تصرفات السلطة منوطة بالمصلحة

واشتهرت بين الفقهاء قاعدة، صارت من أهم قواعد الولايات العامة والخاصة في دولة الإسلام، وهي: (تصرف الإمام على الرعية منوط بالمصلحة)، ذكروها بهذا اللفظ ونحوه من الألفاظ. وهي قاعدة نصَّ عليها فقهاء المذاهب الأربعة، وفرَّعوا عليها مسائل كثيرة.

  • التصنيفات: السياسة الشرعية - قضايا إسلامية معاصرة - أحداث عالمية وقضايا سياسية -

أعطت شريعة الإسلام للسلطة صلاحيات واسعة في الدولة، تقوم ضمنها بما تشاء من التصرفات والتنظيمات، وأوجبت على الأمة إنفاذها والعمل بها، وعدم التحايل عليها، مما يعني أن لهذه التصرفات سندٌ من الشَّرع.

 

وهذا يتطلب من السلطة أن تكون تصرفاتها، في حدود مصلحة من هم تحت ولايتها، وتحقيق النفع العام لرعيتها، بعيدًا عن المفسدة والضرر؛ لأن الشرع لا يكون سندًا وظهيرًا لتصرفات فاسدة، أو ضارة بالناس، أو مقيدة لشيء مباح دون مصلحة راجحة، أو منفعة مقصودة. وعلى هذا دلَّت الأدلة الشرعية الكثيرة.

 

واشتهرت بين الفقهاء قاعدة، صارت من أهم قواعد الولايات العامة والخاصة في دولة الإسلام، وهي: (تصرف الإمام على الرعية منوط بالمصلحة)، ذكروها بهذا اللفظ ونحوه من الألفاظ. وهي قاعدة نصَّ عليها فقهاء المذاهب الأربعة، وفرَّعوا عليها مسائل كثيرة.

 

وكان أول من نصَّ عليها هو الشافعي -كما هو المشهور- بقوله: (منزلة الوالي من رعيته بمنزلة والي مال اليتيم من ماله)[1]، بمعنى أنَّ وصي اليتيم لا يجوز له التصرف في ماله، إلا بالتي هي أحسن، ولا يأخذ منه إلا بقدر الحاجة.

 

وعلَّق الإمام السيوطي على مقولة الإمام الشافعي في كتابه الأشباه والنظائر، فقال: (وأصل ذلك: ما أخرجه سعيد بن منصور في سننه، قال: حدثنا أبو الأحوص عن أبي إسحاق، عن البراء بن عازب قال: قال عمر رضي الله عنه: (إني أنزلت نفسي من مال الله بمنزلة والي اليتيم، إن احتجت أخذت منه، فإذا أيسرت رددته، فإن استغنيت استعففت). ومن فروع ذلك أنه إذا قسم الزكاة على الأصناف يحرم عليه التفضيل، مع تساوي الحاجات. ومنها: إذا أراد إسقاط بعض الجند من الديوان بسبب: جاز، وبغير سبب لا يجوز حكاه في الروضة. ومنها: ما ذكره الماوردي أنه لا يجوز لأحد من ولاة الأمور أن ينصب إماما للصلاة فاسقًا، وإن صححنا الصلاة خلفه ; لأنها مكروهة. وولي الأمر مأمور بمراعاة المصلحة، ولا مصلحة في حمل الناس على فعل المكروه. ومنها: أنه إذا تخير في الأسرى بين القتل، والرق، والمن والفداء، لم يكن له ذلك بالتشهي بل بالمصلحة. حتى إذا لم يظهر وجه المصلحة يحبسهم إلى أن يظهر)[2].

 

وقد صاغ العلامة أبو بكر الأهدل في ذلك نظمًا، قال فيه:

تَصَرُّفُ الإمــــامِ للرَعِيَّـــــهْ    ***    أُنيطَ بالْمَصْلَحَةِ الْمَرعِيَّــــــــــهْ

وهذه نَصَّ عليـــها الشافِعِـي    ***    إذ قالَ قَوْلاً ما له مِن دافِــــــعِ

مَنزِلَةُ الإمــامِ مِن مَرْعِيـــــِّهِ    ***    مَنزِلةُ الوالِي مِن مَوْلِيِّــــــــــهِ

وأَصْلُها رُوِيَ مِن قَــوْلِ عُمَرْ   ***     فيما حَكاهُ الأصلُ فانْظُرْ مـا ذَكَرْ

فيَلْزَمُ الإمامَ في التَّصَـــــرُّفِ    ***    على الأنامِ مَنْهَجُ الشــرعِ الْوَفِي

فلا يَجوزُ نَصْبُه لفَاســـــــِقِ   ***     يَؤُمُّ في الصــــــــلاةِ بالخلائِقِ

وهذه الصورةُ عُدَّتْ وَاحِدَهْ    ***    مِن التي انْطَوَتْ عليها القاعِدَةُ[3]

 

وقد أكثرَ الفقهاءُ في استخدام هذه القاعدة، والاستدلال بها، في مباحث الولايات العامة والخاصة، وأبواب القضاء والإمارات، والسياسة الشرعية، وتضمنتها كتب القواعد الفقهية، وتوابعها ككتب الأشباه والنظائر، والفروق، وكتب السياسة الشرعية، والأحكام السلطانية، ونحوها.

 

وذلك لما يتعلق بهذه القاعدة من صيانة للحقوق، وتحقيق كل ما هو خير للأمة، بأفضل الوسائل، وأنفعها، مما يُعبَّر عنه بالمصلحة العامة. وما تتصل به من قواعد الشريعة العظمى، ومقاصدها الكبرى.

 

فهذا الإمام الفقيه الشافعي العز بن عبد السلام يعقد فصلا في تصرف الولاة ونوابهم، وقال فيه: (يتصرف الولاة ونُوابهم بما ذكرنا من التصرفات، بما هو الأصلح للمُولَّى عليه درءًا للضرر والفساد , وجلبًا للنفع والرشاد , ولا يقتصر أحدهم على الصلاح مع القدرة على الأصلح؛ إلا أن يؤديَ إلى مشقة شديدة, ولا يتخيرون في التصرف حسب تخيرهم في حقوق أنفسهم، مثل: أن يبيعوا درهما بدرهم, أو مكيلة زبيب بمثلها، لقول الله تعالى: {وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ }, وإن كان هذا في حقوق اليتامى؛ فأولى أن يثبت في حقوق عامة المسلمين، فيما يتصرف فيه الأئمة من الأموال العامة; لأن اعتناء الشرع بالمصالح العامة أوفر وأكثر من اعتنائه بالمصالح الخاصة, وكل تصرفٍ جرَّ فسادًا أو دفع صلاحًا، فهو منهي عنه، كإضاعة المال بغير فائدة، وإضرار الأمزجة لغير عائدة)[4].

 

والإمام القرافي المالكي تناول في فروقه (قاعدة ما ينفذ من تصرفات الولاة والقضاة وبين قاعدة ما لا ينفذ من ذلك) فكان مما قال: (اعلم أن كل من ولي ولاية الخلافة فما دونها إلى الوصية، لا يحل له أن يتصرف إلا بجلب مصلحة، أو درء مفسدة لقوله تعالى {وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الأنعام:152]، ولقوله عليه السلام “من ولي من أمور أمتي شيئًا ثم لم يَجْهَد لهم , ولم ينصح فالجنة عليه حرام”[5] )[6].

 

وتناولتها كتب القواعد الفقهية، كالأشباه والنظائر، للسيوطي، والأشباه والنظائر لابن نجيم، والمنثور من القواعد للزركشي، وغيرهم. وذلك لأهميتها، وعظيم مآلاتها.

 

وكل أقوال الفقهاء مجتمعة على أن تصرفات السلطة على الرعية، يجب أن يكون مقصودًا به المصلحة العامة، أي بما فيه نفع لعموم من تحت ولايتها. ومتى كانت هناك مصلحة عامة جامعة لشرائطها، انتفى الضرر فيها، ورأت السلطة من خلالها تقييد مباح أو الإلزام به، أو منعه، فلها ذلك، ويُعد تصرفها بناء على ذلك تصرفًا شرعيًّا صحيحًا يجب إنفاذه والعمل به، ولا يجوز التحايل للتخلص منه.

 

وكل عمل أو تصرف للسلطة خارج عن حدود المصلحة العامة، أو يؤدي إلى المفسدة والضرر لمن هم تحت ولايتها، فهو خارج عن حدود الولاية الشرعية، والسياسة العادلة.

 

ولذا كان جمع عثمان رضي الله عنه الناس على حرف واحد من الأحرف السبعة، التي أطلق لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قراءة القرآن بها، تصرفًا صحيحًا ينضوي تحت هذه القاعدة، حيث خاف الصحابة رضي الله عنهم على الأمة أن يختلفوا في القرآن، ورأوا أن من المصلحة جمعهم على حرف واحد، فهو أسلم وأبعد من وقوع الاختلاف، وقد أطاع المسلمون الأمر[7].

 

وما يتصرف به أولو الأمر والسلطة في البلاد من وضع تنظيمات وقوانين إدارية، تنظم شؤون الدولة، كتنظيم السير والمرور مثلا، وتنظيم البناء والبلديات ونحوها، وتنظيم الجمارك وما يدخل البلاد وما يخرج منها، ونحو ذلك، فما كان فيها من مصلحة ظاهرة معينة أو غالبة، فاتباعها وطاعتها واجبة شرعًا.

 

بل لو أمرت السلطة في حال غلاء أو وباء أو مجاعة بصيام أيام مثلا، وجب على الأمة ديانة أن يصوموها، وتكون قربة لهم عند الله، ولا يحل مخالفتها بغير عذر، وهذا ما نصَّ عليه بعض فقهاء الحنفية والشافعية[8].

 

وأما ما ليس فيه مصلحة عامة، فلا يجب امتثاله إلا إذا خاف الفتنة والضرر، فيمتثل به ظاهرًا، كما قال ابن حجر الهيتمي: (الذي يظهر أن ما أمر به ـ أي: صاحب السلطة ـ مما ليس فيه مصلحة عامة لا يجب امتثاله إلا ظاهرًا فقط، بخلاف ما فيه ذلك –أي مصلحة- يجب باطنًا أيضًا)[9].

 

ويقول الشرواني: (يتجه الوجوب في المباح حيث اقتضاه مصلحة عامة لا مطلقًا، إلا ظاهرًا لخوف الفتنة والضرر، فليتأمل إذا كان كون المصلحة وعمومها بحسب ظنِّه فظهر عدم ذلك، ويلوح الاكتفاء بالامتثال ظاهرًا)[10].

 

وهذا يستدعي من الأمة وأهل العلم والخبرة والزعامة فيها، أن يراقبوا تصرفات السلطة، ويحيطوها بالنصح والتقويم،  حتى لا تخرج تصرفاتها عن المصلحة العامة للبلاد والعباد، فيضل الحكم سواء السبيل.

 

عبد الله السكرمي.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] الأم للشافعي (4/ 164) دار المعرفة ببيروت، 1990م.

[2] الأشباه والنظائر للسيوطي (121) دار الكتب العلمية ببيروت، الأولى 1990م.

[3] انظر: شرح الفرائد البهية في نظم القواعد الفقهية للأهدل، شرحها محمد صالح موسى (ص68) مؤسسة الرسالة ببيروت، الأولى 2009م.

[4] قواعد الأحكام في مصالح الأنام (2/89)، مكتبة الكليات الأزهرية بالقاهرة، 1991م.

[5]  متفق عليه: رواه البخاري في الفتن (7150) ومسلم في الإيمان (142) عن معقل بن يسار. بألفاظ مختلفة، فعند البخاري “ما من عبد استرعاه الله رعية، فلم يحطها بنصيحة، إلا لم يجد رائحة الجنة”، و”ما من وال يلي رعية من المسلمين، فيموت وهو غاش لهم، إلا حرم الله عليه الجنة”. وعند مسلم: “ما من أمير يلي أمر المسلمين، ثم لا يَجْهَدُ لهم، وينصح، إلا لم يدخل معهم الجنة”.

[6] الفروق للقرافي (4/39) عالم الكتب.

[7] انظر: الطرق الحكمية لابن القيم (19) دار البيان.

[8] انظر: حاشية ابن عابدين على البحر الرائق شرح كنز الدقائق (7/ 53) دار الكتاب الإسلامي ببيروت، الثانية. وانظر: تحفة المحتاج في شرح المنهاج لابن حجر الهيتمي وحاشية الشرواني عليها (3/70) المكتبة التجارية بالقاهرة، 1983م.

[9] تحفة المحتاج في شرح المنهاج لابن حجر الهيتمي (3/71)، المكتبة التجارية بالقاهرة، 1983م.

[10] حاشية الشرواني على تحفة المحتاج (3/70) المكتبة التجارية بالقاهرة، 1983م.