صاحب الجنتين 3
محمد علي يوسف
الصاحب المؤمن كان عزيزا بدينه واثقا من عقيدته مستيقنا تماما أن ما عند الله خير وأبقى وأن وجود الدنيا أو ذهابها ليس دليلا على أي شيء من أمر الآخرة التي لا يُنال رخاؤها إلا بالإيمان..والتقوى..
- التصنيفات: القرآن وعلومه - التاريخ والقصص -
وأكثر ما ورد من الروايات عن حقيقة صاحب الجنتين وصاحبه المؤمن يدور حول وجود تماثل سابق في أصل الغنى إما بسالف شراكة كانت بينهما ثم اقتسما المال بالتساوي بعد انتهاء تلك الشراكة وذلك على قول من اختار أنهما كانا شريكين.. أو بميراث من أبيهما على قول من أثبتوا أنهما كانا أخويْن..
ثم اتّجر أحدهما واستثمر المال وتزوج به نساء ذوات منصب وغنى ونسب فازداد ماله وتضخمت ثروته وكثر ثمره والجنتان كانتا بمثابة درة تلك الثروة الطائلة.. {جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا * كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا ۚ وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا * وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ} [الكهف: 32].
بينما اختار الآخر تجارة ربحها الأكبر آجل وثمرتها العظمى تُرى في حياة أخرى فسُلط على هلكة ماله في مصارف الخير ووجوه البر فأطعم المساكين وأعان المكروبين وكفل اليتامى والمعدومين.
لقد اختار تجارة تنجي من عذاب أليم واستثمر ماله مع الكريم الرحيم.
في ظاهر الأمر بدى أن هذا الأخير لم يعد نظيرا لصاحبه ولا مكافئا له في ثرائه الفاحش بل في بعض الروايات أنه احتاج إلى عمل فذهب إليه يلتمس سابق مودة بينهما لعله يوفر له وظيفة تغنيه عن المسألة وتكسبه قوته من عمل يده.
لكن عالي الشأن في الدنيا كان دني النفس فقير الأخلاق فتعالى عليه وسعى لإذلاله وتبكيته واستدل بسعة ماله على تفضيله وعظم مكانته ثم شكك في دين صاحبه الصالح وادعى أن دين هذا الأخير قد أفلسه وأن إلهه قد أفقره فقال: وإنك لمن المصدقين بهذا الحديث.
ثم قال له: أنت تعبد إله السماء، وأنا لا أعبد إلا صنما وها قد أغناني صنمي وأفقرك تصديقك بإلهك.
هنا قرر المؤمن أن يقدم دعوته على حاجته وقال: والله لأعظنه، فوعظه وذكره وخوفه وورد أن مما وعظه به قوله: يا أخي إن الدنيا أحقر عند الله من أن يجعلها ثوابا لمحسن أو عقابا لكافر.
ثم كان بينهما ما سيأتي من حوار وتفصيل:
وسواءً صحت تلك الروايات أم لم تثبت فإن ما يعنينا هو السياق القرآني الذي لم يصرح بسابق حال كل منهما لكنه بين شيئا مهما يمكن استقراؤه من خلال الحوار القرآني الذي دار بين الرجلين..
إنها عزة نفس المؤمن وقوته في الحق:
عزة لم تنل منها فاقة وقوة لم تنقصها حاجة ولم تهزها ضائقة خصوصا حين برز مقام إظهارها عندما حاول الطرف المقابل أن يستغل تلك الضائقة والحاجة أو يشير إلى وجود الفاقة ليعلو الكفر على الإيمان وترتفع المعصية على الطاعة.
هنا لا ينبغي للمؤمن أن يقبل الذلة ويرضى بالمهانة التي لم تبلغ في هذا المقام شخصه وحسب وإنما تكاد أن تطال دينه الذي هو أغلى من لحمه ودمه.
كان من الممكن أن ينكسر طمعا في دنيا أو يركن إلى السكوت عما يقوله الغني الفاجر الذي ستظهر الآيات بعد قليل أن فجوره قد تحول إلى كفر بيِّن.
وكان من الممكن أن يتغاضى مؤقتا عن باطله حتى وإن لم يجامله أو يقره على هذا الباطل.. البعض يفعلون هذا.. بل يفعلون ما هو أعظم
لكن الرجل المؤمن كان صاحب دعوة وحامل رسالة:
لذا لم ينكسر ولم يسكت على ما يسمعه من الباطل ناهيك طبعا عن أن يجامل أو يداهن.
في جميع الأحوال وعلى كل الروايات والاستقراءات فإن الصاحب المؤمن كان عزيزا بدينه واثقا من عقيدته مستيقنا تماما أن ما عند الله خير وأبقى وأن وجود الدنيا أو ذهابها ليس دليلا على أي شيء من أمر الآخرة التي لا يُنال رخاؤها إلا بالإيمان..والتقوى..