شخصية داوود 1

منذ 2017-04-20

على أولئك الذين يركنون لمحدودية القدرة البشرية ويصرون على تضييق المضامير التي يمكنها السبق فيها أولئك الذين يعلقون فشلهم وعدم إحكام موازينهم على قلة الوقت أو ضياع بركته ويزعمون انشغالهم عن أداء تكاليفهم أو القيام بواجباتهم أمثال هؤلاء عليهم أن يتوقفوا طويلا وينظورا مليا لجوانب تلك الشخصية الفريدة.. شخصية داوود

لقد كان نبي الله داوود عليه السلام نموذجا فريدا بحق.. 

كان مثالا لتوازن من نوع خاص يجمع بين شتى مجالات الدين والدنيا في نسق بديع في انتظامه مبهر في إحكامه وعدم طغيان بعضه على بعض
إن شخصية هذا النبي تعد ردا عمليا على كل من يزعم استحالة التميز أو التفوق في أكثر من جانب من جوانب الحياة

على أولئك الذين يركنون لمحدودية القدرة البشرية ويصرون على تضييق المضامير التي يمكنها السبق فيها 

أولئك الذين يعلقون فشلهم وعدم إحكام موازينهم على قلة الوقت أو ضياع بركته ويزعمون انشغالهم عن أداء تكاليفهم أو القيام بواجباتهم

أمثال هؤلاء عليهم أن يتوقفوا طويلا وينظورا مليا لجوانب تلك الشخصية الفريدة.. 
شخصية داوود

لقد استطاع نبي الله داوود عليه السلام أن يسبق في شتى ميادين الدين والدنيا

بل إن شئت فقل أنه في الحقيقة لم يخض مضمارا تقريبا إلا وكان السبق له حليفا

لنبدأ مثلا بمضمار التعبد.. 
لقد كان نبي الله داوود عابدا لا يشق له غبار في ذلك المضمار
 كانت عباداته ليست كأي عبادات وكان ناسكا متبتلا ليس كأي ناسك متبتل
لقد كان له من العبودية ما يتفرد به عن غيره ويشكل في جنباته نسيجا وحده

هذا السكون اللطيف الذي يغلف الكون في حياء نقي، لا يعكر صفو نسيمه شىء، ولا يخترق صمته إلا صوتا بديعا يتنامى من بعيد، بزجل رائق، يتعالى تدريجيا كلما اقتربت من مصدره.. 
يتعالى وتتردد أصداؤه في تلك المنطقة الجبلية التي تحدها عن اليمين والشمال سلاسل جبلية عالية، تمتد على مرمى البصر..
لحظة!!
إن هذا الترداد ليس مجرد صدىً عادي لذاك الصوت البديع..
ليس هذا دأب الصدى المتكرر والمتقطع المتخافت تدريجيا كما نعرفه..
إنه صوت أعمق بكثير
صوت يثير مكامن الشعور، ويستجيش حسنه، وتستدر معانيه أنهار العبرات من المآقى، مهما بلغت قسوتها..
تري: ما أنت أيها الصوت البديع؟!
من أين تأتى أنغامك التي تشبه معازف لا عزف فيها؟!
هذه الحالة الكونية التي تكاد ترى الجبال المحيطة بالمدينة تتمايل لرقتها وعذوبتها..
من أين أتت؟؟
على منبعها دلوني!
وعن مصدرها حدثوني..
هنالك تجد المنبع الناغم منشدا قصيدة تصدح بسر الوجود..
إنه ذكر داوود
تسبيحه
تأويبه
 تلك اللحظات التي يقتنصها  ليخلو فيها بربه، ويتعالى صوته العذب بتلك التسابيح الخلابة، التي لم تتحمل الصخور الراسيات أن تسكت عنها، فسارعت لترديدها معه، منافسة بذلك الطيور، التي ما انفكت عن التأويب والتغنى معه بذكر الإله الحبيب .. 
{يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ}
إنه التأويب
نوع خاص من الذكر تمتزج فيها كينونة  داوود بالمخلوقات من حوله ليتناغموا جميعا في منظومة كونية تتعالى مزاميرها منتشرة في أرجاء السماوات والأرض مرددة شعارا واحدا
شعار التسبيح
الكل يردد ويأوب 
الجبال 
الطير 
الحجر والشجر
الكل يسبح ويذكر {إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ * وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً ۖ كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ}

  {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ ۚ وَكُنَّا فَاعِلِينَ} [ اﻷنبياء 79]
 
كان هذا شيئا من ذكره وتأويبه وتسبيحه الذي جعله وبجدارة مستحقا للتشريف الرباني الذي أسبغه الله عليه
إِنَّهُ أَوَّابٌ
هكذا قال عنه ربه مذكرا خليله محمد بسيرة هذا العابد
{اصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ ۖ إِنَّهُ أَوَّابٌ}

ولكن ليس التأويب والتسبيح فقط هو ما أعطى لداوود السبق بمضمار التعبد

لقد كانت لداوود علاقته الوثيقة أيضا بالاستغفار
{وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ }

لمجرد بوادر ظن بورود الفتنة تصدر الاستغفار المشهد

لكن لماذا خرّ النبي داوود راكعا ساجدا؟!

هل هو انبعاث لشوق في قلب لم يحتمل فراق الذكر فهوى ساجدا يسبح؟!
أم هي سجدة ندم وتوبة يستغفر لأجل ظن كان به في أحد الرجلين، أدى لفزعه منهما، كما ذهب بعض العلماء 
أم أنه ندم على حكم قد أصدره بسماع طرف دون طرف حين قال: لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه؟!
إن القلب الذى تشرب العلم بالله ومعرفة أسمائه وصفاته ونعمه وآلائه لا يحتمل أن يمكث للحظات تحت وطأة فتنة أو أن يطول عليه الأمد داخل دائرة الاحتمالات والاتهامات
 بمجرد أن تبدو مثل تلك الأشياء في أفق حياته حتى يسارع للاستغفار و التوبة و الأوبة إلى رحاب ربه لأنه يعلم جيدا "أن الله هو يقبل التوبة عن عباده " وأنه لا يغفر الذنوب إلا هو 

لا يعنيني كثيرا في هذه السطور تحديد سبب الاستغفار والسجود وما طبيعة الفتنة التي ظن داوود أنه فيها قد وقع، وفى ذلك ليختلف المختلفون، وليتنازع المتنازعون وبيان ذلك سيأتي في السطور القادمة مفصلا

لكن ما يعنيني أنه قد رجع..
قد  استغفر وركع..
 هكذا كان داوود وكذلك قد بلغ المنزلة
منزلة الأوابين

{وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ ۖ إِنَّهُ أَوَّابٌ}

ولقد كان داوود ذا أيد.. 
هذا هو الوصف الرباني الذي اختاره الله لعبده داوود مبينا ذلك الجانب من جوانب شخصيته الذي نتحدث عنه
جانب  البذل والتعبد
الأيد.. 
إنه اللفظ نفسه الذي اختاره الله سبحانه ليصف به فعلا عظيما من أفعاله تجلى فيه شيء من باهر قدرته
{وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ}

 قال ابن عباس رضي الله عنهما: الأيد القوة
 وفي شأن أيدي داوود قال مجاهد: الأيد، القوة في الطاعة.
 وقال قتادة: أعطي داوود قوة في العبادة وفقهاً في الإسلام

لقد كانت لداوود قوة ملحوظة وقدرة مشهودة أنعم الله عليه بها واستعملها بشكل أساسي فيما يحبه من أنعم عليه بها
في أكثر ما يحبه
العبادة

إن تلك الأيدي والقدرات التي أوتيها داوود أهلته لمزيد من السبق في مضمار التعبد
أهلته ليكون صاحب أفضل قيام وأفضل صيام في تاريخ البشرية، بشهادة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم..  « أَحَبُّ الصَّلاَةِ إِلَى اللَّهِ صَلاَةُ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ ، وَأَحَبُّ الصِّيَامِ إِلَى اللَّهِ صِيَامُ دَاوُدَ ، وَكَانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ وَيَقُومُ ثُلُثَهُ وَيَنَامُ سُدُسَهُ ، وَيَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا »

هكذا بين رسولنا صلى الله عليه وسلم فيما رواه عنه [البخاري ومسلم] من حديث عَبْد اللَّهِ بْن عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضى الله عنهما
في الصيام كان له السبق
لقد كان يصوم نصف الدهر
نصف عمره قضاه ممسكا عن الطعام والشراب والشهوة تقربا لمولاه

وعن الصلاة والقيام فحدث ولا حرج
لقد كان ليله حيا بذكر الله وضيئا بالركوع والسجود 
ومحرابه يشهد
وعند المحراب لنا أيضا وقفات
فلقد كان لداوود محرابه كعادة العُبَّاد خصوصا عُبَّاد بني إسرائيل وأنبيائهم
كان لزكريا محرابه الذي نادته الملائكة بينما هو قائم فيه يصلي
المحراب الذي خرج منه على قومه فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا
وكان لمريم محرابها الذي طالما دخل عليها زكريا فيه معاينا لكراماتها شاهدا على رزق الله لها
وكان لجريج العابد محرابه وصومعته 
ولسليمان محاريبه التي طالما كلف الجن أن يصنعوها {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ}
المحاريب إذن كانت دوما حاضرة بقوة كلما ورد ذكر أنبياء وعُبَّاد بني إسرائيل
لكن محراب داوود كان مختلفا
لقد كان محرابا ذا أسوار

{وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ}

ولكن هل للمحاريب أسوار؟!
إنها أماكن عبادة وصلاة، فما الداعى لتلك الأسوار؟ 
هل لأنه كان يريد أن يحرس خلوته ويصون ورده؟
أم هو حرص على لحظات أنسه؟
أو لعله تشبث بحق قلبه..
أم أنه أدعى لاستجماع مكامن الخشوع، ومنابع الذكر والفكر والخضوع؟

إنها ليست إذاً مجرد أسوار..
إنها لَرعاية
 وإنها لعناية
 وإنها لحجر محجور، وحجاب مستور، بينه وبين منغصات الشعور، وبواعث الفتور.. 
لعمرى كم يحتاج كل عابد للحظات مسوَّرة..
لسويعات خلوة مع الخالق لا يقطع صفوها مخلوق 

لأسوار من الحرص، وسياج من العزم، وساتر من الإخلاص والصدق، تحوط محراب عبوديته.. 
ليس شرطا أن يكون محرابا كمحراب داوود، أو محاريب ولده سليمان، أو محراب مريم أو كفيلها زكريا عليهم السلام..
وربما لا تكون صومعة كصومعة جريج، أو غيره من العباد والنساك..
لكنها لحظة خلوة 
همسة مناجاة
جوهرة عبودية  تحتاج إلى مثل هذا السور..
أي نبي الله... كم يغبطك على أسوار محرابك كل طالب أنس بمولاه طامح للحظات المناجاة وراغب في جواره الكريم!

  • 3
  • 0
  • 5,595

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً