لا عليك ما فاتك من الدنيا (4)
سمي الحلال حلالا لانحلال عقدة الحظر عنه.. قال سهل بن عبد الله: "النجاة في ثلاثة: أكل الحلال، وأداء الفرائض، والاقتداء بالنبي -صلى الله عليه وسلم-".
بسم الله الرحمن الرحيم
عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:
«أربع إذا كن فيك، فلا عليك ما فاتك من الدنيا: صدق الحديث، وحفظ الأمانة، وحسن الخلق، وعفة مطعم »
عفة المطعم:
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون:51].. فأمر جل شأنه بالأكل من الطيبات قبل العمل الصالح، وقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} [البقرة:168] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [البقرة:172].
"وهذا الأمر بالإباحة والحل لما في الأرض ـ إلا المحظور القليل ـ يمثل طلاقة هذه العقيدة، وتجاوبها مع فطرة الكون وفطرة الناس. فالله خلق ما في الأرض للإنسان ومن ثم جعله له حلالا لا يقيده إلا أمر خاص بالحظر، وإلا تجاوز دائرة الاعتدال والقصد. ولكن الأمر في عمومه أمر طلاقة واستمتاع بطيبات الحياة واستجابة للفطرة بلا كزازة ولا حرج ولا تضييق.. كل أولئك بشرط واحد، هو أن يتلقى الناس ما يحل لهم وما يحرم عليهم من الجهة التي ترزقهم هذا الرزق لا من إيحاء الشيطان الذي لا يوحي بخير لأنه عدو للناس بين العداوة لا يأمرهم إلا بالسوء وبالفحشاء وإلا بالتجديف على الله والافتراء عليه دون تثبت ولا يقين". (1)
وسمي الحلال حلالا لانحلال عقدة الحظر عنه.. قال سهل بن عبد الله: "النجاة في ثلاثة: أكل الحلال، وأداء الفرائض، والاقتداء بالنبي -صلى الله عليه وسلم-".
وقال أبو عبد الله الساجي: "خمس خصال بها تمام العلم، وهي: معرفة الله عز وجل، ومعرفة الحق، وإخلاص العمل لله، والعمل على السنة، وأكل الحلال.. فإن فقدت واحدة لم يرفع العمل".
وقال سهل: "ولا يصح أكل الحلال إلا بالعلم، ولا يكون المال حلالا حتى يصفو من ست خصال: الربا، والحرام، والسحت، ـ وهو اسم مجمل ـ والغلول، والمكروه، والشبهة". (2)
قال -صلى الله عليه وسلم-: «مثل المؤمن مثل النحلة، إن أكلت أكلت طيبا، وإن وضعت وضعت طيبا، وإن وقعت على عود نخر لم تكسره، ومثل المؤمن مثل سبيكة الذهب، إن نفخت عليها احمرت، وإن وزنت لم تنقص» (3) «الأكثرون هم الأسفلون يوم القيامة، إلا من قال بالمال هكذا وهكذا، وكسبه من طيب» (4) «أيها الناس، إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون:51] وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ } [البقرة:172] ثم ذكر الرجل يطيل السفر، أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء: يا رب، يا رب! ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك» (5).
«من أكل طيبا، وعمل في سنة، وأمن الناس بوائقه، دخل الجنة» قالوا: يا رسول الله، إن هذا في أمتك اليوم كثير. قال: «وسيكون في قرون بعدي» (6).
«لا تستبطئوا الرزق، فإنه لم يكن عبد ليموت حتى يبلغه آخر رزق هو له، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، أخذ الحلال، وترك الحرام» (7) «اجعلوا بينكم وبين الحرام سترا من الحلال، من فعل ذلك استبرأ لعرضه ودينه، ومن أرتع فيه كان كالمرتع إلى جنب الحمى، يوشك أن يقع فيه، وإن لكل ملك حمى، وإن حمى الله في الأرض محارمه» (8).
«كل المسلم على المسلم حرام: ماله، وعرضه، ودمه، حسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم» (9) «ليأتين على الناس زمان لا يبالي المرء بما أخذ المال؟ أمن حلال أم من حرام؟» (10) «كل جسد نبت من سحت فالنار أولى به» (11).
الورع الورع :
قالت عائشة -رضي الله عنها-: "إنكم لتغفلون عن أفضل العبادة وهو الورع".
وقال عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-: "لو صليتم حتى تكونوا كالحنايا، وصمتم حتى تكونوا كالأوتار، لم يقبل ذلك منكم إلا بورع حاجز".
وقال سهل التستري: "لا يبلغ العبد حقيقة الإيمان حتى يكون فيه أربع خصال: أداء الفرائض بالسنة، وأكل الحلال بالورع، واجتناب النهي من الظاهر والباطن، والصبر على ذلك إلى الموت".
وقال -رحمة الله-: "من أكل الحرام عصت جوارحه شاء أم أبى، علم أو لم يعلم، ومن كانت طعمته حلالا أطاعته جوارحه، ووفقت للخيرات". (12)
قال الحكماء: "كسب الحلال فريضة بعد الفريضة".. أي بعد المكتوبات الخمس كما أشار إليه الغزالي، أو بعد أركان الإسلام الخمسة المعروفة عند أهل الشرع، أو المراد فريضته متعاقبة يتلو بعضها لبعض، أي لا غاية لها ولا نهاية، لأن طلب كسب الحلال أصل الورع، وأساس التقوى، وروى النووي في بستانه عن خلف بن تميم، قال: رأيت إبراهيم بن أدهم بالشام. قلت: ما أقدمك؟ قال: لم أقدم لجهاد ولا لرباط بل لأشبع من خبز حلال.
قال الغزالي -رحمة الله-: الورع عن الحرام على أربع درجات:
• الأول: ورع العدول، وهو الذي يجب الفسق باقتحامه، وتسقط العدالة به، ويثبت اسم العصيان والتعرض للنار بسببه، وهو الورع عن كل ما تحرمه فتاوى الفقهاء.. قال إبراهيم بن أدهم: "ما أدرك من أدرك إلا من كان يعقل ما يدخل جوفه". وقال سفيان: "من أنفق من الحرام في طاعة الله كان كمن طهر الثوب النجس بالبول، والثوب النجس لا يطهره إلا الماء، والذنب لا يكفره إلا الحلال". وقال يحيى بن معاذ: "الطاعة خزانة من خزائن الله إلا أن مفتاحها الدعاء وأسنانه لقم الحلال".
• الثاني: ورع الصالحين، وهو الامتناع عما يتطرق إليه احتمال التحريم، ولكن المفتي يرخص في التناول بناء على الظاهر، فهو من مواقع الشبهة على الجملة.. قال -صلى الله عليه وسلم-: (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك) (13) ويروى عن ابن سيرين أنه ترك لشريك له أربعة آلاف درهم لأنه حاك في قلبه شيء.
• الثالث: ورع المتقين، وهو ما لا تحرمه الفتوى، ولا شبهة في حله، ولكن يخاف منه أداؤه إلى محرم، وهو ترك ما لا بأس به مخافة مما به بأس.. قال عمر: "كنا ندع تسعة أعشار الحلال مخافة أن نقع في الحرام". وقال أبو الدرداء: "إن من تمام التقوى أن يتقي العبد في مثال ذرة حتى يترك بعض ما يرى أنه حلال خشية أن يكون حراما حتى يكون حجابا بينه وبين النار".
وكان يوزن بين يدي عمر بن عبد العزيز مسك للمسلمين، فأخذ بأنفه حتى لا تصيبه الرائحة، وقال: "وهل ينتفع منه إلا بريحه"، ويشمل هذه الدرجة: الإسراف في التنعم بالطيبات، خشية أن تقود العبد إلى غيرها من المحرمات، فالاسترسال في المباحات داعي إلى المحظورات، كالاستكثار من الطعام للشاب العزب، فإنه يحرك الشهوة، وكالنظر إلى دور الأغنياء وتجملهم، فإنه يهيج الحرص ويدعو إلى طلب مثله، وهكذا المباحات كلها، إذا لم تؤخذ بقدر الحاجة في وقت الحاجة مع التحرز من غوائلها بالمعرفة أولا ثم بالحذر ثانيا، فقلما تخلو عاقبتها عن خطر.
• الرابع: ورع الصديقين، وهو ما لا بأس به أصلا، ولا يخاف منه أن يؤدي إلى ما بأس به، ولكنه يتناول لغير الله وعلى غير نية التقوي به على عبادة الله، أو تتطرق إلى أسبابه المسهلة له كراهية أو معصية.. وهذه رتبه الموحدين المتجردين عن حظوظ أنفسهم، المنفردين لله تعالى بالقصد، ولا شك في أن من يتورع عما يوصل إليه أو يستعان عليه بمعصية ليتورع عما يقترن بسبب اكتسابه معصية أو كراهية.
فعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: كان لأبي بكر غلام يخرج له الخراج، وكان أبو بكر يأكل من خراجه، فجاء يوما بشيء فأكل منه أبو بكر، فقال له الغلام: أتدري ما هذا؟ فقال أبو بكر: وما هو؟ قال: كنت تكهنت لإنسان في الجاهلية، وما أحسن الكهانة إلا أني خدعته، فلقيني فأعطاني بذلك. فهذا الذي أكلت منه. فأدخل أبو بكر يده فقاء كل شيء في بطنه. (14)
ومن هذا ما روي عن بعض السلف أنه إذا كان في طريق الحج لم يشرب من المصانع التي عملتها الظلمة، وقيل لإبراهيم بن أدهم: لم لا تشرب من ماء زمزم؟ فقال: لو كان لي دلو شربت منه. (15)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) في ظلال القرآن ـ سيد قطب ص 155
(2) تفسير القرطبي ج: 2 ص: 208
(3) رواه البيهقي في شعب الإيمان عن ابن عمرو (حسن) انظر حديث رقم: 5846 في صحيح الجامع
(4) رواه البيهقي وابن حبان عن أبي ذر (حسن) انظر حديث رقم: 2785 في صحيح الجامع.
(5) رواه مسلم وأحمد عن أبي هريرة (حسن) انظر حديث رقم: 2744 في صحيح الجامع
(6) رواه الحاكم عن أبي سعيد الخدري وصححه ووافقه الذهبي
(7) رواه الحاكم عن جابر (صحيح) انظر حديث رقم: 7323 في صحيح الجامع
(8) رواه ابن حبان والطبراني عن النعمان بن بشير (صحيح) انظر حديث رقم: 152 في صحيح الجامع.
(9) رواه أبو داود عن أبي هريرة (صحيح) انظر حديث رقم: 4509 في صحيح الجامع
(10) رواه البخاري وأحمد عن أبي هريرة (صحيح) انظر حديث رقم: 5344 في صحيح الجامع
(11) رواه الطبراني عن أبي بكر. (صحيح) انظر حديث رقم: 4519 في صحيح الجامع.
(12) راجع إحياء علوم الدين ج2 كتاب الحلال والحرام
(13) رواه أحمد عن أنس (صحيح) انظر حديث رقم: 3377 في صحيح الجامع.
(14) البخاري ـ كتاب المناقب برقم 3554
(15) إحياء علوم الدين ج2 كتاب الحلال والحرام بتصرف.
- التصنيف: