(3) النفاق من أخطر أمراض القلوب
محمد علي يوسف
الصواب أن نتعامل مع تفصيل ذلك المرض وأعراضه بمنطق المنتبه المحاذر الذي يسعى بصدق للوقاية منها أو للعلاج إذا كان ممن أصيبوا بشيء منها وأن يتعامل كذلك مع من ينبهونه لتلك الآفات سواء بشكل عام مطلق أو خاص مقيد على أنه طبيب حريص وناصح أمين وليس عدوا مريبا يريد أن يستعلي عليه ويزكي نفسه من خلال انتقاص الآخرين
- التصنيفات: التصنيف العام -
والنفاق مرض.. وليس أي مرض..
لعلي لا أكون مبالغا إن قلت إنه المرض الأخطر الذي قد يعتري قلب مسلم قبل أن تنتفي عنه تلك الصفة للأبد.. وإن البداية الحقيقية لعلاج أي مرض تكمن في التعرف على وجوده والانتباه إلى.. مكانه ومدى انتشاره داخل الجسم.. لكن تخيل لو أن مريضا قرر ألا يعترف بوجود المرض.
تخيل لو أن مريضا هاجم الطبيب الذي نبهه للمشكلة واعتبره طرفا فيها وحمّله مسؤولية تنغيص حياته بتحذيره من احتمالية وجود المرض وتعكير صفوه بذلك التنبيه والتحذير.
تخيل لو أنه رفض الانتباه وقرر أن يدس رأسه في الرمال وأبى أن يسعى لاكتشاف حقيقة إصابته بهذا المرض العضال وبالتالي فقد فرصة علاجه أو استئصاله.
البعض للأسف يعيش هكذا ويتعامل بهذا المنطلق مع من ينصحه وينبهه لوجود خلل ما، بل ويعتبر أن النصح العام من خلال بيان مواطن الخلل والتحذير من الآفات القلبية والأمراض الخفية التي تجتاح جسد الأمة من حيث لا تشعر انشغالا بعيوب الناس أو نظرة سوداوية تبرز فيها فقط النماذج المؤسفة والبلايا المتوطنة في ثنايا النفس وجنبات الشخصية..
والحقيقة أن الأمر ليس كذلك على الإطلاق.. إن كان في النصح التحذيري تنغيصا لحياة البعض وإظهار لشيء من مواطن الخلل فإن إبرازها بشكل صريح ودقيق وبشيء من التفصيل ربما يساعد بشكل أو بآخر على اجتنابها وينبه من ينطبق عليهم شيء من تلك الخصال والأنماط المؤسفة ويلفت نظرهم إلى أن ثمة مشكلة ربما لا يلاحظونها في خضم الصخب المحيط بهم لكن عند النظر إليها بمنظور عين الطائر ومن خلال الرؤية النقدية المتسعة فإن ذلك أدعى لوقفة مع النفس ومراجعتها وتصحيح مسارها وهذا أول طريق التغيير والعلاج.. وإن ذلك منهج قرآني متقرر ومتكرر..
لو أننا تدبرنا آيات سورة التوبة كمثال لأكثر السور التي تناولت النفاق وأهله لوجدنا لفظ (ومنهم) قد تكرر كثيرا في تلك السورة..
والناظر بعين التدبر لما بعد هذا اللفظ سيجد في كل مرة صفةً من صفات المنافقين ونمطا متكررا من أنماطهم الحياتية وسلوكياتهم التي تُتبين منها حقيقتهم.. كل صفات المنافقين تقريبا ذكرت في هذه السورة ولم يكن متبقياً إلا أن تُذكر أسماؤهم وكناهم.
وسورة التوبة هي السورة الفاضحة الكاشفة التي يستطيع كل منا أن يكتشف حقيقته من خلال آياتها بعرض هذه الآفات على نفسه وتلمس حالها والمسارعة إلى التوبة التي هي الحل المطروح في السورة في مواجهة تلك الفضائح والخلاص من أسر تلك الأمراض بدلا من تركها والتستر عليها حتى تنمو وتستفحل ويصعب اجتثاثها بعد حين وكلما مر المرء بالكلمة المتكررة في السورة "ومنهم" "ومنهم" "ومنهم" عليه فقط أن يسأل نفسه ثم يجيب بصراحة: ترى هل أنا منهم؟!
قد يقول قائل: هؤلاء منافقون فما شأننا نحن بذلك وما علاقة هذا بأمراض النفس وآفات السلوك إجابة ذلك التساؤل تظهر جليه من تعامل الصحابة رضوان الله عليهم مع تلك الآفة.. آفة النفاق لم يتعامل الصحابة مع هذا المرض العضال والنمط البغيض على أنه مخصوص بطائفة معينة عليهم الحذر منها وحسب، لكنهم تفاعلوا مع تلك النصوص وأدركوا أنهم -على مكانتهم- ليسوا بمعزل عن تلك الخصال التي لخص مجامعها رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بين أن المنافق إذا حدّث كذب وإذا اؤتمن خان وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر ثم أوضح أنه من كانت فيه خصلة منهم كانت فيه خصلة من خصال النفاق حتى يدعها ومن اجتمعت فيه فهو منافق خالص عياذا بالله!
ها هنا بيان واضح من النبي صلى الله عليه وسلم أن الخطاب تحذيري من الآفة نفسها وليس فقط من المصابين بها والرسالة الضمنية مفادها: راجعوا أنفسكم فلربما تلبستم بشيء من تلك الخصال من حيث لا تشعرون..
ولقد تلقى الصحابة تلك الرسالة وتفاعلوا معها تفاعلا واضحا فلم يتغافلوا أو يدسوا رؤوسهم في الرمال بل انتبهوا وخشوا على أنفسهم جدا تلك الخصال كما أشرت آنفا في فعل سيدنا عمر بن الخطاب مع سيدنا حذيفة رضي الله عنهما وقول ابن أبي مليكة رحمه الله عن إدراكه لثلاثين من الصحابة كلهم كان يخشى على نفسه من ذلك المرض العضال.. النفاق.
إذن فعندما نتأمل تلك الآيات التي تتحدث عن النفاق فلا ينبغي أن نتعامل معها من منطلق المعلومات العامة أو الشأن الغابر لطائفة خيالية أو افتراضية ليس لها أدنى علاقة بنا أو بواقعنا ومن ثم نتغافل عن إسقاطها وقياس حالنا عليها والاستفادة من توجيهاتها وتحذيراتها في واقع نفوسنا وأفعالنا..
الصواب أن نتعامل مع تفصيل ذلك المرض وأعراضه بمنطق المنتبه المحاذر الذي يسعى بصدق للوقاية منها أو للعلاج إذا كان ممن أصيبوا بشيء منها وأن يتعامل كذلك مع من ينبهونه لتلك الآفات سواء بشكل عام مطلق أو خاص مقيد على أنه طبيب حريص وناصح أمين وليس عدوا مريبا يريد أن يستعلي عليه ويزكي نفسه من خلال انتقاص الآخرين {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} [الأنعام: 55]