فُصُولٌ مِن جُهُودِ الإبرَاهِيمي في إصلاحِ شبَابِ الأُمَّةِ (1/3)
سيرة مختصرة للشيخ مُحمَّد البَشِير الإِبراهيمي الجزائِري
تميَّزَت مَسِيرةُ الإِصلاحِ التي قام بها العَالمُ الكبيرُ، الأَدِيبُ الأَريبُ، الشيخ مُحمَّد البَشِير الإِبراهيمي (الجزائِري)، رحمه الله، باهتمَامِه البَالغِ تُجاه شبَابِ وَطنِه الجَزائِر، وأُمَّتهِ المُسلمَةِ. فقد انصَبَّت جُهودُه المبذُولَةِ في العِنايَةِ بهذه الشَّريحَةِ الشَّبابيَّةِ التي عليها قِوامُ البُلدَانِ، وبها تُبنَى المجتَمعَات، مِن خِلالِ حيَاتهِ وسِيرَتهِ وتَعلِيمِه وتَوجِيهِه. وقد أثمرَت جُهودَه تلك عن "جمعية العلماءِ" التي قادَت بحركتِها العِلميةِ والدَّعويةِ الشَّعبَ الجزائري إلى التَّحرُّرِ والاستقلالِ عن الاستعمار الفرنسي.
وقَبلَ الدُّخولِ في الكلامِ عن الدَّورِ الرائِدِ الذي اضطَلعَ به العَالمُ المصلِحُ، والأديب الأريب، الشيخ محمد البشير الإِبراهيمي، تجاه شبَابِ أُمَّتِه وبلَدِه الجَزائِر، تعليمًا وتوجيهًا. يحسنُ بنا أَن نقِفَ على ما قَصدَه الإبراهيمي بمُصطَلحِ (الشَّباب)، الذي وَردَ وتكرَّرَ كثيرًا في كلامِه وخُطبِه ومقَالاتِه. وهو ما أطلَقَ عليه بـ(الطَّورِ الثَّالثِ) أو الثَّلاثِين مِن العُمُر، وهي سِنُّ (بُلُوغِ الأشُدِّ) التي ورَدَت في القُرآن الكريم: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا ۚ وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [يوسف:22]. فقد أَورَد الإِمَامُ الطَّبري رحمه الله، في تفسيرهِ، عن ابن عبّاسٍ ومُجاهِد -رضي الله عنهما- بأَنَّها: "ثلاثٌ وثلاثُون سَنةٍ"[1].
وهو الطَّورُ الذي ظهَرَ فيه نُضُوجُ الشيخ الإِبراهيمي -كما سيأتي معنا. ولعلَّ هذا ما حَملَه على أَن يقُول: "وأقُولُ: الشَّبابُ... -ولستُ أعني بهذا اللَّفظِ معناه المصدَريّ في عُرفِ اللُّغةِ... وإنَّما أعني بهذا اللَّفظِ طائِفةٌ مِن الأناسي انتَهوا في الحياة إلى ذلك الطَّورِ الثَّالثِ بعد الطُّفولَةِ واليفَاعَةِ"[2].
الإِبراهيمي أَيّامَ الشباب:
جاءَ المُصلِحُ الإِبراهيمي إِلى الدُّنيا سنةَ (1306هـ-1889م) وما أَن فَتحَ عَينيهِ حتى رأى الاستعمار يبطِشُ ببلدهِ، بهيمنتهِ وإذلاَلهِ، وتجهيلهِ وتضليلهِ، فما ترك المُستعمِرُ نقيصَةً يبطشُ بها إِلاَّ ووضعها، ولا باطلًا إِلاَّ سَوَقَهُ ونمَقَهُ. فكان أَن وَأَدَ الحُريّات ونهبَ الثروات، وفَرسَنَ الأَلسنَ واللُّغات. بلَ وأَعلن الحربَ على كُلِّ المقدسات. وهُنا تعالتَ هِمّةِ هذا الشابِ اليافِع، لِينفُض الغُبارَ عن أُمتهِ، ويُصحح المسارِ في طريقِ وطنهِ، ويدفعَ ويدافِع الصائِل على دينهٍ وهويتهِ.
ومرَّت حيَاتُه بخَمسَةِ مَراحِلَ -كما قَسَّمَها الشيخ نفسه رِحمهُ الله.
المرحلة الأُولَى:
وهَي التّي ابتدأَ الحدِيث فيها عن أَوّل أَيامِ ولادتهِ إِلى أَن بلغَ الرابعةَ عشرَة. وسنسردُ هذه المرحلةَ دونَ أَن نقفَ عندها أَو نُعلِّق عليها، فاللبيبُ تكفيهِ الإِشارةَ ولطيف العبارةِ! فقد حَفِظَ الإبراهيمي فيها القُرآن، وحصَّلَ العُلومَ الكِثيرَة حفظًا واستيعابًا، وتلقِينًا وإِدراكًا. وكان ذلك عن طريقِ عمّهِ الّذي قال عنه: "عَمِّي شَقِيقَ والدي الأَصغر الشيخ محمد المكي الإبراهيمي رحمه الله. وكان حامِلَ لواءِ الفُنونِ العربية مِن غير مدافع، مِن نحوها وصرفها واشتقاقها ولغتها، أخذ كل ذلك عن البقية الصالحة من علماء هذه الفنون بإقليمنا... فكنت لا أُفارِقُه لحظةً حتى في ساعات النَّومِ، فكان هو الذي يأمرني بالنوم، وهو الذي يوقظني منه، على نظام مضطرد في النوم والأكل والدراسة. وكان لا يُخلِيني مِن تَلقِين، حتى حين أَخرُجَ معه وأُماشِيهِ للفُسحَةِ. فحَفِظت فنُونَ العِلمِ المهمَّةِ في ذلك السِّن، مع استمراري في حِفظِ القُرآن، فما بَلَغت تسعَ سِنينَ مِن عُمُري حتى كنت أحفَظُ القُرآنَ مع فهمِ مُفرَداته وغريبه. وكنت أحفظُ معه ألفية ابن مالك، ومعظم الكافية له، وألفية ابن معطي الجزائري، وألفيتي الحافظ العراقي في السير والأثر، وأحفظ جمع الجوامع في الأصول، وتلخيص المفتاح للقاضي القزويني، ورقم الحلل في نظم الدول لابن الخطيب، وأحفظ الكثير من شعر أبي عبد الله بن خميس التلمساني، شاعر المغرب والأندلس في المائة السابعة، وأحفظ معظم رسائل بلغاء الأندلس مثل ابن شهيد وابن برد وابن أبي الخصال وأبي المطرف ابن أبي عميرة وابن الخطيب، ثم لفتني عمي إلى دواوين فحول المشارقة، ورسائل بلغائهم، فحفظت صدرًا من شعر المتنبي، ثم استوعبته بعد رحلتي إلى الشرق، وصدرًا من شعر الطائيين، وحفظت ديوان الحماسة، وحفظت كثيرًا من رسائل سهل بن هارون وبديع الزمان، وفي عنفوان هذه الفترة كنت حفظت بإرشاد عمي كتاب كفاية المتحفظ للأجدابي الطرابلسي، وكتاب الألفاظ الكتابية للهمداني، وكتاب الفصيح لثعلب، وكتاب إصلاح المنطق ليعقوب السكيت، وهذه الكتب الأربعة هي التي كان لها معظم الأثر في ملكتي اللغوية.
ولم يزل عمي -رحمه الله- يتدرّج بي من كتاب إلى كتاب تلقينًا وحفظًا ومدارسة للمتون والكتب التي حفظتها حتى بلغت الحادية عشرة، فبدأ لي في درس ألفية ابن مالك دراسة بحث وتدقيق، وكان قبلها أقراني كتب ابن هشام الصغيرة قراءة تفهّم وبحث، وكان يقرئني مع جماعة الطلاب المنقطعين عنده لطلب العلم على العادة الجارية في وطننا إذ ذاك، ويقرؤني وحدي، ويقرؤني وأنا أماشيه في المزارع، ويقرؤني على ضوء الشمع، وعلى قنديل الزيت وفي الظلمة، حتى يغلبني النوم، ولم يكن شيء من ذلك يرهقني، لأن الله تعالى وهبني حافظة خارقة للعادة، وقريحة نيّرة، وذهنًا صيودًا للمعاني ولو كانت بعيدة، ولما بلغت أربع عشرة سنة، مرض عمي مرض الموت، فكان لا يخليني من تلقين وإفادة وهو على فراش الموت، بحيث أني ختمت الفصول الأخيرة من ألفية ابن مالك عليه وهو على تلك الحالة"[3].
المرحلةُ الثانِيَة:
وهي الّتي انتقلَ فيها الإِبراهيمي الشَّاب مِن (التحصِيل) إِلى (التدريس). يقول عنها: "ولما مات عمي، شرعت في تدريس العلوم التي درستها عليه، وأجازني بتدريسها، وعمري أربع عشرة سنة، لطَلَبَتِه الذين كانوا زملائي في الدراسة عليه، وانهال علي طلبة العلم من البلدان القريبة منا، والتزم والدي بإطعامهم والقيام عليهم كالعادة في حياة عمي، وربما انتقلت في بعض السنين إلى المدارس القبلية القريبة منا لسعتها واستيعابها للعدد الكثير من الطلبة، وتيسّر المرافق بها للسكنى، ودمت على تلك الحال إلى أن جاوزت العشرين من عمري..."[4].
ثُمَّ يذكرُ أَنّهُ بقِيَ بعدها مُتخفِيًا إِلىَ أَن هاجرَ إِلى المدينة من ظلم فرنسا، وكان ذلك سنةَ 1911م؛ وكان عمرَهُ عشرون سنة! ومَرَّ في طريقهِ بالقاهرةِ، فالتقى فيها بجمعٍ مِن العُلماء والفُقهاءِ والأَدباءِ والعُظماءِ، كالشيخ مُحمّد بخيت المُطيعي الذي "حَضرَ دَرسَهُ في البخاري، والشيخ يوسف الدَّجوي... وحضَرتُ عِدَّةَ درُوسٍ في دارِ الدَّعوةِ والإرشادِ التي أسَّسها الشيخ رشيد رضا في منيل الروضة، وزُرتُ شاعر العربية الأكبر أحمد شوقي، وأسمعته عدة قصائد مِن شعره مِن حفظي فتهلّل -رحمه الله- واهتزّ، كما اجتمعت بشاعر النيل حافظ إبراهيم في بعض أندية القاهرة وأسمعته من حفظي شيئًا من شعره كذلك"[5].
ولك أَن تتخيّلَ وتتأَمّل وأَنتَ تقرأَ هذا النَّصَّ، شابٌ لَم يبلغ الحُلُمَ بَعدٌ، في بلَدٍ ضَربَ الاستعمارُ عليها بِأَطنابِهِ، وهو يجلس لِيعُلِم النّاس مِن حقائِقَ العُلومِ ودقِيقها، وصغيرها وكبِيرها، مما كانَ قد حفظُهُ وفهمَهُ في صباهُ، حالَةٌ لاَ تكادُ تراها إلاَّ إذا قرأتَ وقلَّبتَ في تَراجم الكِبار أَمثال: الشافعِي والبُخارِي وابن تيمية وغيرهم[6].
المرحلةُ الثالثة:
في هذهِ المرحلةِ وَصَلَ الشَّاب المُصلِحُ في رِحلَتهِ إِلى مَدِينةِ رسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؛ وذلكَ أَواخِرَ سنة 1911م. وطفِقَ يتنقلُ بين حلَقِ العِلمِ في الحَرمِ النَّبوي. وفيه التقى بعالمين: العزِيزُ الوزِير التُّونُسِي، والشيخُ حُسين أَحمد الفيض آبادِي الهندِي، اللذان قال عنهُما: "والحقُّ يُقالُ... عالمان محققان واسعا أُفُقِ الإدرَاكِ في عُلومِ الحديثِ وفِقهِ السُّنةِ، ولم أكن راغبًا إلاَّ في الاستزادة مِن عِلمِ الحديث، رواية ودراية، ومِن عِلمِ التفسير؛ فلازمتهما ملازمة الظلِّ، وأَخَذت عن الأوَّلِ الموطأ دِرايةً، ثم أدهشني تحقيقه في بقية العلوم الإسلامية، فلازمت دَرسَه في فقه مالك، ودَرسَه في التوضيح لابن هشام، ولازمت الثَّاني في درسه لصحيح مسلم. وأشهد أنِّي لم أَرَ لهذين الشيخين نظيرًا مِن عُلماءِ الإسلامِ إلى الآن. وقد علا سِنِّي، واستحكمت التَّجرِبَةُ، وتكاملتِ الملَكَةُ في بعض العلوم، ولَقِيتُ مِن المشايخ ما شاء الله أن ألقى. ولكنني لم أَرَ مِثلَ الشيخين في فصَاحةِ التَّعبيرِ ودِقَّةِ الملاحظةِ والغَوصِ عن المعاني واستنَارَةِ الفِكرِ، والتَّوضيحِ للغَوامِضِ، والتقريب للمعاني القَصيَّةِ.
ولقد كُنتُ لكَثرةِ مطَالعَاتي لكُتُبِ التَّراجِمِ والطبقات قد كوَّنت صُورَةً للعالم المبرز في العلوم الإسلامية، مُنتَزَعَة مما يصف به كتاب التراجم بعض مترجميهم، وكنت أعتقد أن تلك الصورة الذِّهنية لم تتحقق في الوجُودِ الخارجي مُنذُ أزمان، ولكنني وجدتها محقّقة في هذين العالمين الجليلين"[7].
المرحلة الرّابعةُ:
وهي الّتي تزامنت مع خُرُوجِه مِن مَدينةِ رسُول الله صلى الله عليه وسلم، قاصِدًا دِمشقَ الشَّام. وهناك التقى بالعالِم الكبير الأستاذ مُحمّد بهجة البيطار، وغيرهِ مِن كبارِ العلُماءِ والأُدبَاءِ في الشَّام في ذاك الزمن. وانهالَ يومَها الكِبارُ والشَّبابُ والصِّغارُ على هذا الشَّابِ رَغبَةً مِنهم للنَّهل مِن عِلمهِ، والاستفادةِ مِن تحصِيلِه وسمته. فكانت تُعقَدُ له الدُّرُوسُ في المَسجِدِ الأَمويِّ للوَعظِ والإرشَادِ، ثُمَّ وقع اختيارهُ للتدريس لمادَةِ (الأَدبِ العَربِي)، لطلبةِ الصُّفوف النهائِية المُرشَّحةِ للبكالوريا في المدرسة (السُّلطانية). وقد تخرج على يديهِ يومها كِبار الأدباء والوُجهاء، كالأُستاذ جمِيل صليبا، والأُستاذ عدنان الآتاسي، وغيرهم. ثُمَّ طَلَبَ مِنه الأَمِيرُ فيصل بن الحُسين الرُّجوعَ إِلى مَدِينةِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، لتَولِّي رِئاسَةِ وإِدارةِ (دائِرةِ المعَارفِ). إِلاَّ أَنَّ الإِبراهيمي أَبى لما طرأَ عليه وعلى المدينة يومها مَن أَحدَاثٍ وتَغيُّراتٍ، وشعَرَ أَن ريحَ ونسائِم بلادهِ الجزائِر أَصبَحَت تُناديهِ. ليبدأَ الشَّابُ المُصلحُ مَرحلَةً جديدةً مِن مرَاحِلِ حياتهِ.
المرحلة الخامسةُ:
وهيَ تُعتَبَرُ من أَهمِ مراحلِ الحياة الّتي ستبدأ في حياةِ المصلحِ الإِبراهيمي، التي سينطلِقُ فيها طورُ (التَّحصِيلِ) و(التدريس) إِلى مرحلة (التَّفكير) و(التَّخطِيطِ) و(التَّنفيذ). فبعد أَن مَكَثَ الشيخُ سِتَّ سَنواتٍ في مدينةِ رسُول الله صلى الله عليه وسلم، الّتي نستطِيعُ أَن نقُول إنَّه (نضُجَ) مِن خِلالها. قد والتقَى فيها برفيق الدَّرب في مسيرةِ الدّعوة والإِصلاح بلَدِيِّهِ، الذي لم يلتقي أو يتعارفا عليه إِلَّا خَارجَ وطنه، ألا وهو العالم الكَبير عبد الحمِيد بن باديس -رحمه الله. وقد صوّر الإِبراهيمي هذا اللقاء في صورةِ رائِعةِ الخيال، عظيمةَ البيان فقال: "كان مِن تدابيرِ الأقدارِ الإلهية للجزائر، ومِن مخبّآتِ الغيوبِ لها أن يرد عليَّ بعد استقراري في المدينة المنوّرة سنة وبضعَةَ أشهرٍ أخي ورَفِيقي في الجهاد بعد ذلك، الشيخ عبد الحميد بن باديس، أعلم علماء الشَّمالِ الإفريقي، ولا أغالي، وباني النهضات العلمية والأدبية والاجتماعية والسياسية للجزائر"[8].
وقد كَان هذا اللِّقاءُ في أَوائِل العِشرينيات مِن عُمرِ الشيخ محمَّد البشير الإِبراهيمي وابن بادِيس[9].
ويَروي الإِبراهيمي قِصّةَ اجتماعهما ولقائِهما فيَقُول: "كُنَّا نؤدّي فَرِيضَةَ العِشاءِ الأَخيرَةِ كُلَّ ليلَةٍ في المسجدِ النبوي، ونخرُجُ إلى مَنزِلي، فنسمُرُ مع الشيخ ابن باديس، منفردين إلى آخر الليل، حين يفتح المسجد، فندخل مع أوِّلِ دَاخِلٍ لصلاة الصُّبحِ، ثم نفترق إلى الليلة الثانية، إلى نهاية ثلاثة الأشهر التي أقامها بالمدينة المنوّرة!"[10]. و"كانت هذه الأسمار المتواصلة كُلُّها تدبِيرًا للوسَائلِ التي تَنهَضُ بها الجزائر، ووضعِ البرامج المفصَّلةِ لتلك النهضَات الشَّامِلةِ التي كانت كُلُّها صُورًا ذِهنيَّةً تتراءَى في مخيِّلتِينا، وصَحِبَها مِن حُسنِ النيّة وتوفيق الله ما حقَّقَها في الخارج بعد بضع عشَرةِ سَنةٍ!.."[11].
وعن هذه الحِقبة يتحدث الإِبراهيمي فيقُول: "وأُشهِدُ الله على أنَّ تلك الليالي مِن سنة 1913م هي التي وُضِعَت فيها الأُسسُ الأُولى لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين التي لم تبرز للوجود إلا في سَنةِ 1931م"[12].
بَدَأَ المَسِيرُ إِلى الجزائِر:
ومعَ الأيام والليالي استطاعَ الإِبراهيمي إِقناعَ رَفِيقَ دَربهِ، وزَمِيلَ غُربتهِ، وشَريكَهُ في مَشروعِهِ الإِصلاحي بالعودةِ إِلى الجزائِر لِيبدَآَ سَوِيًّا فيما كان يتسامران فيه ويُخططان له: "ورجعَ الشيخ -ابن بادِيس- إلى الجزائِرِ مِن سَنَته تلك، بعد أن أَقنَعتُه بأنِّي لاحِقٌ به بعد أن أُقنِعَ والديَّ أنَّ رُجُوعي إلى الجزائِرِ يتَرتَّبُ عليه إحياءٌ للدِّينِ والعَربيَّةِ، وقَمعٌ للابتدَاعِ والضَّلالِ، وإنكاءٌ للاستعمَارِ الفَرنسي. وكان هذا هو المنفذ الوحيد الذي أَدخُلُ مِنه[13] على نَفسِ والِدِي ليَسمَحَ لي بالرُّجوعِ إلى الجزائر"[14].
والأصل الأصيل الذي قام عليهِ المشروع الإِصلاحي لدى الإِبراهيمي ورفيقه ابن باديس هو العَملُ على تعليم الناشِئةِ وإِعدادِهم وتَوجِيههم، وزَرعِ رُوحِ العِلمِ والتَّفاني فيهم؛ ليَتمَّ لهم مِن خِلالِ ذلك إِدراكُ واقِعِهم، والإِحَاطَةُ بمَعرِفَةِ وَاجبِهم. يقول الإِبراهيمي: "كانت الطَّريقَةُ التي اتفقنا عليها -أنا وابن باديس- في اجتماعنا بالمدينة، في تربية النشءِ، هي ألَّا نتَوسعَ له في العِلمِ، وإنَّما نُربِّيه على فِكرَةٍ صَحِيحَةٍ ولو مع عِلمٍ قَليلٍ. فتَمَّت لنا هذه التجربة في الجيش الذي أعددناه مِن تلامِذتِنا"[15].
وما إن حَطَّت به رحَالُهُ في بلادهِ الأُمِّ -الجَزائِر- حتى جَلسَ لتَعلِيمِ النَّاسِ، بإِلقَاءِ الدُّروسِ للكبَارِ والصِّغارِ، وصَار يتَنقَلُ بين القُرى والأريافِ، بعد أَن خيَّم فيها الجَهلُ، وضُرِبَ عليهم الذُلُّ والقَهرُ، فبَلغَت الدُّروسُ في اليومِ الواحدِ مبلغها. واستقبلهُ النّاس بالتهلِيل والترحيب. وها هو يحكِي نشَاطَه، ويَسرِدُ رحلَاتهِ فيقول: "وتولَّيتُ بنفسي تَعليمَ الطَّلبةِ الكِبارِ مِن الوافِدين وأهل البَلدِ. فكُنتُ أُلقي عَشرَةَ دُروسٍ في اليوم؛ أبدَأُها بدرسٍ في الحديثِ بعد صلاةِ الصُّبحِ، وأَختِمُها بدرسٍ في التَّفسيرِ بين المغرِبِ والعِشاءِ. وبعد صَلاةِ العَتَمةِ أَنصَرِفُ إلى أحدِ النَّوادي فأُلقِي محَاضَرةً في التَّاريخِ الإسلامي؛ فأَلقَيتُ في الحِقبةِ الموالِيَةِ لظُهورِ الإسلامِ مِن العَصرِ الجَاهِلي إلى مَبدَأِ الخِلافَةِ العبَّاسيَّةِ بضعَ مِئاتٍ مِن المحاضرات، وفي فَترةِ العُطلةِ الصَّيفيةِ أَختِمُ الدُّروسَ كُلَّها وأَخرُجُ مِن يومي للجولان في الإقليم الوهراني مَدِينَةً مَدِينَةً، وقَريةً قَريةً، فأُلقِي في كُلِّ مَدِينةٍ دَرسًا أو دَرسين في الوَعظِ والإرشَادِ، وأَتفقَّدُ شُعَبَها ومَدَارسَها. وكانت أيَّامُ جَولتي كُلِّها أيَّامَ أعراسٍ عند الشَّعبِ، يتلقَّونني على عِدةِ أميَالٍ مِن المدينَةِ أو القَريةِ، ويَنتَقِلُ بعضُهم معي إلى عِدَّةِ مُدُنٍ وقُرى. فكان ذلك في نَظرِ الاستعمَارِ تحدِّيًّا له ولسُلطَته، وفي نَظرِ الشَّعبِ تمجِيدًا للعِلمِ والدِّينِ وإغاظَةً للاستعمار. فإذا انقَضَت العُطلَةُ اجتمعنا في الجزائر العاصِمةِ وعَقَدنا الاجتماعَ العَامَ، وفي أَثَره الاجتماعَ الإداري، وقدَّم كُلٌّ مِنَّا حِسابَه، ونَظَّمنا شُؤون السَّنةِ الجديدة، ثم انصرفنا إلى مراكزنا"[16].
سعد بن عبد الله بانِيمة
____________________
[1] جامع البيان: ج15/22.
[2] الآثار: ج4/267.
[3] الآثار: ج5/274.
[4] السابق نفسه: ج5/274.
[5] الآثار: ج5/274-275.
[6] انظر: كتاب العُلماءُ الذين لم يتجاوزوا سِنَّ الأشُدِّ، تحقيق علي بن محمد العُمران.
[7] الآثار: ج5/275.
[8] الآثار: ج5/278.
[9] المُصلِحُ ابنُ بادِيس يكبُرُ الإِبراهيمي في العمر (سنةً وبضعة أَشهر)، كما ذكر ذلك الأخِير في الآثار (ج5/278).
[10] الآثار: ج5/278.
[11] السابق نفسه: ج5/278.
[12] السابق نفسه.
[13] الآثار: ج5/279.
[14] الآثار: ج5/279.
[15] الآثار: ج5/280.
[16] الآثار: ج5/278.