ملح الحياة - صناعة الذكرى

منذ 2017-10-19

يجب علينا مراجعة مفاهيمنا والاقتداء بنبيِّنا وصحابتِه الأكرمين حتى نصنعَ رجالًا هم بحقٍّ رجال لا جثثًا ميِّتة القلب؛ تَنمو لتأكل ثمَّ تذهب بلا أثر! أحسِنوا إليهم لتكونوا مبعثَ سرور في نفوسهم كلَّما طافت ذكراكم بخيالهم.

كلٌّ منَّا عندما تمرُّ عليه لحظة ما يشاهد فيها موقفًا أو يشتمُّ فيها رائحة، أو يؤدِّي فيها نسكًا... تقفز به الذاكرةُ لمرحلة محدَّدة من عمره، فنرى وجهَه قد تغيَّر؛ إمَّا لطلاقة وبِشر، وكأنَّ ماء الطُّفولة قد سرى في وجهه، وإمَّا كمدًا وحزنًا، وكأنَّه يُساق لقبره، وقد نرى وجهًا لا نعرف صاحبَه، لكنَّه يثير فينا حنينًا وشوقًا يصل بنا أحيانًا لتدفُّق الدَّمع لهفة وفرحة؛ وذلك لأنَّه أثار في قلوبنا ذكرى نفس فارقناها وكانت فَيء روحنا وجنَّة أيامنا.. كل ذلك مرده الذِّكرى التي تُثار في نفوسنا نتيجة لهذا الحدَث الآني، والسؤال هنا كيف أصنع لطفلي ذكرى تَنثر السعادةَ في أرجاء روحه عندما يَكبر ويواجه كبَد الحياة وعبوسها؛ جنَّبكم الله وصغارَكم شرَّها ورزقكم خيرها.

في الحقيقة أثار هذا الجانبَ في نفسي سؤالٌ عابر لابنتي بعد أن آنستُ منها رشدًا وهو:

هل تحرصين على الدُّعاء لنا؟

فقالت بلهفة تنبئك عن صِدق: في كلِّ صلاة واللهِ أفعل.

أثار ردُّها في ذهني سؤالًا: ما أحبُّ موقفٍ تتذكرينه لنا (الوالدين) وأنت صغيرة؟

قالت: عندما كنَّا نلعب حولكم وأنتم تقشِّرون لنا (الحب) وتضعونه في كفكم ونحن نركض ونطوف لنأكله أثناء اللعب، عندما كبرتُ علمتُ أنها عمليَّة شاقَّة جدًّا وأنا لا أطيق فعلها، فكيف صبرتم علينا وفعلتم ذلك مرات كثيرة وبكميات؟!

سألتُها عن موقف آخر، قالت: كل يوم أرى أبي يَفتح زجاجةَ الماء والعصير ثمَّ يغلقها مرَّةً أخرى قبلَ أن يضعها في حقيبة مدرستي فأتعجَّب، ولكنِّي لا أصل إلى إجابة، فلمَّا سألته قال: حتى لا تؤلِمكم أثناء فَتحها أو تعصى على أيديكم الغضة!

أردفت أختها: أمَّا أنا، فلا أشعر بالعيد إلَّا عندما أشتم رائحةَ الوسادة التي تعطِّرينها لنا بنفس العِطر كلَّ عيد، وننام نحلم بالشروق والخروج للصلاة والعودة مِن طريق آخر، ونتذكَّر ما كان العيد الماضي مِن طُرف، وكلٌّ منَّا يضيف ما أعدَّه من ذكريات مضحكة، تتجدَّد معها النفس، ونعيش لحظات كأنَّها العمر نشعر فيها بفرحة العيد...

هذه تصرُّفات عفويَّة منَّا كوالدين لم نتعمَّدها، ولكنها رسخت في نفس ابنَتي، فأنبتتْ بداخلها شعورَ الامتنان والحبِّ والاعتراف بالجميل، وعلَّمتْني أنا كأمٍّ أنَّه لا يضيع خير عند الله عزَّ وجل، فكلُّ خيرٍ سيوفَّى إليك حتى وإن فعلته بدافع الفِطرة دون قصدٍ منك، كما أنَّها قفزت بخيالي لتعامل رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم مع سبطيه (الحسن والحسين) سلام الله عليهم جميعًا، كيف كان يطيل السجودَ وهما على ظهره حرصًا عليهما، تُرى كيف كان شعورهما عندما يتذكَّران له مثل هذا الموقف؟ أم كيف كان شعورهما وهما يتذكَّران نزوله مِن على المنبر وحمله لهما عندما دخلا عليه وهو يخطب يرتديان قميصين أحمرين ويتعثَّران في سيرهما؟ وكذا حفيدته من ابنته السيدة زينب (أمامة بنت أبي العاص) كيف كان شعورها عندما تتذكر أنه كان يحملها على عاتقه رحمة بها وهو يصلي فإذا ركع وضعها وإن قام حملها حتى انتهى من صلاته صلوات ربي وسلامه عليه وعلى أهل بيته الكرام.

مِن هنا وغير ذلك مِن المواقف الكثيرة نعلم أنَّ الرَّحمةَ والرِّفق أصلٌ في التعامل مع الطفل، وهي مَن تجعل بذور البرِّ والاتزان تَنمو وتثمر في نفسه، أمَّا ما نراه أحيانًا مِن بعض الآباء والأمَّهات مِن قسوة تصِل إلى حدِّ التعذيب؛ فهذا واللهِ مِن العجب! ولا يتعدَّى أن يكون نذيرَ شؤم على هذين الأبوين في المستقبل، فأين هما مِن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أكْرِموا أوْلادَكم وَأحْسِنُوا آدابَهم»، وقوله ترغيبًا في الإحسان للأولاد: «لَأنْ يُؤَدِّبَ الرجُلُ وَلَدَه خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِصَاعٍ»، والتأديب هنا هو التعليم والتهذيب بحبٍّ ورحمة، كما كان يفعل سيِّد الخلق.

عندما تُثار مِثل هذه الأمور مع الوالدين القاسيين يَعتذران بضغوط الحياة وشقاوةِ الطِّفل نفسه ممَّا يزعجهما ويُحيل بينهما وبين رحمته! وهذه أعذار لا أصلَ لها؛ فإن كنتم تَحملون هَمَّ بطونكم فإنَّ رسول الله كان يَحمل هَمَّ بِناء أمَّة محارَبَة مِن كلِّ اتجاه، ولم يرغمه هذا على العبوس والتجهُّم والضرب كما تفعلان!

أمَّا كلمة (شقاوة الطفل) فهذا التعبير يثير حفيظتي - كفى الله أولادَنا شقاءَ الدنيا والآخرة - فطبيعة الطِّفل الحركة؛ لتنموَ عضلاته وتكثر مَعارفه، ويربط بين الأشياء والأحداث وغير ذلك، فمَن قال لكم: إنَّه يجب علينا تعبئته في زجاجة صامتًا كي يَحظى بالعطف والودِّ؟! أو اعتباره دُمية نحرِّكها متى اشتهينا ترفيهًا وأنسًا، لا تعليمًا ومسؤوليَّة.

يا رعاكم الله، علينا مراجعة مفاهيمنا والاقتداء بنبيِّنا وصحابتِه الأكرمين حتى نصنعَ رجالًا هم بحقٍّ رجال لا جثثًا ميِّتة القلب؛ تَنمو لتأكل ثمَّ تذهب بلا أثر! أحسِنوا إليهم لتكونوا مبعثَ سرور في نفوسهم كلَّما طافت ذكراكم بخيالهم، اجعلوهم مصدرَ حسنات لكم في مَحياكم ومماتكم بحُسن الخُلُق معهم، لا تخسر قلبَ ولدك لتعثره في أمرٍ ما؛ فرزقه مَكفول وما أنت إلَّا مرشد فقط ليجد هو السبب، طوبى لِمن جعل قلوبَ أبنائه مِن حظه ورزقه وحَظي بصالح دعائهم حيًّا وميتًا، ولن يكون هذا سهلًا بالطبع على الآباء؛ لأنَّه لا بدَّ أن يسير بميزان ذهب دقيق؛ فلا ميوعة مفسدة ولا قسوة مدمِّرة.

فلْيثابروا؛ فهي رسالتهم التي اختاروها وكلِّفوا بها، وليبذل كلٌّ منَّا السببَ، والتوفيق والرجاء مِن الوهاب جلَّ وعلا، وخير لك أن تتَّخذهم هدفًا متعبًا مِن أن تعيش على هامِش الحياة بلا هدف، وحسبنا أننا نتعامل مع الله الكريم الذي يتَّخذ ميزانًا بالذرَّة ولا يضيع عنده شيء.

بارك الله أولادَ هذه الأمَّة، وأحياهم وأماتهم على التوحيد.

بقلم: أ / منى مصطفى عبد الهادي

  • 6
  • 1
  • 5,018
المقال السابق
الله يسمعني، الله يراني
 

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً