سنن الله في التغيير المستفادة من سورة الكهف (5)

منذ 2017-12-02

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله

اعلم - رحمي الله وإياك - أن من سنن الله في سرد القصص أن يتخلل فيها بعض الآيات كإشارات أو توجيهات إلى أهم ما يستفاد من القصص كالزهد من الدنيا والابتعاد عن المحرمات والالتزام بأوامر الشرع والتحذير من العقاب العظيم في يوم القيامة لمن خالف والترغيب إلى الجنان لمن أطاع.


وانظر على سبيل المثال قصة غزوة أحد وقد سرد الله فيها الأحداث والوقائع ذات العبر والدروس في ستين آية مع توجيهاتٍ وتأديباتٍ للصحابة في داخلها والآيات التي قد تخللت فيها من بداية قوله تعالى {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيم} [سورة ُآل ُعمران (129)] إلى قوله {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ * هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} [سورة آل عمران: 137- 138]


وهكذا هنا قد تخللت بين قصة أصحاب الكهف وقصة صاحب الجنتين مثل هذه التوجيهات والتأديبات، وذلك من بداية قوله تعالى {وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ} إلى قوله تعالى  { ِنعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا} [سورة الكهف:26-31]


ولكن ولنقف قليلا مع قوله تعالى {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا}  [سورة الكهف: 28 ]


{وَاصْبِرْ نَفْسَكَ}

أولا: قال تعالى {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ} ولم يقل واصبر مع الذين يدعون ربهم، وهذا ما يدل على أن الصبر مع مثل هؤلاء الأصناف الكبار أهل العبادة والتقوى والزهد ليس بالأمر الهين بل إنما هو أمر يحتاج من النفس المعالجة والتربية وأطرها على الحق أطرا والأمر موجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولكن المقصود إنما هو أمته ليتربوا على مثل ذلك الخلق الطيب.


ثانيا: ثمرة عبادتهم بالغداة والعشي إنما كانت لإرادة وجه الله وحده لا لشيء آخر كأن ينالوا بذلك حظوظ حطام الدنيا أو غير ذلك من المصالح أو المقاصد السيئة التي تخالف الاخلاص.


ثالثا: التحذير من أن يصرف عينيه صلى الله عليه وسلم عنهم متطلعاً إلى زينة الحياة الدنيا إذ هذه الزهرة الحياة الدنيا يقتتن بها من لا خلاق له في الآخرة ورسب في الابتلاء وقد قال تعالى في مطلع السورة {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [سورة الكهف: 7 ]


رابعا: التحذير من أن يطيع من أغفل الله قلبه عن ذكر الله إذ هذا يلزم منه اتباع هواه ثم أن يكون أمره فرطا أما معنى فرطا فينبغي أن نرجع إلى ما قاله أئمتنا رحمة الله عليهم أجمعين.


فيقول مثلا الإمام ابو جعفر حدثنا محمد بن المثني، قال: ثنا بدل بن المحبر، قال: ثنا عباد بن راشد، عن داود (فرطا) قال: ندامة.


وقال آخرون: بل معناه: هلاكا.


* ذكر من قال ذلك:

حدثني الحسين بن عمرو، قال: ثنا أبي، قال: ثنا أسباط، عن السدي، عن أبي سعيد الأزدي، عن أبي الكنود، عن خباب (وكان أمره فرطا) قال: هلاكا.


وقال آخرون: بل معناه: خلافا للحق.


* ذكر من قال ذلك:

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: (وكان أمره فرطا) قال: مخالفا للحق، ذلك الفرط.


وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، قول من قال: معناه: ضياعا وهلاكا، من قولهم: أفرط فلان في هذا الأمر إفراطا: إذا أسرف فيه وتجاوز قدره، وكذلك قوله (وكان أمره فرطا) معناه: وكان أمر هذا الذي أغفلنا قلبه عن ذكرنا في الرياء والكبر، واحتقار أهل الإيمان، سرفا قد تجاوز حده، فضيع بذلك الحق وهلك.


وقد: حدثنا أبو كريب، قال: ثنا أبو بكر بن عياش، قال: قيل له: كيف قرأ عاصم؟ فقال (وكان أمره فرطا) قال أبو كريب: قال أبو بكر: كان عيينة بن حصن يفخر بقول أنا وأنا. انتهى ما أورده الإمام الطبري رحمه الله في تفسيره .. 

وقال قتادة في قوله تعالى: 
{وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا}  [الكهف: 28]: "أضاع نفسَه وغُبِن، مع ذلك تراه حافظًا لمالِه مضيِّعًا لدينه".


وقال الحسن: "إن العبد لا يزال بخير ما كان له واعظٌ من نفسه، وكانت المحاسبة من همَّته" انتهى.


ولا ريب أن هذا دليل على أن من صار لهم مثل هذه الصفات الحسنة أنهم أهل للتغيبر الطيب وأنهم أهلٌ لإصلاح الناس نحو وجهة حسنة لينتفع بهم العباد والبلاد ثم اعلم أن في قصة صاحب الجنتين عبرٌ لمن يعتبر أو ودروسٌ لمن وُفِّق بدراسة هذه الدروس.كما يلي:-


العبرة والدرس الأول: فيه أن الرجل الفاجر افتخر بجنتيه فرسب بذالك في الابتلاء حيث فتنته زهرة الحياة الدنيا من جناتٍ وبنين وغير ذلك من شهوات الدنيا بطبيعة الحال وتلك أمنية الفاجر كما وصفه بذلك الإمام أبو جعفر الطبري رحمه الله.


قلت: ولكن لا يضر ذلك شيئا خصوصاً إذا كان الشخص لم يفتتن بها ونجح في الابتلاء أي التزم بشرع الله ولم يتعداه إلى الحرام - وإن كانوا قليل من هم كذلك، وقد دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنس رضي الله عنه أن يكثر ذريته وأمواله فقال في دعائه: اللهم أكثر ماله وولده وبارك له فيه. " 


وأيضاً يستدل لذلك الحديث الذي رواه مسلم عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه أن ناسا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا له: يا رسول الله، ذهب أهل الدثور بالأجور، يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون بفضول أموالهم. قال: «أوليس قد جعل الله لكم ما تصدّقون؟ إن لكم بكل تسبيحة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن منكر صدقة، وفي بضع أحدكم صدقة»، قالوا: يا رسول الله، أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟، قال: «أرأيتم لو وضعها في حرام، أكان عليه وزر؟ فكذلك إذا وضعها في حلال كان له أجر» "كما يستدل لذلك أيضا الحديث " نعم المال الصالح للمرء الصالح ". 


وقال لسعد: إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة


واعلم أن هذا الأمر خطير، وقلَّ من ثبت وصبر وسلَّطه الله على هلكة أمواله بالحق كما في الحديث المتفق عليه عن ابن مسعودٍ رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا حسد إلا في اثنتين: رجلٌ آتاه الله مالاً، فسلطهُ على هلكته في الحق، ورجلٌ آتاه الله حِكمة، فهو يقضي بها ويعلمها». ولذلك كثير من الأئمة كالإمام أحمد رحمه الله خاف من هذه الأموال لطول حساب يوم القيامة.


وخاف من فتنته الإمام الشنقيطي في هذا العصر رحمه الله وقال لو أردت أن أكون من أغنى الناس لكنت. يعني لكنه خاف من فتنة الأموال وقد كان زاهدا بمعنى الكلمة حتى إنه كان لا يأبه بمظاهر اللباس وغيرها حتى إنه كان يظنه الناس أنه مجرد أعرابي، وقد أوصى ولده من أن يحذر من هذه الأموال لأنه لا يعلم إن دخل فيها كيف يكون حاله فيها حتى قال إن الله لم يكلفنا أن نكتسب أموالا حتى نحج بها أو نتصدق منها إذا فتنته لخطورة هذا الأمر العظيم


العبرة والدرس الثاني: في هذه الآيات حوار آثم من الرجل الفاجر الآثم المملوء بالكبر والفخر والاعتزاز بالأموال والبنين.


وهكذ يطغى ويبطر كل جاهل رأى نفسه أن الله أغناه كما قال تعالى  {كًلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى * إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى}  [سورة العلق: 6-7-8 ]


وقد ذكر الله في كتابه العزيز رجلاً فاجراً متجبراً مثل هذا وقد طغى أن رآه استغنى وهو قارون فأخذه الله أخذ عزيز مقتدر.
ولما خرج على قومه في زينته وهو يتمطى خسف الله به الأرض حنى اعتبر به الذين كانوا يغالطون أنفسهم والمفتونون ولكن العجب في هذا الزمان أن المفتونين لا يعتبرون بشيء وإن يحدث ما يحدث ولعلي أبسط شرح تلك القصة وما فيها من الفوائد والعبر والدروس في موضع أخر إن شاء الله تعالى.


وأيضاً قد ذكر الله في كتابه العزيز أصحاب جنةِ في سورة ن يبدوا أنهم لم يكونوا كفارا ولكن ساءت أخلاقهم بالبخل وكيف فعل بهم

العبرة والدرس الثالث:

قد ظن الفاجر ظناً يشك فيه كما تمنى على الله أماني كاذبة لئن ردَّه الله إليه يوم القيامة أنه سيجد خيراً منها منقلباً وهو جهل عجيب منه.!


العبرة والدرس الرابع: الحروف مثل أنا، لي، عندي حروف خطيرة أهلكت أصحابها إذ يستخدمه أصحاب الفخر والكبر والبطر
أصابت (أنا) بمصيبة بالرجل صاحب الجنتين الوارد في قصتنا ، وأهلكت (لي) فرعون إذ قال
{أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ}، وأهلكت (عندي) قارون إذا قال {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِي} ، والله أعلم.


وسأكمل الباقي من القصة في المقال القادم إن شاء الله تعالى...

أبو عبدالله عبد الفتاح بن آدم المقدشي 

  • 1
  • 0
  • 13,093

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً