الزوج الشّكّاك

منذ 2017-01-15

الشّك بطبيعته يؤدي إلى قتل المودة واختناق العاطفة وتلاشي الرحمة بين الزوجين، والشك بطبيعته أيضًا يكون بينه وبين الاستقرار عداوة، وبينه وبين الأمن الأُسري حربٌ شرسةٌ لا تنتهي

                                             بسم الله الرحمن الرحيم

الشّك والحب متنافران لا يجمعهما بيتٌ واحد؛ فعندما يسود الشك أجواء الحياة الزوجية يهرب الحب خارجها؛ والحياة مع الشك جحيمٌ لا تطاق، وخاصةً إذا كان الزوج هو الطرف الشكاك؛ فالمشادات الكلامية والمشاجرات اليومية التي لا تنتهي هي ما تجنيه الأسرة التي نشأت وترعرعت فيها بذور الشّك، بل الحياة مع زوج شكاك مغامرة لا تحمد عقباها؛ لأن بعض الرجال يسترسلون في شكوكهم التي تدفعهم أحيانًا إلى ارتكاب الحماقات التي ربما تصل للقتل.
الشّك المَرَضي  
قد تتفاقم أزمة الشكوك بحيث تصبح مرضًا يسمى «الشك المرضي»، وتصل أعراض هذا المرض إلى حدٍ غير مقبول؛ فما إن يعود الزوج للبيت كل يوم من العمل إلا وتبدأ عملية استجواب الزوجة والتفتيش هنا وهناك، في أجواءٍ من الانفعال قد تصل إلى حد الاعتداء الجسدي، دون أن يكون لدى هذا الزوج المريض أي إشارةٍ أو دليل على خيانة زوجته إلا افتراءات هي محض خيال؛ فتراه يفتش في ملابسها أو في حقيبتها أو سائر أغراضها الشخصية، وإذا وجد أي رقم تليفون أو عنوانًا أو أي شيءٍ غريب تثور ثائرته وتقوم الدنيا ولا تقعد.
والمأساة أن هؤلاء الرجال الشكاكين لا يُطَلقون زوجاتهم، ولا يفكرون في ذلك؛ كأنما يستمتعون بهذا الشعور المرضي، وأحيانًا يتم التطليق عن طريق المحكمة بعد تقرير من الطبيب النفسي حرصًا على سلامة الزوجة، خاصةً في حالات الشك المرضية الشديدة والاعتداءات البدنية.
أسباب ودوافع
قد تكون لشخصية الزوجة نفسها دورًا مهما في إشعال غيرة الزوج الشديدة، التي تتعدى حدود الغيرة المقبولة وتصل إلى حدود الشك المُريب؛ فالمرأة ذات الشخصية الهستيرية التي تبالغ في إظهار محاسنها، وتبدي استحسانها دومًا بنظرات وعبارات الإعجاب التي تتلقاها من هنا وهناك، سواء أكانت سعت إلى ذلك بوعيٍ أم بدون وعي، تلك التصرفات تؤجج نار الغيرة والشك عند الزوج، خاصةً إذا كان لديه استعدادٌ نفسيٌ لذلك من قصورٌ بدنيٍ أو ماديٍ أو حتى علمي.
وقد تدفع المرأة أحياناً زوجها للغيرة بغير قصد، وذلك حين تتحدث أمامه عن شخصٍ ما باهتمامٍ بالغٍ ومتكرر، ولا تفتأ تعدد الكثير من صفاته وأخلاقه، فيتسرب شعور للزوج بإعجابها بذلك الشخص كما يشعر في الوقت ذاته أنها تفضله عليه من حيث السلوك الشخصي أو طريقة التعامل، فينجرف نحو الغيرة وتبدأ بعدها فصول المأساة.
وقد تتحدث الزوجة بعفويةٍ عن تجاربها السابقة باعتزاز، مع خطيبها السابق مثلاً، أو زوجها السابق إن كانت مُطلقة أو أرملة، وكل هذا يدفع زوجها نحو الغيرة دفعاً، فيصب جام غضبه عليها، والزوجة التي تفعل هذا زوجة قليلة الخبرة أو مستهترة تدمر حياتها بنفسها.  
وربما تكون سلوكيات الزوج الشكاك تكونت لديه تبعًا لظروف تربيته والأحداث التي مر به طوال حياته؛ فهي نابعةٌ من التنشئة والبيئة المحيطة في المقام الأول.
وأيضا قد ترجع غيرة الزوج الشديدة إلى عدم ثقته بنفسه وإحساسه بالدونية تجاه الزوجة التي ارتبط بها؛ حيث يسارع إلى الشك في تصرفاتها لشعوره بأنها يمكن أن تنجذب إلى من هو أكثر منه رجولةً وجاذبية أو غنى أو منصب ...
الجرثومة الخطيرة
الشّك جرثومةٌ خطيرة في كيان الأسرة لأنه من صنع الخيال وحده، وإذا تحكم الخيال السوداوي في شيءٍ أفسده وألغى حكم العقل ونحى التدبير الواعي جانبًا وترك المجال للتصرفات الهوجاء والرعناء. فقد يحلو لأحد الزوجين أن يشكك في سلوكيات الطرف الآخر، ويفسر كل تحركاته على أن لها معاني خفية، وعليه أن يبحث عن هذه المعاني من تخرصاته وظنونه وأوهامه من غير أن يكون لهذا التفسير مستند من الواقع ومسوغ مقبول.
فإذا رن جرس الهاتف ولم يتكلم أحد لعَطبٍ بالخط مثلًا ظن أن المتصل على علاقةٍ مشبوهةٍ بالطرف الآخر، وإذا تأخر في الرجوع من العمل أو تأخرت عند أمها أو أختها بدأت الشكوك حول لقاءاتٍ سرية وأحاديث جانبية  .. وهكذا تفسر الأمور استناداً إلى الشك والوهم.
بين الغيرة والشّك
الغيرة المعتدلة شيءٌ مطلوبٌ ومهم، ومن لا يغار على أهله فهو ديوثٌ ومطرودٌ من رحمة الله تعالى، فغيرة الرجل على أهله أن يأتين ما حرم الله أو يخلون مع غير ذي محرم، أو يتحدثن مع أحد بخضوع في القول .. كل هذه غيرةٌ محمودة، بل واجبةٌ لحماية شرف المرء وصيانة عِرضه.
والغيرة تختلف من شخصٍ لآخر، فهي درجاتٌ متفاوتة عند البشر كلٌ حسب شخصيته وصفاته النفسية وطريقة تربيته، لكن الهوس في الغيرة والتشكك من كل شيءٍ والنظر لشريك الحياة بعين الريب دون سبب جوهري ملموس، يمثل لهيباً يحرق الحياة الزوجية ويجعل منها جحيماً لا تطاق.
علينا أن نفرق جيدًا بين الشّك والغيرة، فالشّك توهم لا مستند له، والغيرة حَمية في القلب يجدها الرجل السوي جراء مخالفة أعرافنا وتقاليدنا، وانحراف الزوجة عن الخلق الإسلامي والآداب العامة، فهي غيرةٌ من شيءٍ محدد معروف مشاهد وملموس.
وهذان نوعان لا يجوز الخلط بينهما، وقد فرق الرسول صلى الله عليه وسلم بين النوعين فقال: «من الغيرة ما يحب الله ومنها ما يكره الله، فأما ما يحب فالغيرة في الريبة، وأما ما يكره فالغيرة في غير ريبة»  ( رواه ابن ماجة: 1996) فالغيرة من غير ريبة هي التي نسميها «الشّك»، وهو خلق مذمومٌ مؤذٍ للأُسرة ومُدمر لها.
وقال سليمان بن داوود عليه السلام: "يا بني لا تكثر من غيرتين، غيرة يصلح الرجل بها أهله، وغيرة تدخله النار".
وإنما كانت هذه الغيرة تدخل النار لأنها اتهام لبريءٍ من غير بَينة، ولهذا قال قيس بن زهير: "إني غيورٌ ولكن لا أغار حتى أرى".
وقال ابن حجلة التلمساني: والنوع المذموم أن يغار من غير ريبة، بل مُجرد سوء الظن، وهذه الغيرة تُفسد المحبة ولا تترك منها حبة، لأنها توقع العداوة بين المحب والمحب.
وقال أبو حبان التوحيدي: فأما من فرّط وأفرط في الغيرة فسبيله سبيل من تجاوز الاعتدال في سائر الأخلاق إلى الزيادة أو النقصان.
من كل ذلك يتضح أن الشّك مصدره وسوسة الشيطان ليس إلاّ، حيث يظهر بثوب الناصح الأمين فيقول: ربما كان كذا وربما كان كذا، فيجعل من الاحتمال شكاً ثم يجعله ظناً ثم يجعله يقيناً ثم يطالب الزوج بأن يكون صاحب نخوةٍ يدافع عن عرضه من أن يلوث.
وقد دلنا النبي صلى الله عليه وسلم إلى طريقة الشيطان الماكرة فقال:«إن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون، ولكن في التحريش بينهم» (رواه مسلم: 2812).
اِحذر الشّك
الشّك بطبيعته يؤدي إلى قتل المودة واختناق العاطفة وتلاشي الرحمة بين الزوجين، والشك بطبيعته أيضًا يكون بينه وبين الاستقرار عداوة، وبينه وبين الأمن الأُسري حربٌ شرسةٌ لا تنتهي، ويكون بينه وبين الطلاق علاقةٌ وثيقةٌ وصداقهٌ قائمةٌ ودائمة؛ فاحذر الشّك، وبخاصة الشّك المبني على أوهامٍ وظنونٍ وتكهناتٍ واتهاماتٍ وتزييفٍ للحقائق.
فالشّك لا يقيم للحياة الأُسرية بيتًا ولا مأوى؛ فعواصف الشّك عواصف عاتيةٌ وشديدة، فيها عذابٌ أليم، ونارٌ تحرق كل ما حولها من عواطف وقيم؛ فالزوج الشكاك مريضٌ نفسيًا وقلبيًا، والحل لهذه المشكلة الحساسة يتمثل في الآية الكريمة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات: 12].
فواجب علينا الابتعاد عن الشّك في نطاق الأُسرة وفي كل أمور الحياة، كما قال تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء:36] وقال صلى الله عليه وسلم: «إياك والظن فإن الظن اكذب الحديث»  ( رواه الترمذي: 1988)
ويكون الشك والظن كاذباً لأنه لا يشابه الواقع ولا يطابقه، فإذا رأيت أحد الزوجين يشك في الآخر من غير بينة مدعيًا أنه يشعر به وأن قلبه يُوحي له بذلك، فاعلم أنه مغرر به، يحاول أن يدمر الأُسرة بيده لا بيد غيره، فإذا تعلم الإنسان الأخذ باليقين والدليل ارتاح وارتاح من حوله وعاش الجميع في سعادةٍ وصفاء.
والزوج الذي يتشكك في كل شيءٍ يخص زوجته إنما يعذب نفسه، وتصور له خيالاته أوهاماً لا أساس لها من الصحة، وفوق هذا وذاك فإنه بهذه الغيرة الشديدة والتشكك المشبوه قد يغري زوجته – إن كانت ضعيفة العقل والإيمان – إلى ارتكاب الجرم بدافع التشفي والانتقام.
فأنت أيها الزوج المسلم قد اخترت زوجتك على أساس الدين كما أمر الشرع فهي بإذن الله مسلمةٌ مؤمنةٌ عفيفة، ولم يرد منها ما يستدعي ذلك الشك وتلك الغيرة الحمقاء، فلا تعذب نفسك ولا تعذبها معك.
كيف نتجنب خطر الغيرة؟!
1ـ لا يتبع الزوج ظنونه وشكوكه فيدفعه الشك تلو الآخر إلى عواقب وخيمة، وإنما عليه أن يطرد تلك الأفكار الشيطانية، وأن يعلم زوجته ويطمئن إلى سلوكها وليطرد الشك إلى اليقين .
2ـ يقنع الزوج زوجته بالتزام الحجاب إن لم تكن ملتزمةً به، فضلًا عن آدابنا الإسلامية في التعامل مع الغرباء، فستر الجسد فريضةٌ إسلاميةٌ وهي تقي المجتمع من شرور التسول والتحرش الجنسي، فليس من المعقول أن يغار الزوج على زوجته وهو يتركها تسير متبرجةً تلبس لباس الكاسيات العاريات؟!! فالأولى له أن يلزمها بحجاب ربها، بدلاً من النظر إلى من ينظر إليها بعين الغيرة والريبة.
3 ـ على الزوجة أن لا تقوي شك الزوج أو تخالفه في نفسها وتعصي أوامره فتزيد شكوكه، فلتتعامل معه على أنه شخصٌ يمر بأزمةٍ يحتاج إلى من يقف بجانبه ويحيطه بالعطف والحب والحنان، فلترحب به دائماً ولتقابله بوجه بشوش ولا تنفعل عليه حين تجده يسألها عن أمرٍ ما، بل عليها أن توضح له كل شبهةٍ فيطمئن بذلك ويطرد أفكاره ووسوسته، وحذار من العِند فإنه مورث الدمار والخراب.
4 ـ أن تحترم المرأة آراء زوجها الخاصة بعلاقتها بالجنس الآخر سواء كانوا أقارب أو زملاء في العمل أو الجيران، خاصةً إن كانت هذه الآراء منضبطةٌ بضوابط الشرع.
{رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} (الفرقان:74)

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام

خالد سعد النجار

كاتب وباحث مصري متميز

  • 43
  • 7
  • 164,934

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً