الرائد الأول لحقوق الإنسان

الرسول – صلى الله عليه وسلم – يعد الرائد الأول والراعي الأعظم لحقوق الإنسان، ورسالته التي حملها للعالمين جميعا رسالة إنسانية، شملت برعايتها جميع الحقوق التي تتعلق بالإنسان كإنسان، بغض النظر عن ديانته أو جنسه، وقد تطرقت هذه الحقوق إلى جوانب دقيقه من حياة الإنسان، لم يتطرق إليها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، ولم يخطر على بال واضعي هذا الإعلان أن يتحدثوا عنها أو يدرجوها تحت قائمه الحقوق التي تضمنها إعلانهم.

  • التصنيفات: قضايا إسلامية معاصرة - أحداث عالمية وقضايا سياسية -

إذا كانت حركة حقوق الإنسان قد نشطت في أعقاب الحركة العالمية الثانية، وتوجت بإصدار الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في العاشر من ديسمبر عام 1948م، ثم بالعدد الوفير من الوثائق الدولية الخاصة بهذا الشأن، فأن الإسلام قد شرع هذه الحقوق منذ أربعة عشر قرنا من الزمان وأحاطها بضمانات كافيه لحمايتها وصاغ مجتمعه على أصول ومبادئ تمكن لهذه الحقوق وتدعمها.

فالرسول – صلى الله عليه وسلم – يعد الرائد الأول والراعي الأعظم لحقوق الإنسان، ورسالته التي حملها للعالمين جميعا رسالة إنسانية، شملت برعايتها جميع الحقوق التي تتعلق بالإنسان كإنسان، بغض النظر عن ديانته أو جنسه، وقد تطرقت هذه الحقوق إلى جوانب دقيقه من حياة الإنسان، لم يتطرق إليها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، ولم يخطر على بال واضعي هذا الإعلان أن يتحدثوا عنها أو يدرجوها تحت قائمه الحقوق التي تضمنها إعلانهم.

إن رسول الإنسانية الذي يقف لجنازة يهودي احتراما له كانسان ويجعل من نفسه خصيما لكل من يؤذي ذميا لجدير بأن يتربع على عرش حقوق الإنسان، وان يقف واضعو الوثيقة العالمية لحقوق الإنسان صاغرين إمام عظمته وسموه وإنسانيته، ولعل ذلك ما جعل العالم المسيحي مايكل هارت يضع الرسول - صلى الله عليه وسلم – على قمة عظماء الدنيا في كتابه "العظماء مائة أعظمهم محمد" – صلى الله عليه وسلم - ويقول عنه:"إن محمدا هو الإنسان الوحيد الذي نجح نجاحا مطلقا على المستوى الديني والدنيوي".

وحقوق الإنسان التي قررها الإسلام منذ أربعة عشر قرنا وأكدها الرسول - صلى الله عليه وسلم- في سيرته وسنته ليست منحة من ملك أو حاكم، أو قرار صادر عن سلطه محلية أو منظمة دولية، وإنما هي حقوق ملزمة بحكم مصدرها الإلهي، لا تقبل الحذف ولا النسخ ولا التعطيل، ولا يسمح بالاعتداء عليها ولا يجوز التنازل عنها.

وفي ذلك يقول الشيخ محمد الغزالي- رحمه الله – في كتابه القيم "حقوق الإنسان بين تعاليم الإسلام وإعلان الأمم المتحدة":"إن آخر ما أملت فيه الإنسانية من قواعد وضمانات لكرامة الجنس البشري كان من أبجديات الإسلام، وان إعلان الأمم المتحدة عن حقوق الإنسان ترديد عادي للوصايا النبيلة التي تلقاها المسلمون عن الإنسان الكبير والرسول الخاتم محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم".

ثم يقول: "ومن العجب أن مبادئ حقوق الإنسان التي طالما صدرها الإسلام للناس يعاد تصديرها إلينا علي أنها كشف إنساني ما عرفناه يوما ولا عشنا به دهرا".

"لقد كان ظهور هذه المبادئ منذ اندلاع الثورة الفرنسية شيئا جديدا في حياة الغرب، ولكننا كمسلمين نملك منذ أربعة عشر قرنا من الزمان تراثا عامر الخزائن بالمبادئ الرفيعة والمثل العليا، ونخشى أن يجئ يوم يصدر الغرب إلينا فيه غسل الوجوه والأيدي والأقدام على أنه نظافة إنسانية للأبدان، فإذا قلت:ذلك هو الوضوء الذي نعرفه، قال لك المتحذلقون المفتونون: لماذا لا نعترف بتأخرك وتقدمه وفقرك وغناه؟!"

إن مبادئ حقوق الإنسان التي انتشرت في الغرب وانسجمت مع فطرة الله التي فطر الناس عليها ليست مخترعات حديثة ولكنها مأنوسة لنا- نحن المسلمين- ومدروسة في ديننا منذ قرون، فالإسلام هو أول من قرر المبادئ الخاصة بحقوق الإنسان في أكمل صورة وأوسع نطاق، وهذه المبادئ والحقوق التي وردت في الإعلان العالمي منذ نصف قرن فقط مدونة وواردة في القرآن الكريم والسنة المطهرة منذ فجر الإسلام، والأمم الإسلامية في عهد الرسول- صلى الله عليه وسلم- والخلفاء الراشدين من بعده، كانت أسبق الأمم في السير عليها.

الرسول وحقوق الإنسان:
ولقد كان النبي – صلى الله عليه وسلم- حريصا على تأكيد هذه الحقوق حتى قبل وفاته فقد جاءت خطبة الوداع التي خطبها يوم عرفه بمثابة تقرير شامل لحقوق الإنسان، وبيان واضح لعلاقات المسلم ومعاملاته مع غيرة من البشر، وبدأها – صلى الله عليه وسلم – بقوله: «..إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا إلى أن تلقونه...» ومن الحقوق التي أكدتها هذه الخطبة النبوية: حرمة الدماء والأموال والأعراض وإقرار العدل والمساواة والنهي عن الظلم وأداء الأمانة وبيان حقوق الزوجة.

وتأكيدا لحقوق الإنسان في الإسلام أصدر المجلس الإسلامي الدولي وثيقتين، الأولى في ابريل 1980م باسم"البيان الإسلامي العالمي" عن النظام الإسلامي والأطر العامة لهذا النظام , والثانية في سبتمبر1981م عن حقوق الإنسان في الإسلام باسم"البيان العالمي عن حقوق الإنسان في الإسلام"، وقد تضمنت هذه الوثيقة عشرات الحقوق التي قررها الإسلام منها:حق الحياة وحق الحرية وحق المساواة وحق العدالة، وحق الفرد في محاكمة عادله، وحق الحماية من تعسف السلطة، وحق الحماية من التعذيب، وحق الفرد في حماية عرضه وسمعته، وحق اللجوء، وحقوق الأقليات، وحق المشاركة في الحياة العامة، وحق حرية التفكير والاعتقاد والتعبير، والحقوق الاقتصادية، وحق حماية الملكية، وحق الفرد في كفايته من مقومات الحياة، وحقوق الزوج وحقوق الزوجة، وحق الارتحال والإقامة، وحق الفرد في حماية خصوصياته.

وسوف نتعرض في إيجاز لموقف الرسول - صلى الله عليه وسلم - من حقوق الإنسان، وهي مجرد أمثلة فقط للحقوق التي صانها الإسلام، وقررها لبنى البشر منذ أربعة عشر قرنا من الزمان، وأكد عليها رسوله الكريم محمد - صلى الله عليه وسلم- الرائد الأول والراعي الأعظم لحقوق الإنسان:


حق الحياة:
ولعل من أعظم حقوق الإنسان على الإطلاق:حق الحياة لكل فرد أيا كانت ديانته أو جنسيته، وهو حق مقدس لا يجوز الاعتداء عليه في ظل الإسلام إلا بسلطان الشريعة الممثل في الحدود والقصاص، وقد نهى الإسلام عن قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} [الأنعام: 151]، وجعل القران الكريم إزهاق الروح جريمة ضد الإنسانية كلها،قال تعالى {أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32].

والحق الذي تزهق به النفس بينه الرسول - صلى الله علية وسلم - في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن ابن مسعود - رضي الله عنه- "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث:القاتل، والثيب الزاني، والتارك لدينه المفارق للجماعة"

وقد حفلت السنة النبوية المطهرة بالعديد من الأحاديث التي تؤكد حرمة النفس فيقول - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الذي رواه مسلم:
«لزوال الدنيا أهون على الله من قتل رجل مسلم»، ويقول في الحديث الذي رواه الترمذي عن أبى سعيد الخدرى - رضي الله عنه -: «لو أن أهل السماء وأهل الأرض اشتركوا في دم مؤمن لأكبهم الله في النار»، ويقول في الحديث الذي رواه البيهقي عن ابن عمر- رضي الله عنهما – «من أعان علي دم امرئ مسلم بشطر كلمة كتب بين عينيه يوم القيامة آيس من رحمة الله».

والإسلام يحمي حق الحياة للإنسان من نفسه، كما يحميه من غيره، فنجده يحرم الانتحار ويعتبره جريمة كبري في حق النفس، قال تعالى
{وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 29]، وقال تعالى {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195].

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله – صلي الله عليه وسلم – قال:
«من تردي من جبل فقتل نفسه فهو في نار جهنم يتردى فيها خالدا مخلدا فيها أبدا، ومن تحسي سما فقتل نفسه فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا، ومن قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ بها في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا» رواه البخاري ومسلم.

ومن حرص الإسلام علي حرمة النفس نجده يحرم إسقاط الجنين بعد أن تدب فيه الحياة، ويضع الضمانات التي تحفظ له حياته، فيرخص لامه بالإفطار في رمضان أثناء الحمل حتى لا يتأثر هذا الجنين بصومها.

ويشرع الإسلام القصاص في القتل حفاظا على حياة الناس، وحتى لا يسود القتل بينهم
{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [البقرة: 179]، والقصاص عقوبة مقررة في جميع الشرائع الإلهية المتقدمة، قال تعالى:  {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45].

والمسلم وغير المسلم سواء في حرمة الدم واستحقاق الحياة، والاعتداء على المسالمين من أهل الكتاب هو في نكره وفحشه كالاعتداء على المسلمين، وله سوء الجزاء في الدنيا والآخرة، فعن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة» رواه البخاري، وفى رواية أخرى «من قتل قتيلا من أهل الذمة حرم الله عليه الجنة» رواه النسائي.

وقد حرم الإسلام كل عمل ينتقص من حق الحياة، سواء أكان هذا العمل تخويفا أو إهانة أو ضربا أو اعتقالا أو تعذيبا أو تطاولا أو طعنا في العرض فان حياة الإنسان المادية والأدبية موضع الرعاية والاحترام، فعن هشام بن حكيم قال:سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن الله يعذب الذين يعذبون الناس في الدنيا» رواه مسلم.

فحق الحياة وحرمتها يستتبع توافر السلامة والأمان، ومن هنا أوصد الرسول - صلى الله عليه وسلم - الأبواب أمام كل من يستهينون بأقدار الآخرين وحقوقهم، خصوصا الحكام الذين قد يدهمون البيوت لتفتيشها أو يعتقلون خصومهم، واعتبر الرسول - صلى الله عليه وسلم- النظرة المجردة داخل بيت الإنسان اعتداء على حرمته، فقال في الحديث الذين رواه احمد عن أبى ذر «أيما رجل كشف سترا فادخل بصره قبل أن يؤذن له فقد أتى حدا لا يحل له يأتيه، ولو أن رجلا فقأ عينه - بسبب ذلك- لهدرت» أي لا يأخذ عليها دية.

ونهى - صلى الله عليه وسلم- عن ترويع المسلم فقال: «لا يحل لمسلم أن يروع مسلما» رواه أبو داود، وفى رواية أخرى: "لا تروعوا المسلم فان روعة المسلم ظلم عظيم" رواه البزار.

وقال في حديث آخر: «لا يقفن أحدكم موقفا يضرب فيه رجل ظلما فان اللعنة تنزل على من حضره حين لم يدفعوا عنه» رواه الطبراني.

فتعريض الإنسان لأي فزع جريمة، وحق الحياة الآمنة من المخاوف والمظالم لابد من إنباته في حياة الجماعة.

وتصل العظمة بالرسول - صلى الله عليه وسلم – الرائد الأول والأعظم لحقوق الإنسان، حين يحفظ للإنسان كرامته بعد موته، فقد قال لمن أراد أن يكسر عظم ميت «لا تكسره فان كسرك إياه ميتا ككسرك إياه حيا» رواه مالك وابن ماجه وأبو داود.

وأمر بالترفق بالميت فقال «إذا كفن أحدكم أخاه فليحسن كفنه» رواه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي، ودعا إلى ستر سوأة الميت وعيوبه الشخصية، فقال: «لا تسبوا الأموات فإنهم أفضوا إلى ما قدموا» رواه البخاري، وقد ورد انه - صلى الله عليه وسلم –  قام لجنازة يهودي، ولما عجب بعض الصحابة من ذلك نبههم إلى أن ذلك التكريم لمحض آدميته ولمجرد إنسانيته.

فحق الحياة مصون في ظل الرسالة المحمدية، وفى غياب هذه الرسالة والهدي النبوي الكريم تنتشر المذابح والمجازر الجماعية ويصبح قتل النفس كشربة ماء، وما يحدث في العديد من مناطق الصراع اليوم خير شاهد على ذلك.

حق المساواة:
وبعد حق الحياة يأتي حق المساواة، وهو من الحقوق التي أكدها الرسول - صلى الله عليه وسلم - فقد ساوت الرسالة المحمدية بين الناس جميعا مساواة مطلقة، بين الأفراد والجماعات، وبين الأجناس والشعوب، وبين الحكام والمحكومين، وبين الولاة والرعية، فلا قيود ولا استثناءات، ولا فرق في التشريع بين عربي وعجمي، ولا بين أبيض وأسود، ولا بين حاكم ومحكوم،وإنما التفاضل بين الناس بالتقوى، والتقوى جماع الإيمان والعلم والفضائل {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } [الحجرات: 13].

وقد أكد الرسول - صلى الله عليه وسلم - هذه المساواة في خطبة الوداع فقال: «أيها الناس إن ربكم واحد وان أباكم واحد، ألا لا فقل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود ولا لأسود على احمر إلا بالتقوى، إن أكرمكم عند الله اتقاكم».

انه - صلى الله عليه وسلم- يحطم كل المعايير الزائفة للتفاضل بين الناس، كمعيار الجنس أو العرق أو اللون أو الغنى أو الفقر، ويحارب كافة صور التفرقة العنصرية، وقد بلغت به - صلى الله عليه وسلم-  المساواة بين الناس أقصاها حين قال «لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها» رواه البخاري ومسلم.

فالتفرقة بين الناس على أساس الجنس أو العرق أو اللون أو اللغة أو الدين أو السلطة أو القرابة أو الجاه، هي مصادرة مباشرة لمبدأ المساواة الذي أقره الإسلام.

حق العدالة:
ويرتبط بحق المساواة حق أخر وهو العدالة بين الناس، وقد كان الرسول - صلى الله عليه وسلم- أعدل الناس، وكان يتحرى العدل ويطبقه على أهله وعلى سائر المسلمين، وكان حريصا على تحقيق العدالة دون نظر إلى جاه أو قرابة، فعن عائشة - رضي الله عنها- أن قريشا أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت، فقالوا:من يكلم فيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم - فقالوا:ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكلمه أسامة، فقال: «أتشفع في حد من حدود الله تعالى، ثم قام فخطب ثم قال:إنما اهلك الذين من قبلكم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، والذي نفس محمد بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها» أخرجه الخمسة.

وعن الفضل بن العباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صعدا المنبر في مرض وفاته فقال «أيها الناس من كنت جلدت له ظهرا فهذا ظهري فليستقد منه، ومن كنت أخذت له مالا فهذا مالي فليستقد منه، ومن كنت شتمت له عرضا فهذا عرض فليستقد منه، لا يقولن رجل أنى أخشى الشحناء من قبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم- ألا وان الشحناء ليست من طبيعتي ولا من شأني، ألا وان أحبكم إلى من اخذ حقا كان له أو حللني، فلقيت الله وأنا طيب النفس».

وكان  - صلى الله عليه وسلم- ينهى عن مصادرة حق الفرد في الدفاع عن نفسه تحريا للعدالة، فيقول: «إن لصاحب الحق مقالا» رواه الخمسة، ويقول لمن يتولى الحكم والقضاء بين الناس: «إذا جلس بين يديك الخصمان فلا تقضين حتى تسمع من الآخر كما سمعت من الأول، فانه أحرى أن يتبين لك القضاء» رواه أبو داود والترمذي.

حرمة الحياة الخاصة:
وعندما ننظر إلى جانب آخر من جوانب حقوق الإنسان، وهو حرمة الحياة الخاصة لكل إنسان، نجد أن للحياة الخاصة حرمتها في الإسلام، فلا يجوز انتهاكها أو التعدي عليها، ومن اجل حمايتها وصيانتها جاء العديد من أحكام الشريعة الإسلامية، فقد حرم الإسلام الزنا واعتبره كبيرة من الكبائر لما فيه من هتك للعرض وانتهاك للشرف وهدم للأسرة وتضييع للأخلاق.

وأمر بغض البصر ونهى عن خلوة الرجل بالمرأة الأجنبية إلا مع ذي محرم، كما نهى عن تبرج النساء واختلاطهن بالرجال، ووضع أدبا للحفاظ على حرمة البيوت الخاصة وهو أدب الاستئذان الذي تفرد به الإسلام، قال تعالى {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا } [النور: 27].

وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم- في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن سهل بن سعد «إنما جعل الاستئذان من اجل البصر»، وقال في حديث آخر «لا تأتوا البيوت من أبوابها - يعنى مواجهة تجعل القادم بكشف ما في البيت - ولكن ائتوها من جوانبها، فاستأذنوا فان أذن لكم فادخلوا وإلا فارجعوا» رواه الطبرانى.فالنظرة المجردة داخل بيت الإنسان يعتبرها الرسول - صلى الله عليه وسلم- اعتداء على حرمته وحياته الخاصة.

حرية الاعتقاد:
ونأتي إلى حق آخر من حقوق الإنسان، وهو: حرية العقيدة والاعتقاد، فنجد هذه الحرية مصونة في الإسلام، فالدين من الضروريات التي يحفظها الإسلام لبنى البشر أيا كانت ديانتهم وعقيدتهم، فلا إكراه لأحد على اعتناق عقيدة معينة، قال تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة: 256]، وقد فتح المسلمون البلاد والأمصار، ولم يسجل عليهم التاريخ حادثه إكراه واحدة من اجل تغيير العقيدة، بل إن أهل الذمة قد عاشوا في ظل الإسلام حياة سعيدة ومارسوا فيها حريتهم الكاملة في الاعتقاد وإقامة شعائرهم.

وهذا هو المنهج الذي رسمه الرسول - صلى الله عليه وسلم – للأمة، وسار عليه، وهو منهج يقوم على الحرية الدينية في أرحب مفاهيمها، فما عليه إلا بيان الحق للناس وتذكيرهم به ومن شاء منهم فليؤمن ومن شاء فليكفر، {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29].

وحرية الاعتقاد هذه التي صانها الإسلام لم تصنها الشرائع الوضعية التي تغتال في ظلها الحرية الدينية، وتحرم الدعوة إلى الأديان، وتهدم المساجد ودور العبادة، وتفرض فيها العقائد والمذاهب.

حقوق الأقليات:
ويرتبط بحرية الاعتقاد حق آخر من الحقوق التي صانها الإسلام، وهو حقوق الأقليات، فما دام الإسلام قد احترم حرية العقيدة فلابد أن يحمى أصحاب الديانات الأخرى الذين يعيشون في كنفه، وقد تحقيق ذلك بالفعل، وأكد الرسول - صلى الله عليه وسلم- على حسن معاملة أهل الكتاب والبر بهم والتسامح معهم ومراعاة حقوقهم، ومن هنا فقد جعل - صلى الله عليه وسلم-كما ذكرنا، المسلم وغير المسلم سواء في حرمة الدم واستحقاق الحياة، فقال في الحديث الذي رواه البخاري عن عمرو بن العاص: «من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة»، وفى رواية أخرى «من قتل قتيلا من أهل الذمة حرم الله عليه الجنة» رواه النسائي، وقد شهد احد البطارقة على سماحة الإسلام مع أهل الذمة بقوله: «إن العرب الذين مكنهم الزمن من السيطرة على العالم يعاملوننا بعدالة لا حدود لها».

واعد المستشار ادوارد غالى الذهبي رئيس مجلس الدولة المصري الأسبق بحثا حول «معاملة غير المسلمين في المجتمع الإسلامي» – وهو مسيحي مصري – وأكد في هذا البحث عظمة الإسلام في معاملة غير المسلمين، وبره بهم، وهو ما لم يتحقق في أي ديانة من الديانات.وقال أن الإسلام قد بلغ شأوا عظيما في حسن معاملة الأقليات، واتبع القاعدة الذهبية الحكيمة "لهم مالنا وعليهم ما علينا" وهى التي تضعهم على قدم المساواة مع المسلمين.

حرية الرأي والتفكير:
وتمتد قائمة حقوق الإنسان في الإسلام، فنجد حرية الرأي والتعبير، والحرية في الإسلام أصل عام يمتد إلى كل مجالات الحياة، وخاصة حرية التفكير والرأي، فقد فتح الإسلام مجالا رحبا للتفكير وإعمال العقل، وكان الرسول - صلى الله عليه وسلم- يحترم حرية الراى ويشجع عليها وكان حين يرى الرأي ويرى بعض أصحابه خلافه، يرجع عن رأيه إلى رأى من يخالفه، بعد أن يتبين وجه المصلحة فيه، وخير مثال على ذلك ما حدث في غزوة بدر حين نزل – صلى الله عليه وسلم – منزلا وأشار الحباب بن المنذر بغيره، فقال: لقد أشرت بالرأي، وبادر بتنفيذ ما أشار به الحباب، ولم يستبد برأيه رغم انه السيد المطاع والإمام المقتدى به.

إن هذا الموقف ليعين على نشر الحرية ورفع رايتها وإعلاء صورتها ومد جذورها ويشجع على الآراء الناضجة كي تنبت وتترعرع.

حق الكفاية من مقومات الحياة:
ثم يأتي حق الكفاية من مقومات الحياة، وحق الكفاية في الإسلام من الحقوق التي اختص بها الإسلام، ولم تتطرق إليها الأنظمة الوضعية ولا مواثيق حقوق الإنسان، وهو حق إسلامي مقدس، ويعنى أن يحصل كل فرد يعيش في كنف الدولة الإسلامية على كفايته من مقومات الحياة بحيث يعيش عيشة كريمة ويتحقق له المستوى اللائق للمعيشة، وهو يختلف عن حد الكفاف الذي تحدثت عنه النظم الوضيعة، والذي يعنى الحد الأدنى لمعيشة الإنسان.

وحق الكفاية هذا يتحقق بالعمل، فإذا عجز الفرد فالزكاة، فإذا عجزت الزكاة عن سد كفاية المحتاجين تأتى ميزانية الدولة لسداد هذه الكفاية، وقد عبر الرسول – صلى الله عليه وسلم – عن ذلك بقوله: «من ترك دينا أو ضياعا – أي أولادا صغارا ضائعين لا مال لهم – فإلى وعلى» رواه البخاري ومسلم.

وقال مؤكدا هذا الحق: «ليس بمؤمن من بات شبعانا وجاره جائع إلى جنبه وهو لا يعلم» أخرجه الطبراني والبيهقى.وقوله «أيما أهل عرصة أصبح فيهم امرؤ جائعا فقد برئت منهم ذمه الله ورسوله» أخرجه احمد فى مسنده.

وقوله: «إن الاشعرين إذا أرملوا في الغزو أو قل طعام عيالهم في المدينة حملوا ما كان عندهم في ثوب واحد ثم اقتسموه بينهم بالسوية فهم منى وأنا منهم» رواه البخاري ومسلم.

حقوق المدنيين والأسرى أثناء الحروب:
وتصل حقوق الإنسان في الإسلام إلى أوج عظمتها فيما يتعلق بحقوق المدنيين والأسرى أثناء الحروب، فالشأن في الحروب أنها يغلب عليها روح الانتقام والتنكيل، لا روح الإنسانية والرحمة، ولكن الرسول – صلى الله عليه وسلم – كان يضع لقادة الجيوش منهجا إنسانيا تحكمه الرحمة، فينهى عن قتل من لا شأن لهم في القتال كالأطفال والنساء والشيوخ والعجزة وعباد الصوامع فيقول «لا تغدروا ولا تغلوا ولا تمثلوا ولا تقتلوا الولدان ولا أصحاب الصوامع» رواه احمد والبزار والطبراني، وجاء في رواية أخرى «لا تقتلوا وليدا ولا امرأة ولا شيخا».

وقال يوم فتح مكة «ألا لا يجهزن على جريح ولا يتبعن مدبر، ولا يقتلن أسير، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن» أخرجه عبد الرازق والبيهقي عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبه.

وكان – صلى الله عليه وسلم – يوصى أصحابه بالأسرى ويحضهم على إكرامهم وحسن معاملتهم، فأين هذه الأخلاق السامية من حروب اليوم التي تشن ضد المسلمين ويذهب ضحاياها الأطفال والنساء والشيوخ، فقد بلغ ضحايا الحروب من الأطفال خلال العقد الماضي 2 مليون قتيل و5 ملايين معوق و12 مليون مشرد، وارتفعت نسبة ضحايا الحروب من المدنيين خلال هذا القرن إلى 90% من الضحايا.

 

الكاتب: أحمد محمود أبو زيد