وأُخرج أبي إلى فناء مدرسة "الذبّاح طه"، وأعدِم مع الباقين. كانوا يبحثون عن الأحياء في كل رُكن، داخل كلّ طلَل، فوقَ بقايا أيّ سقفٍ، وتحت كلّ حجَر، أمامَ كلّ فراغٍ، وخلَف كلّ ساتر، ولم يكُن شيء يشفع دون القتل أو يستر دون الموت، لا مسجدَ أو مشفىً أو مدرسةً أو مبنىً.. لا شيء يفعلُ إلا مقبرة. لم يلاحقوا إلا الأحياء، كلّ الأحياء، وليس ثمّة أحياءٌ يُتوقّع احتماؤهم في مقبرة.

بنظراتٍ كسيرةٍ ذاهلةٍ متدليّة، وجِلد وجهٍ مدبوغٍ بدماءٍ متجلّطة، وشعرِ رأسٍ خشّبته دماءٌ جافةٌ معجونةٌ بالغبار، ومِعطفٍ قصيرٍ لقيطٍ نجا من انفجار، وفردَتي حذائين متنافرتين تبني قدماي عليهما بعض الأمل.. انتهيتُ تلك الليلة إلى هذه المقبرة. ولم أكُن أنتقل إلا في الظلام، ولم أعرف مؤخرًا مخلوقًا أكثر أمانًا من الظلام، ومن الأشباح. فورَما وصلتُ انتفضَ أشباحُ المقبرة دهِشين لمرآي، تزاحموا في توتّر، تهامَسوا في شُورى لم تطُل، وأقبلوا عليّ:
-أنتَ وحدكَ أم معكَ آخرون؟
-وحدي.
عادوا للشورى متسارعين، وتحاسمَوا أمرًا، ثم صارحوني:
-كنّا ننتظرُ حيًا يأتينا، وقد جئتَ. فلتساعِدنا.

وساعدتُهم. إلى مقبرةٍ جماعيةٍ - تحت خزانات المياه على طريق العرقوب خلف جسر الصاخور- أرسلوني، ثمّة فوجٌ من الأشباح الحائرة لا يعلمون بوجودنا، وعليهم أن يتجهّزوا للإجلاء. مقبرةٌ أخرى خلف المساكن الشعبية على أطراف شارع الشيخ محسن، ممتدّة حتى أطلال المركز الطبّي. مقابر "تربة لالا"، ستصل إليها عبر قارلق ثم كرم الجبل فحيّ الشعّار. هذه المقبرة الإسلامية الحديثة التي تجاورنا هربت منها أشباحها دونَما سَبب، لن تحتاج إلى المرور عليها.

رُحتُ وأٌبتُ عبر أشلاء الحقائب وأكوام الجُثث، أحتمي بعتمةِ الشوارع وظلام العطَفات، أتحاشى بقايا الحياة التي لاذَت بنا وخذلناها، أتسمّع في حنينٍ لصدى أنين الأطفال وعويلِ الأمّهات، صرخات الرّجال الأخيرة، أتشمّم رائحةَ كلّ شيءٍ ولّى، كلّ ما ينبعثُ في ليل حلَب باتَ يؤنسني.

أعودُ إلى مقبرة الشهداء، وتغادر الأفواج، يشكرني الأشباح، أقاطعهم في كلّ مرةٍ ألا شُكرَ على واجبٍ، يشدّون على يدي المبتورة:
-أنتَ لا تعرفُ بعدُ قدرَ هذه المدينة، حلَبُ مخزنُ الأشلاء، صومَعةُ الثأر، لا نعرف مثيلتَها في خصوبة الانتقام.

يتجهّز فوجُهم الأخير، لم يبقَ من الأشباح غيرُهم. أترقّبُ وِحدَتي القادِمة. أسألهم..
-متى تعود الملائكة؟
-لن تعود. لم يعُد هناك ما يهمّ الملائكة في حلَب.
-وسأبقى وحدي؟
-ليس مطولاً. قريبًا سيصطفّ خلفك رُعاة الثأر؛ فلا تخذلهم.
-ولماذا لا تنتظرون معي؟
-هذه مدينةٌ لا تستحقّنا. ابقَ أنتَ كي تحرُسَ أشلاء المدينة.

 

محمد السيد أبو ريان

المصدر: صفحة الكاتب على الفيس بوك
  • 1
  • 0
  • 1,467

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً