(23) المحافظة على صلاة الفجر خصوصا
محمود العشري
إنَّ صلاة الصبح هي أقصرُ الصلوات المفروضة، فهي ركعتان فقط، ولكنَّها جعلت مقياسًا للإيمان، واختبارًا للصِّدق؛ لصعوبة وقتها، وعلى قدْر تعجُّبي من صاحبي الذي لا يعلم أمرًا مِن بديهيات هذا الدِّين، على قدْر حُزني من أنَّ الثقافة الإسلامية والعلوم الشرعيَّة وصلتْ إلى هذه الدرجة مِن الانحدار، حتى لا يعلم بعضُ المسلمين أو كثير مِن المسلمين أوقاتَ الصلاة المفروضة!
- التصنيفات: فقه الصلاة - ملفات شهر رمضان -
فما أسهل أن ينطق اللسان بكلمة الإسلام، ولكن ما أصعب أن يترسخ الإيمان في قلْب الإنسان: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 14]، كثيرًا ما يتنافَى كلام اللِّسان مع إيمان القلْب، كما أنَّ كثيرًا ما يَتنافى كلامُ اللسان مع أفعال الجوارح، والمؤمن الصادِق هو مَن وافق قوله عمله، وهو مَن أظهر بلسانه ما يُخفي في قلْبه، أما المنافقون فظاهرُهم قد يكون حسنًا وطاهرًا، ولكن قلوبهم قاسية كالحجارة، أو هي أشدُّ قسوة.
والله تعالى مطَّلِع على القلوب، ويعلم خائنة الأعين وما تُخفي الصدور، ويعلم المنافِق من المؤمِن، والكاذب مِن الصادق، لكنَّه شاء - سبحانه - أن يفرِض على عباده اختباراتٍ معيَّنةً تكشف سرائرَ القلوب وخبايا النفس، وتوضِّح أولئك الذين قالوا ما لا يفعلون، أو اعتقدوا ما لا يُظهرون، وغرض إظهارهم أن يقيم الله تعالى الحُجَّةَ عليهم؛ فلا يشعر أحدُهم يوم القيامة بظلمٍ ولا هضم، فإنَّه قد وضَع له اختبارًا واضحًا فرسَب فيه، كما أنَّ الله - عزَّ وجلَّ - أراد بهذه الاختبارات أيضًا أن ينقِّي صف المؤمنين مِن المنافقين؛ رحمةً من الله - عزَّ وجلَّ - بالصفِّ المؤمن؛ لأنَّ اختلاط المنافقين بالمؤمنين يُضعِف الصفوف، ويسبِّب الاضطراب، ويجلب الهزائمَ والنكسات.
قال -تعالى- في حقِّ المنافقين: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [التوبة: 47]، فرحمة الله تعالى بالصفِّ المؤمن اقتضتْ أن يَفرض هذه الاختباراتِ للتفرقة بين المؤمنين والمنافقين، وبين الصادقين والكاذبين، هذه الاختبارات سُنَّة إلهية ماضية، وضَعَها الله تعالى لكلِّ البشَر بلا استثناء، منذُ خلق الله آدم - عليه السلام - وإلى يوم القيامة؛ قال تعالى: {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت: 1 - 3]..
ولهذه الاختبارات خصائصُ معيَّنة:
فأولاً: يجب أن يكونَ الاختبار صعبًا؛ لأنَّه لو كان سهلاً لنجَح فيه الجميع: المؤمن والمنافق، ولم تحدُث التفرِقة المطلوبة.
وثانيًا: يجِب ألاَّ يكون هذا الاختبار مستحيلاً؛ لأنَّه لو كان مستحيلاً لفشِل فيه الطرفان: المؤمِن والمنافق؛ ولذلك فالاختبار لا بدَّ أن يكون متوازنًا، صعبًا بالدرجة التي لا يقوَى فيها المنافقون على النجاح فيه، وغير مستحيل لكي يُعطي الفرصة للمؤمنين أن ينجَحوا.
واختبارات الله - عزَّ وجلَّ - للخلْق كثيرة ومتعدِّدة ومستمرَّة منذُ أول لحظات تكليف الإنسان، وإلى يوم مماته، فالجهاد في سبيلِ الله اختبار، نعمْ هو اختبار صعْب، ولكنَّه ليس بمستحيل، ينْجَح فيه المؤمِن، ويتخلَّف عنه المنافق، والإنفاق في سبيل الله اختبار، اختبار صعْب ولكنَّه ليس مستحيلاً، يقدِر عليه المؤمن، ولا يقدِر عليه المنافق، وحسن معاملة الناس اختبار، وكظْم الغيظ اختبار، والرِّضا بحُكم الله - عزَّ وجلَّ - اختبار، وبِر الوالدين اختبار، وهكذا، الحياة كلها - بهذا المفهوم - اختبار؛ يقول تعالى في كتابه الكريم: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} [الملك: 2].
وتتفاوت درَجاتُ الصعوبة بيْن الاختبارات المختلفة، ولكنها في النهاية اختبارات، ومطلوب مِن المؤمن أن ينجحَ فيها كلها؛ ليثبتَ صِدق إيمانه، ويتوافَق لسانه مع قلْبه.
ومِن هذه الاختبارات الخطيرة اختبار صلاة الصُّبح، اختبار حقيقي، واختبار صعْب، لكنَّه ليس مستحيلاً، الدرجة النهائية في هذا الاختبار بالنسبة للرجال تكونُ بالمواظبةِ على صلاة الفجْر في جماعة في المسجد، أمَّا بالنسبة للنساء فتكون بالصلاة على أوَّل وقتِها في البيت، والفشل في هذا الاختبار الهام يكون بخروج الصلاة عن موعدِها الذي شَرَعه الله تعالى، وبيْن النجاح بتفوق والرسوب في الاختبار درجاتٌ كثيرة؛ هناك مَن يصلِّي معظم الصلوات في المسجد ويفوته بعضها، وهناك مَن يصلي بعض الصلواتِ في المسجد ويفوته معظمها، وهناك مَن يُصلِّي في بيته قبلَ خروج الوقت، وهناك مَن تفوته الصلاة في بيته ولا يصلِّي إلا بعدَ خروج الوقت، درجات كثيرة متفاوتة؛ ولكن يبقى النجاح المطلوب هو صلاة المؤمن في المسجِد في أوَّل الوقت.
هذا الاختبار هام للدرجة التي جعلتْ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يستخدمه دائمًا للتفرِقة بيْن المؤمِن والمنافق؛ روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: «إنَّ أثقل صلاة على المنافقين صلاةُ العِشاء وصلاة الفجْر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوًا، ولقد هممتُ أن آمُرَ بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلاً فيُصلي بالناس، ثم أنطلِق معي برِجال معهم حزم مِن حطب إلى قومٍ لا يشهدون الصلاةَ، فأحرِّق عليهم بيوتَهم بالنار»! ولكم أن تتخيَّلوا عِظمَ المشكلة، وضخامة الجريمة التي تدْفَع رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- مع رحمته وشفقتِه على أمَّته - لأن يَهُمَّ بتحريق بيوت هؤلاء، ولكني - والله - أرَى أنه مِن رحمته وشفقته قال هذه الكلمات؛ لأنَّه يُريد أن يستنقذَ أمَّته مِن نار الآخِرة بتخويفهم بنار الدنيا، وشتَّان بين نار الآخِرة ونار الدنيا.
وكان رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- إذا شكَّ في إيمان رجُل بحَث عنه في صلاة الفجْر، فإنْ لم يجده تأكَّد عنده الشكُّ الذي في قلبه، رَوى ذلك أحمد والنَّسائي والدارمي عن أُبيِّ بن كعْب - رضي الله عنه - قال: صلَّى رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- صلاة الصُّبح، ثم قال: ((أشَهِد فلان الصلاة؟))، قالوا: لا.. قال: ((ففلان))، فقالوا: لا.. فقال: ((إنَّ هاتين الصلاتين - الصبح والعِشاء - من أثقلِ الصلاة على المنافقين، ولو يَعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوًا)).
والمنافقون لا يُدرِكون الخير الذي في صلاة الصُّبح في جماعة المسجد، ولو أدْرك هؤلاء هذا الخيرَ لجاؤوا إلى المسجد تحت أيِّ ظرْف، كما قال -صلى الله عليه وسلم-: ((لأتوهما ولو حبوًا))، وأريدك أن تتخيَّل رجلاً كسيحًا لا يقوَى على السير، وليس هناك مَن يُعنيه على الحرَكة، ومع ذلك فهو يصرُّ أن يأتي المسجد يزْحَف على الأرض؛ ليدركَ الخير الذي في صلاة الفجْر في جماعة، فإذا أدركنا هذه الصلاةَ ثم نظرْنا إلى الأصحَّاء الذين يتخلَّفون عن صلاة الفجْر في المسجد، أدركْنا عِظم المصيبة.
وليس معنى هذا بالطَّبْع أن أتَّهِم أولئك الذين لا يُحافظون على صلاة الفجْر في المسجد في زمانِنا هذا بالنِّفاق، فأنا لستُ ممن يقيمون الأحكامَ على غيرهم، والله أعلمُ بظروفِ كلِّ مسلم، ولكني أذكُر ذلك الكلام؛ ليختبر كلٌّ منا نفْسَه، وليختبر أحبابه وأصحابه، وأولاده وإخوانه، إنْ كان المرء يهدر هذه الصلاة بصورةٍ منتظمة، فهذه علامةٌ واضحة من علامات النفاق، ومَن كانت به هذه العلامة فليراجعْ نفْسَه بسرعة، فإنَّه - ولا شكَّ - يُخشَى عليه مِن خاتمة السُّوء، نسأل الله العافيةَ والسلامة وحُسن الخاتمة لنا ولسائرِ المسلمين.
وقت صلاة الصبح: كنت أتحدَّث عن موضوع صلاة الصُّبح في مجموعة مِن الأصدقاء، فدار بيني وبين أحدهم هذا الحوار:
قال: الحمد لله، أنا لا أنزل من بيتي إلاَّ إذا صليت صلاةَ الصبح، فسألتُه ببراءة: وأنت متى تستيقظ؟! قال: الساعة 7.30 تقريبًا! وأوَّل شيء أفعله أن أتوضأ وأُصلِّي الصبح!
قلت: سبحان الله! لقد فاتَ وقتُ الصبح! قال: كيف؟ أليس وقت كلِّ صلاة مِن أوَّل وقتها إلى وقتِ الصلاة الثانية؟! فيكون بذلك الصبح مِن أول ظهور الفجْر إلى صلاةِ الظهر؟! قلت: هذا الكلام صحيح بالنسبة لكلِّ الصلوات ما عدا صلاة الصبح، فإنَّ وقتَها مِن ظهور الفجْر إلى شروق الشَّمْس فقط، هذا الوقت المحدود الضيِّق الصعْب؛ ولذلك فهي اختبار، ولو كان الوقت مفتوحًا إلى صلاة الظهر، فأين الاختبارُ في ذلك؟!
إنَّ صلاة الصبح هي أقصرُ الصلوات المفروضة، فهي ركعتان فقط، ولكنَّها جعلت مقياسًا للإيمان، واختبارًا للصِّدق؛ لصعوبة وقتها، وعلى قدْر تعجُّبي من صاحبي الذي لا يعلم أمرًا مِن بديهيات هذا الدِّين، على قدْر حُزني من أنَّ الثقافة الإسلامية والعلوم الشرعيَّة وصلتْ إلى هذه الدرجة مِن الانحدار، حتى لا يعلم بعضُ المسلمين أو كثير مِن المسلمين أوقاتَ الصلاة المفروضة!
فأنا لا أتحدَّث عن وقتِ صلاة الضحى، أو وقت صلاة قِيام الليل، إنَّما أتحدث عن وقت صلاة الصبح! ذكَّرني ذلك بأمْرٍ من المضحِكات المبكِيات، وهو أحد معسكرات الشباب التابِع لأحد الأحزاب السياسيَّة؛ حيث كان برنامج المعسكر معلقًا على الجُدران في أكثر مِن مكان، وأول كلمة في هذا البرنامج هي: "الاستيقاظ وصلاة الصبح في الثامِنة صباحًا"! قلت: واللهِ هذه جريمة مع سبْق الإصرار والترصُّد! فالنيَّة مبيَّتة، والعزْم منعقد على تضييع فرْض مِن فروض الله -تعالى- ولا حولَ ولا قوَّة إلا بالله.
مواقيت الصلاة - أيُّها المؤمنون - أمورٌ توقيفية، بمعنى أنَّه ليس فيها اجتهادٌ من البشَر، لقدْ حُددت بدقَّة في أحاديثِ رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم- ولم تترك مجالاً لسوءِ فَهم، روى مسلمٌ عن عبدِالله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما -: قال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: «وقتُ صلاة الصُّبح مِن طلوع الفجْر ما لم تطلعِ الشمس»، فليس هناك شكٌّ في وقتِ صلاة الصبح، وقد أكَّد رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- على هذا المعْنَى في حديثِ الترمذي عن أبي هُريرةَ - رضي الله عنه - حين قال: «مَن أدرك ركعةً مِن صلاة الصبح قبلَ أن تطلُع الشمس، فقدْ أدرك الصبح»؛ أي: إنَّه مَن أدرك ركعةً كاملة قبل أن تشرقَ الشمس فقد أدرك صلاةَ الصبح في موعدها، أمَّا مَن لم يدرك - ولو ركعة واحدة - فقد أصبحتْ صلاة الصبح في حقِّه قضاءً، وهذا - ولا شكَّ - أمرٌ خطير.
لكن الأصعب مِن ذلك أنَّ اختبار التفرقة بيْن النفاق والإيمان، وبيْن الصِّدق والكذِب، ليس بمجرَّد الصلاة قبلَ شروق الشمس، ولكن النجاح الحقيقي والمطلوب في هذا الامتحان يكون بصلاة الجماعة في المسجِد، وليس في البيت، وهذا بالطبع في حقِّ الرِّجال، أمَّا في حال النِّساء، فإنَّه - وإنْ كانت صلاتهنَّ في المسجِد مسموحًا بها - إلا أنَّ صلاتها في بيتها أفضلُ وأكثر ثوابًا؛ وذلك لحديث أبي داود الصحيح عن ابن عُمرَ - رضي الله عنهما - قال: قال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: «لا تمنعوا نِساءَكم المساجد، وبيوتهنَّ خيرٌ لهنَّ»، وكذلك لحديث أمِّ حُميد الساعديَّة - رضي الله عنها - في مسنَد أحمد بسَند حسَن، وكذلك في الطبراني أنَّها جاءتْ إلى رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم- فقالت: يا رسولَ الله، إنِّي أحبُّ الصلاة معك، قال: «قد علمت، وصلاتُكِ في بيتكِ خيرٌ لك مِن صلاتكِ في حجرتكِ، وصلاتكِ في حجرتكِ خير لكِ من صلاتكِ في داركِ، وصلاتُكِ في داركِ خيرٌ من صلاتِكِ في مسجد قومكِ، وصلاتكِ في مسجد قومِكِ خيرٌ لك مِن صلاتكِ في مسجد الجماعة»، وتعظيم أجْر صلاة المرأة في بيتها رحمة مِن الله - عزَّ وجلَّ - بها ورَحْمة بالمجتمع، فهذا أدْعَى لتجنُّب الفِتنة، وأحفظُ للمرأة وأسترُ لها، كما أنَّ فيه حفاظًا على الأطفال بالبيت، وعلى كبار السِّنِّ وغير ذلك مِن المصالِح، وسبحان الله الذي أنْزَل هذا الشَّرْع المحكَم!
والذي يهمُّني الآن في هذا المقام أنَّ اختبار النِّفاق مِن الإيمان بالنسبة للمرأة يكون بالصلاة في أوَّل وقتِها، فتكون المرأةُ المؤمنة التي نجحَتْ في الاختبار هي التي صَلَّتِ الصبح في الوقت الذي يُصلِّي فيه الرِّجال في المسجد، وتكون المرأة التي لم يتمكَّن الإيمان مِن قلْبها هي المرأة التي تُدرِك الصبحَ بالكاد قبل أن تشرق الشمس، أو قد يتفاقَم معها الأمر فيضيع منها الفرضُ كليَّةً، فتصليه بعدَ شروق الشمس!
يا إخواني ويا أخواتي أبناء الإسلام، أنا لا أُريد أن أصَعِّبَ عليكم حياتكم، أو أُحَمِّلَكُم ما لا طاقةَ لكم به، ولكنِّي - واللهِ - أتحدَّث عن حقائق في شرْع الله - عزَّ وجلَّ - وأتحدَّث عن نصوص محكَمة لا لبس فيها ولا غُموض، وأتحدَّث عن اجتماع العلماء الذي لا اختلافَ فيه، فالذي يصلِّي الصبح بعدَ الشروق - متعمِّدًا - يترُك فرض الله متعمدًا! وهذا أمر بالغُ الخطورة؛ روَى الإمام أحمدُ عن أمِّ أيمن - رضي الله عنها - قالت: قال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: «لا تترُك الصلاة متعمدًا؛ فإنَّه مِن ترَك الصَّلاة متعمدًا فقد برِئتْ منه ذمَّة الله ورسوله»، وهكذا؛ فالذي يضَع المنبِّه على الساعَة السابعة أو السابِعة والنِّصف - أي: بعد الشُّروق - يترُك الصلاة متعمدًا، وعليه أن يتحمَّل التبعات القاسية لذلك!
وعلى الناحية الأخرى: ما هي أحبُّ الأعمال إلى الله؟! سأل عبدُالله بن مسعود - رضي الله عنه - رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- هذا السؤال، فأجاب كما جاء في البخاري ومسلم قائلاً: «أحبُّ العملِ إلى الله -تعالى- الصلاةُ على وقتِها»، قال عبدالله: ثم أيّ؟ قال: ((برّ الوالدين))، قال: ثم أيّ؟ قال: ((الجِهاد في سبيلِ الله)).
فانظر - رحمك الله - كيف قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إقامة الصلاةِ في أوَّل وقتها على برِّ الوالدين على عِظمه، وكيف قدَّمها على الجهاد في سبيلِ الله الذي هو ذِروة سنام الإسلام!
وسبحان الله! لا أدْري كيف سقَط الصبح مِن حسابات المسلمين؟! فمعظم المسلمين الذين يحافظون على صلواتهم تجِدهم حريصين على صلاة الظهر قبل أذان العصر، وعلى صلاةِ العصر قبل أذان المغرب... وهكذا، أمَّا الصبح، فيكاد يكون الفريضةَ الغائبة، ولا حولَ ولا قوَّة إلا بالله.
مستحيل أن يكون ذلك مستحيلاً!
يقول أحدهم: قد علمتُ ميعاد صلاة الصبح، ولكن للأسف "يستحيل" عليَّ الاستيقاظ في هذا الموعد! أنت لا تعلم "ظروفي"، أنا طاقتي لا تسمح، أنا ظروف عملي لا تُمكِّنني، أنا ظروف البيت والمعيشة لا تُساعدني، واللهُ - كما تعلم - غفورٌ رحيم، سيُراعي ظروفي هذه، ويغفر لي!
نقول: أمَّا قضية أنَّ الله غفور رحيم، فهذا كلام حق أُريد به باطِل، وهذا من أوسع مداخِل الشيطان، فإنْ كان الله - عزَّ وجلَّ - يغفر لكل الناس، الصادِق والكاذِب، والمطيع والعاصي، والمحب لشرعِه والكارِه له، إنْ كان الأمر كذلك ففيمَ العمل؟! ولماذا الاجتهاد؟! ولماذا يرهق المطيع لله نفْسَه، ويستيقظ في جوف الليل، وفي شدَّة البرد، وينزل إلى المسجد؟!
إنَّ الله - عزَّ وجلَّ - الغفور الرحيم يغفر لمن سعَى للمغفرة مِن عباده، فلا يكفي قول اللِّسان، ولكن لا بدَّ مِن عمل، اقرأ وتدبَّر في قوله -تعالى-: «وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى» [طه: 82]، ليس كل الناس يغفر لهم، لا بدَّ مِن توبة صادِقة، وإيمان عميق، وعمل صالح، وهداية إلى طريقِ الله - عزَّ وجلَّ - والله الغفور الرحيم كثيرًا ما يقرِن هذه الصفات بصفاته الأخرى التي تحمل معاني العقاب والجزاء والانتقام ممَّن خالفه وخالَف شرعه؛ ﴿نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ﴾ [الحجر: 49 - 50]، فهذه إلى جوار تلك، وبذلك تستقيم حياة الناس.
وأما أنَّه "يستحيل" في حقِّ إنسان أن يستيقظَ لصلاة الصبح في موعدها، فهذا الكلام يحتاج إلى وقفة، ووقفة هامَّة جدًّا، أنا لا أشكُّ لحظةً - يا بن الإسلام - في أنَّه "يستحيل" أن يكونَ استيقاظك للصبح "مستحيلاً"! ولماذا هذا اليقين؟! تفكَّر معي - هداني الله وإياك إلى طاعته -:
أولاً: يقول الله - عزَّ وجلَّ - في كتابه: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، وهذه قاعدةٌ أصيلة مِن قواعد الشرع، هذا القانون وهذا الشرع ليس قانونًا وضعيًّا مِن وضْع البشر، فيحتمل فيه أن يكون مناسبًا أو غير مناسب، ولكن هذا القانون مِن وضع ربِّ العالمين - سبحانه وتعالى - الذي خلَق الإنسان ويعلم وسعَه وطاقته علمًا مطلقًا؛ { أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِير} [الملك: 14]، فكلُّ أحكام الشرع هي في مقدورِ البشر، لا أشكُّ في ذلك، فلتسأل نفْسَك يا أخي، ولتسألي نفسك يا أختي: هل صلاةُ الصبح في هذا الوقت تكليفٌ مفروض أم أنها ليستْ تكليفًا ولا فرضًا؟ وهل هي مفروضةٌ على كلِّ المؤمنين أم أنَّ هناك طوائفَ مستثناة؟! والإجابة واضحة؛ وهي: أنَّ صلاة الصبح فرضٌ على كل المسلمين، وحيث إنَّ المسلم يؤمِن بعدل الله وبحِكمته وبعِلمه، فإنهَّ لا يستقيم لمسلِم مؤمِن بالله - عزَّ وجلَّ - أن يفترضَ أنَّ قيامه لصلاة الصُّبح في موعدِها أمرٌ مستحيل، هذه واحِدة.
ثانيًا: بعض المشاهَدات الأمريكيَّة:
المنظر الأول: في زيارة لأمريكا وعندَ عودتك مِن صلاة الفجر بمسجد المدينة، ويكون ذلك في السادسة صباحًا تقريبًا، تجِد الشوارع الرئيسية والطرق السريعة مزدحمةً بالسيارات تمامًا! وقد تتعجَّب في أوَّل الأمر، ولكن بعد ذلك تتعوَّد على هذا المنظر، إنهم يستيقظون للذَّهاب إلى أعمالهم، وكثير منهم يعمل في أماكنَ بعيدة جدًّا عن بيته فيضطر إلى الاستيقاظِ في الخامسة صباحًا - وقت صلاة الفجْر - لكي يذهب إلى عمَله في موعدِه، كل هؤلاء البشَر من نصارَى ويهود وملاحِدة - وهم كثُر - يستيقظون لدُنياهم في موعِد صلاة الفجْر، لقد سمحتْ طاقتهم البشريَّة بهذا الاستيقاظ، فلماذا لا تسمح طاقةُ المؤمنين بمِثل هذا الاستيقاظ المبكِّر؟!
المنظر الثاني: حضَر أحدُ الأطبَّاء مؤتمرًا طبيًّا كبيرًا في أحدِ المُدن الأمريكيَّة، وفوجئ بأنَّ جلسات المؤتمر تبدأ في السادسة صباحًا! نعمْ - والله - يا إخواني! الجلسة الأولى كانتْ في السادسة صباحًا، ولما كانت صلاة الفجر في هذه الأيام متأخرة نسبيًّا، فقدِ انتهى من الصلاة في الساعة السادسة والرُّبع تقريبًا، فذَهَب إلى المؤتمر في ذلك التوقيت، وكان على يقين وهو في طريقه إلى هناك أنه سيجِد القاعة الكبيرة التي تشهد الجلسة الأولى خاويةً على عروشها، فمن ذا الذي سيأتي في هذا الوقت المبكِّر جدًّا جِدًّا لحضور جلسة علميَّة، ووصل إلى القاعَة، وفوجِئ بما لم يكُن يتخيَّله! فقدْ كانت القاعة مليئةً عن آخرها - وهي تسَع حوالي ثلاثة آلاف شخص - وبالكاد وجَد مكانًا في آخر القاعة، وجلَس يستمع وهو في دهشة، كيف استطاع هؤلاء القوم أن يُكيِّفوا حياتهم بالصورة التي تمكِّنهم من حضور جلسة علمية - اختيارية وليستْ إجبارية - في السادسة صباحًا؟! ولماذا لا يستطيع كثيرٌ من المسلمين تكييف حياتِهم لحضور صلاة - إجباريَّة، وليستِ اختيارية - في نفْس هذا الموعد؟! ويوم يستطيع المسلِمون أن يجيبوا عن هذه الأسئلة يوم أن يكتب لهم التمكين في الأرْض - إن شاء الله!!
المنظر الثالث: منظَر أكثر دراميَّة وأشد تأثيرًا:
كثيرًا ما تجد رجالاً أمريكيِّين ونساءً أمريكيات في الشوارع وأنتَ في طريقك إلى صلاة الفجْر! وأقول: وأنت ذاهِب وليس وأنت عائد!.. بمعنى أنهم كانوا يستيقظون قبلَ ميعاد الفجر لغرَض هام جدًّا في حياتهم! ما هذا الغرض الهام الذي من أجله استيقظ الأمريكي أو الأمريكية قبل الخامسة صباحًا، ولبس ملابسه، وخرَج في الجو البارد جدًّا جِدًّا إلى شوارع المدينة؟ إنهم يفَسِّحون كلابهم في الهواء النَّقِي!!
يستيقظ الأمريكي أو الأمريكية في الساعة الرابعة والنِّصف فجرًا؛ لأنَّ قلْبه - أو قلبها - يتفطَّر على الكلب الذي يبقَى محبوسًا في البيت طيلةَ اليوم! فيستيقظ في هذا الوقت المبكِّر جدًّا؛ ليستطيع الكلب أن يشمَّ الهواء النَّظيف في الشارِع! وأرجو منك أخي - يا بن الإسلام - أن تحلَّ معي هذه المسألة المعقَّدة: الأمريكي - نصرانيًّا كان أو يهوديًّا أو ملحدًا - يستيقظ فجرًا مِن أجْل الكلب! وبعض المسلمين، أو كثير مِن المسلمين، أو إنْ شئت فقل: معظَم المسلمين لا يستيقظون مِن أجْل الله - عزَّ وجلَّ! فبالله عليك كيف يكون حلُّ هذه المسألة؟! كيف يمكن أن يكونَ حب الكلب دافعًا لصاحبِه للاستيقاظ؟! وكيف لا يُمكن أن يكونَ حب الله - عزَّ وجلَّ - دافعًا للعبْد للاستيقاظ؟!
الإمكانيات البشريَّة البدنيَّة تسمح بالقيام، لكن الإمكانيات القلبيَّة عندَ أولئك الذين لا يستيقظون تُعاني من فقْر شديد! نسأل الله السلامة والعافية.
ثالثًا: لنترك المشاهدات الأمريكية، ودعونا نتجوَّل في بعض المشاهدات في داخلك وداخلي وداخل كلِّ مسلم:
المنظَر الأول: أنت مسافِر إلى الإسكندريَّة أو إلى أسوان، أو إلى لندن أو إلى باريس، عندك موعِد في القِطار أو في الطائِرة الساعة السادِسة صباحًا، هل إمكانياتك البشريَّة تسمح لك بأن تصِلَ إلى القطار أو الطائرة في الموعِد، أو أنَّ إمكانياتك البشريَّة لا تسمح؟! هل الوصول إلى المحطَّة أو إلى المطار في هذا الموعِد المبكِّر يدخل في حدود الوُسع أمْ أنَّ الوسع لا يسمح بذلك؟!
المنظر الثاني: أنت تعمل في مكانٍ بعيد عن منزلك، والعمل يبدأ في السابعة صباحًا، هل تستطيع أن تستيقظَ مبكرًا في موعد الفجْر أو قبله للذَّهاب إلى عملك؟ أم أنَّك ستعتذر كلَّ يوم لرئيسك في العمل أنَّ ظروفك لا تسمح بالحضور مبكرًا، أو أنَّ إمكانياتك البشريَّة ضعيفة؟! لماذا لا نَستطيع الاعتذارَ لرؤسائنا مِن البشر، ونستطيع كلَّ يوم أن نعتذِرَ لله - عزَّ وجلَّ - الذي خَلَقَنا وخلَق رؤساءَنا؟!
المنظر الثالث: منظَر افتراضي تخيُّلي: تخيل لو أنَّ رجلاً من أغنياء القوم وعَدَك بأنه سيعطيك ألفًا مِن الجنيهات كلَّ يوم في الساعة الخامِسة صباحًا إذا أتيتَ له في هذا الموعد، أكُنتَ تذهب؟ أم كنت تُعلِّل بأنك نمت متأخرًا، أو أنك مرتبط بموعِد بعد ذلك فلا تستطيع القُدوم؟! تخيَّل أنك ذهبتَ إليه بالفعل وأخذت الألف الجنيه يوميًّا، وظللت على هذه الحالة سنةً كاملة، فإنَّك تكون قد حصلت على: 365 ألف جنيه، أليس كذلك؟! ثم تخيَّل بعد ذلك أنَّه قد جاءك الموت بعدَ نهاية هذه السَّنة - وهو أمرٌ وارد طبعًا حتى قبلَ انقضاء السَّنة - تخيَّل نفسك وأنت ذاهبٌ إلى قبرك محمولاً، تخيَّل نفسك في هذا المقام، وأجِب عن هذا التساؤل بصِدق: أتودُّ أنَّك تدخل قبْرَك ومعك 365 ألف جنيه، وليستْ معك صلاة فجر واحدة؟ أم أنَّ الأفضل أن تدخُل قبرك ومعك 365 صلاة فجر، وليس معك جنيهٌ واحد؟ أجِب بصِدق يا بن الإسلام! أيهما يبقَى وينفع؟ كيف تفسِّر قيام الناس لجمْع المال وعدم قيامِهم لجمْع الحسنات؟ أهو شكٌّ في الموت؟ أم شكٌّ في البعث؟ أم شكٌّ في الله - عزَّ وجلَّ؟! وإن لم يكن هناك شكٌّ في كلِّ ذلك فكيف تفسِّر استهتارَ كثير من المسلمين بالموت مع عِلمهم بقدومه بغتةً، وكيف تفسر استهتارَهم بالله - عزَّ وجلَّ - مع عِلمهم بمراقبته لهم وقُدرته عليهم؟!
تساؤلاتحائِرة في ذِهني، أجبني عنها، يا مَن لا تستيقظ لصلاةِ الفجْر.
المنظر الرابع: منظَر دِرامي، لو أنَّ زوجتَك أو والدتك أيقظتْك في الرابعة صباحًا وهي تصرُخ: "لقد شبَّت النيران في منزل جِيراننا"!! أجبْني بصِدق: هل كنتَ تقفز مسرعًا مِن فراشك، وترتدي ملابسَك - أو حتى لا تَرتديها - وتجري أنت والعائلة إلى خارج البيت؟! أم كنت ستقول للزوجة أو الوالدة: اترُكيني أنام، أنا مرهَق، لقد نِمْت متأخرًا، وعندي أعمالٌ كثيرة بالصباح، وإنْ شاء الله ستطفئ النار وحدَها؟! أجِب بصدق؛ أيهما أشد تخويفًا: نار في بيت الجيران أم نار الجَحيم يوم القيامة؟! أيهما أشدُّ إيلامًا: نار الدنيا أم نار الآخِرة؟ لماذا هذا التراخِي الشديدُ مع نار الآخِرة مع عِلْمنا أنَّها حق، وأنَّها لا تُطفأ؟! ولماذا هذه الرهبة من نار الدُّنيا على تفاهتها إذا قُورنت بنار الآخرة؟! روَى البخاري ومسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((نارُكم هذه التي يُوقِد ابن آدم جزءٌ مِن سبعين جزءًا من حرِّ جهنم))، قالوا: واللهِ إنْ كانت لكافية يا رسولَ الله، قال: ((فإنَّها فُضِّلتْ عليها بتسعة وستِّين جزءًا كلها مثل حرِّها))، وروى مسلِم والترمذي عن عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: ((يُؤتَى بجهنم يومئذٍ لها سبعون ألف زمام، مع كلِّ زمام سبعون ألف ملَك يجرُّونها))، وروى الترمذيُّ وابن ماجه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عنِ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((أُوقد على النار ألْف سنة حتى احمرَّتْ، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى ابيضَّتْ، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى اسودَّت، فهي سوداء مظلِمة))، وفي رواية ابن ماجه: ((فهِي كالليل المظلِم)).
فلتعلم - يا بن الإسلام - أنَّ الذي يحرص على صلاة الصُّبح سيَكتب الله - عزَّ وجلَّ - له ضمانًا مِن دخول نار الآخرة؛ اقرأ بقلبك هذا الحديث الذي رواه مسلم عن عمارة بن رُؤيبةَ - رضي الله عنه - قال: سمعتُ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((لن يَلِجَ النارَ أحدٌ صلَّى قبل طلوع الشمس وقبل غروبها - يعني: الفجر والعصر)).
وبعد هذا الاستعراض لإمكانيات البشَر ولوسعِ البشَر ولطاقة البشَر، أعتقِد أنه مِن المستحيل أن نجِدَ من يقول: إنَّه من المستحيل عليّ أنْ أستيقظَ لصلاة الفجْر، إنَّما الأمر يعود إلى الإرادة، هل تُريد أم لا تريد؟!
واحذر - يا بن الإسلام - أنْ تمرَّ عليك الأيام والشهور والسِّنون ثم تكتشف أنَّ أيامًا غالية قد مَرَّت، فحتى إن كتَب الله لك عمرًا حتى تتوبَ وترجِع إليه، فكيف ستُعيد تلك الأيام التي مرَّت؟! احذر مِن يوم ترغب فيه الذَّهاب إلى المسجد فلا تستطيع؛ إما لضعْف أو مرَض أو موت، وتذكَّر دائمًا حديث رسولنا الكريم -صلى الله عليه وسلم- والذي رواه الحاكم بسندٍ صحيح عن ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - حيث قال: ((اغتنمْ خمسًا قبل خمس: شبابك قبل هَرمِك، وصحَّتَك قبل سقَمك، وغِناك قبل فقْرك، وفراغَك قبل شُغلِك، وحياتَك قبل موتِك))، وفَّقني الله وإيَّاكم إلى ما يحبه ويرضاه.
صلاة الصبح صلاة فريدة:
عندما تقرأ في كتابِ الله - عزَّ وجلَّ - وعندما تقرأ في أحاديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تستطيع بوضوحٍ وبسهولة أن تُدرِك أنَّ صلاة الصبح صلاةٌ فريدة، هذه الصلاة العظيمة لها مِن المكانة في الإسلام والقِيمة في الشَّرْع ما يلفِتُ الأنظار حقًّا، فهناك فيضٌ هائل مِن الأحاديث يشجِّع على هذه الصلاة، ويُعلي مِن شأن المحافظين عليها، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو المربِّي الواعي الفاهِم لطبائع البشَر، والمدرك لنوازِع النفْس - يعلم أنَّ وقت صلاة الصبح وقتٌ صعب، وأنَّ المسلم إذا ترَك نفسه لنفسه، فسوف تأمُرُه نفسه هذه بالراحة وترْك الصلاة المكتوبة؛ ﴿إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي﴾ [يوسف: 53]؛ لذلك فإنَّ الرسولَ الكريم -صلى الله عليه وسلم- قد خصَّ هذه الصلاةَ العظيمة بخصائصَ فريدة، وصفات معيَّنة لا تتكرَّر في غيرها مِن الصلوات، ومجموع هذه الصِّفات يدْفَع المؤمِنَ الصادِق دفعًا إلى التمسُّك بهذه الصلاةِ في جماعة بكلِّ طاقته، ويحمِّسه أشد التحميس أن يُضحِّي بالغالي والثمين؛ لكي لا يَضيع منه فرضٌ واحد مهما كانتِ الظروف أو العراقيل، وقد عددت لك يا بن الإسلام مِن هذه الخصائص عشرًا، أسأل الله - عزَّ وجلَّ - أن يَنفعني وإيَّاك بها.
1- أجْر بلا حدود:
الذي يُصلِّي الصبح في جماعة يأخُذ كلَّ المزايا التي يأخذها الذي يصلِّي أي صلاة أخرى في جماعة، ويأخُذ فوقها أمورًا خاصَّة بصلاة الصُّبح فقط، فهو كمصلٍّ للجماعة بصِفة عامة تُحسب له الصلاة بخمس وعشرين أو سبْع وعشرين صلاة، وتُكتب له الحَسَنات، وتُمحَى عنه السيِّئات، وتُرفَع له الدرجات، وتُصلِّي عليه الملائكة، وغير ذلك مِن أمور صلاة الجماعة بصِفة عامَّة، غير أنَّ صلاة الصبح بها مزايا خاصَّة جدًّا غير بقيَّة الصلوات، منها:
الخير الأول:
روى مسلمٌ عن عثمانَ بن عفَّان - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: ((مَن صلَّى العِشاء في جماعة فكأنَّما قام نِصف الليل، ومَن صلَّى الصبح في جماعة - أي: مع العشاء كما نصَّ على ذلك حديث أبي داود والترمذي - فكأنَّما صلَّى الليل كله))، هل تستطيع أن تُصلي الليل بكامله؟! لقدْ أعطاك الله - عزَّ وجلَّ - بفضْله وكرمه هذا الأجْرَ إذا صليتَ الفجْر والعشاء في جماعة، ومعلومٌ أنَّ أجر قيام الليل عظيمٌ وجليل، ولكن أعظم منه أن تُصلي الفجر في جماعة، فإذا علمتَ هذا الفضْل في صلاة الفجْر في جماعة، فمِن فضلك ساعدني في إجابة هذا السؤال الذي سألتُه مِن قبل لجموع المصلين المحتشدين لصلاةِ التهجُّد في ليلة السابِع والعِشرين مِن رمضان، وقد نصَبوا أرجلهم لله - عزَّ وجلَّ - الساعاتِ الطوال، وبذَلوا مجهودًا مضاعفًا؛ بغيةَ إدراك قيام هذه الليلة المبارَكة، سألتهم فقلت: ترَى هل قيام ليلة القدْر بكاملها أفضل أم صلاة الفجر في جماعة في شهر شوَّال أو صفر أو رجب أو أي شهْر غير رمضان؟! أيهما أثقلُ في ميزان الله - عزَّ وجلَّ؟! أيهما لو فاتك تحْزَن أكثر؟! وأيهما لو فاتَك تُلام من الله أكثر؟! ألسْنَا يا إخواني نُصلِّي لله؟! ألسنا ننصِب أقدامنا وقوفًا بالساعات الطوال في ليلةِ القدْر؛ بغيةَ أن يَرضى الله علينا؟! فإذا علمنا أنَّ رضا الله - عزَّ وجلَّ - علينا لا يكون إلا بقضاء فرائضه في موعدها، وبالطريقة التي أمَرَنا بها، وفي المكان الذي أراده، فلماذا نقدم شيئًا أخَّره الله - عزَّ وجلَّ؟! ولماذا نؤخِّر شيئًا قدَّمه الله - عزَّ وجلَّ؟! ليس هذا تَقليلاً من شأن ليلة القدْر أبدًا، حاشا لله! فهي أعظمُ ليلة في السَّنة، وهي خيرٌ مِن ألف شهْر، ولكنَّها تبقى في النهاية نافِلة، ولا تُقدَّم على الفرض أبدًا.
هل يَستقيم لك في يومِ ليلة القدْر أن تترُك صلاة المغرب أو العشاء وتقوم بعدَ ذلك الليل بكامله؟! يقينًا هذا لا يستقيم.
هل تستطيع أن تُصلي عشرين ركعةً نافلة لصلاة الظهر، ثم لا تُصلي الظهر نفسه؟ هل ينفعك أن تصومَ الاثنين والخميس طوالَ السَّنة ثم تفطر متعمدًا دون عُذْر في رمضان؟!
إذا كانتِ الإجابة عن كل هذه الأسئلة هي: لا، فلماذا يَقبل المسلمون أن يضيعوا صلاة الفجْر؟! أليست فرضًا كالظهر والعصر، وكصيام رمضان، وكالزكاة المفروضة؟! الله - عزَّ وجلَّ - علَّمنا أنَّ الفروض بصفة عامَّة مقدَّمة على النوافل بصِفة عامة؛ قال -تعالى- في الحديث القدسي الذي رواه البخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((قال الله - عزَّ وجلَّ -: وما تقرَّب إليَّ عبْدي بشيءٍ أحبَّ إلي ممَّا افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرَّب إليَّ بالنوافل حتى أحبَّه..))، إذًا - كما هو معلومٌ من الدِّين بالضرورة - قيام ليلة القدْر بكاملها نافِلة، وصلاة الصُّبح في أيِّ يوم من أيام السَّنة فرض، إذا علمتَ كل ذلك، فخبِّرني بالله عليك: لماذا يتكالَب الناس على الصلاة في ليلة القدْر في المساجد حتى يملؤوها عن آخرها، بل ويملؤوا الشوارع المحيطة بالمساجِد، ثم تُفاجأ بعد انتهاء رمضان أنَّ هذه الجموع الهائلة تتخلَّف عن صلاة الفجْر في المسجد؟! لماذا يا عبادَ الله؟! هذا غيابٌ حقيقي للفَهم الصحيح لهذا الدِّين.
الناس - للأسف - تنبهر بالجديدِ غير المألوف، وتزْهَد في الأمر الذي تعوَّدتْ عليه، فصلاة القيام في ليلةِ القدْر تأتي مرةً في العام، لكن صلاة الفجْر تأتي كلَّ يوم، فيفقد الناسُ الإحساس بقيمة صلاةِ الفجر، ويَصبُّون كل اهتمامهم على قيام ليلة القدْر، وأنا أقول لك يا أخي - يا بن الإسلام -: ليلة القدر لا يلتقطُها العبد بالمصادَفة! ليلة القدر هديةٌ لمن حافَظ على الفروض، ليلة القدر منحةٌ لأولئك الذين اجتهدوا طوالَ السَّنة.
العبادة يا إخواني ليستْ مقامرة! هل مِن المعقول أنَّ الذي يعبد الله - عزَّ وجلَّ - عشرة أيام في السَّنة أو يومًا في السَّنة كالذي يعبده طولَ السَّنة؟! هل من المعقول أنَّ الله - عزَّ وجلَّ - يعتق رقابَ أولئك الذين لم يقوموا الليل له إلا عشرةَ أيَّام تمامًا كالذي يستيقظ كلَّ يوم في وقتِ الفجر ليقضيَ الفرض الذي كتبه الله عليه؟!
يا عباد الله، إنَّ الله يحاسب على الذرَّة وعلى القِطمير؛ ﴿وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ﴾ [غافر: 58]، دِيننا يا إخواني دينٌ منظَّم وواضح، الذي يجب أن يكونَ هو أنْ يتكالب ويتسابق ويتنافس الناسُ على صلاة الفُروض في جماعة أكثرَ مِن صلاة النوافل ولو كانتْ ليلةَ القدر، وهذا ليس كلامي، إنَّما هو كلامُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- روى البخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((لو يَعلمُ الناس ما في النِّداء والصفِّ الأوَّل ثم لم يجدوا إلا أن يَسْتَهِموا عليه، لاسْتَهموا))، إجراء قُرعة من كثرة الحشود الحريصة على الصفِّ الأول! ((ولو يعلمون ما في التهجير - التبكير - لاستبقوا إليه، ولو يَعلمون ما في العَتمة - العشاء - والصُّبح، لأتوهما ولو حَبوًا)).
وقدْ يقول قائل: إنَّ الدعاء مستجابٌ في ليلة القدر؛ ولذلك يحرِص الناس عليها، وأقول له: صدقت، فالدعاء ليلة القدْر مستجاب، وهي كما ذكرت أعظمُ ليلة في السَّنة، وأسأل الله - عزَّ وجلَّ - أن يبلِّغنا إياها، ولكن هل هذا هو الوقْت الوحيد للإجابة في العام؟! إنَّ الله - عزَّ وجلَّ - أعطى لك نفْس الفرصةَ في كل لحظة مِن لحظات عمرِك! إنَّه - سبحانه وتعالى - هو القائل: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ [غافر: 60]، وقال سبحانه: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُون﴾ [البقرة: 186]، ما عليك إلا أن تدْعو، وسيستجيب الله لك، في أيِّ وقتٍ وفي أي ظرْف وطول العُمر، فإن قلتَ: ولكنْ هناك أوقات شريفة تكون فيها الإجابة أقرب، قلتُ لك: صدقتَ، ولكنك تمتلك هذا الوقتَ الشريف كل ليلة في السَّنة، ولكنَّك تغفل عنه كثيرًا! في كل ليلة في السَّنة هناك لحظات لا ترد فيها الدعوات، وهذه اللحظات يعرِفها أولئك الذين يستيقظون قبلَ صلاة الفجر ولو بقليل، لحظات شريفة جدًّا، بل هي مِن أشرف لحظاتِ الدهر! انظروا ماذا يقول رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: ((يَنزِل ربُّنا - تبارك وتعالى - كلَّ ليلة إلى السَّماء الدنيا حين يبقَى ثُلُث الليل الآخِر يقول: مَن يدعوني فأستجيبَ له؟ مَن يسألني فأعطيَه؟ مَن يستغفرني فأغفرَ له؟)).
ماذا تُريد يا أخي، وماذا تُريدين يا أختي أكثرَ مِن ذلك؟ الله ينزل إلى السماء الدنيا يطلُب منكم أن تدعوه ليستجيبَ لكم! يا ألله! كم أنت رحيمٌ يا ربَّنا! وكم أنت كريم! وكم أنت عظيم! وكم أنت قريب! هذا يحدُث كلَّ ليلة! يا سبحان الله! ثم إنَّك لو نزلتَ إلى صلاة الفجر بعدَ ذلك كنت إلى الله أقْرَب، وكان الله - عزَّ وجلَّ - لدعائك أسْمع! واقرؤوا معي حديثَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في صحيح مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: ((أقربُ ما يكون العبدُ مِن ربه وهو ساجِد، فأكْثِروا الدعاء)).
فوقفة مع النفْس أيُّها المؤمنون: إذا كان الأجْر أعلى في الفَجْر، والغرَض أهم في الفجر، والدعاء أقرَب إلى الفجر، فلماذا ينام الناسُ عن هذه الصلاة؟ ولماذا الزُّهد في هذا الخير؟ أسئلة تحتاج إلى إجابة، وبسُرعة!
الخير الثاني في صلاة الفجر:
صلاة الفجر مصدرٌ مِن مصادر النور يومَ القيامة! تَختفي في يوم القِيامة مصادر النور العادية، فتُكوَّر الشمس، وتنكدر النجوم، كما قال ربُّنا - سبحانه وتعالى -: ﴿إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ﴾ [التكوير: 1 - 2]، ويُبعث الخلق في ظُلمة شديدة، ظلمات بعضها فوقَ بعض إذا أخرج يدَه لم يَكَدْ يراها، ويحتاج الناس للنور لكي يدركوا طريقهم، ويسيروا بين الجموع الهائلة، ويكون أشد الاحتياج إلى النور عندَ الجواز على الصِّراط، فالصراط صفته راعِبة، ولا يجوزه إلا مَن شاء الله - عزَّ وجلَّ - روى مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- وهو يصِف حالَ البشَر في اجتياز الصراط: ((فيمرُّ أوَّلُكم كالبرق))، قال: قلت: بأبي أنت وأمي: أي شيء كمرِّ البرق؟ قال: ((ألم ترَوا إلى البرق كيف يمرُّ ويرجع في طرفةِ عين؟ ثم كمرِّ الريح، ثم كمرِّ الطير وشدّ الرِّجال، تجري بهم أعمالُهم، ونبيكم قائِم على الصراط يقول: رب سلِّم سلِّم، حتى تعجزَ أعمال العباد، حتى يجيء الرجل فلا يستطيع السيرَ إلا زحفًا، قال: وفي حافتي الصراط كلاليب معلَّقة مأمورة بأخْذ مَن أُمرت به، فمخدوشٌ ناجٍ، ومكردَس في النار))، ثم قال أبو هريرة - رضي الله عنه -: "والذي نفْس أبي هريرة بيده، إنَّ قعر جهنم لسَبْعُون خريفًا".
وفي ذلك اليوم العصيب المظلِم يعطي الله - عزَّ وجلَّ - النورَ للمسلمين جميعًا؛ أي: إنه في البداية يعطيه لكلِّ مَن أعلن كلمة الإسلام في دُنياه، ولكن من هؤلاء سيكون المنافقون الذين قالوا بألسنتِهم شيئًا وخالفتْ قلوبهم ما تقول ألسنتهم، حتى إذا اقترَب الجميع من الصِّراط أبقى الله - عزَّ وجلَّ - النورَ للمؤمنين الصادقين، وسلَب النور من المنافقين، فيَقَع المنافقون في رُعب شديد، فيلجؤون إلى المؤمنين يطلبون منهم أن يُعطوهم شيئًا مِن النور الذي معهم، فيُشير عليهم المؤمنون أن يعودوا إلى المكان الذي أعطاهم الله - عزَّ وجلَّ - فيه النورَ يومَ القيامة، فيعود المنافقون فلا يَجِدون شيئًا، فيحبطون إحباطًا شديدًا، ونادوا ولات حين مناص! جاء تفصيل ذلك في صحيح مسلم في أكثرَ من حديث، ويصوِّر ذلك الله - عزَّ وجلَّ - في كتابه الحكيم في سورة الحديد حيث قال: ﴿يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ * يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ * فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِير﴾ [الحديد: 12 - 15].
أعود إلى المؤمنين يومَ القيامة، مِن أين أُتي المؤمنون بهذا النور العظيم في ذلك اليوم المظلِم؟! لقد جاؤوا به مِن أعمال كثيرة عمِلوها في الدنيا وعَدَهم الله - عزَّ وجلَّ - بالنور جزاءً لها، ومِن هذه الأعمال: صلاةُ الفجر في جماعة! اقرأ حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي رواه الترمذي وأبو داود وابن ماجه بسند صحيح عن بُريدةَ الأسلمي - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: ((بَشِّر المشَّائين في الظُّلَم إلى المساجِد بالنور التامِّ يومَ القيامة))، والمشاؤون هم كثيرو المشي؛ أي: الذين اعتادوا على هذه الفضيلة العظيمة، و: "في الظلم"؛ أي: في صلاة العشاء وصلاة الصُّبح، و: "إلى المساجد" دليل قاطِع على أنَّ هذا النور يُعطَى لمن اعتاد صلاة الفجْر والعشاء في جماعة المسجِد، فإنه لم يَذكر أنَّ الصلاة مجرَّد صلاة جماعة فقط، وإنما يجِب أن تكون في بيت الله - عزَّ وجلَّ - وهذا يردُّ على بعض المسلمين الذين يصلُّون جماعةً في بيوتهم مع زوجاتهم وأطفالهم، ويعتقدون أنَّ في ذلك فضلاً؛ لأنهم يدرِّبون أهلهم على الصلاة، ويرفعون مِن درجاتهم بجعلهم ينالون ثوابَ الجماعة، ولكن الله - عزَّ وجلَّ - الذي شرَع الشرع وسنَّ القوانين - هو الذي حفَّز الرجال المسلمين على صلاة المسجد، وأعْطَى النساء نفْس الأجر بصلاتهنَّ في بيوتهنّ، أما تدريب الأولاد على صلاة الجماعة فيكون باصطحابِهم إلى المسجد، أو بالصلاة معهم في البيت في صلوات النوافل وليس الفروض، والله - عزَّ وجلَّ - سوف يُعطي أولئك الذين يحافظون على صلاةِ الصُّبح في جماعة بالمسجد نورًا تامًّا يوم القيامة؛ بمعنى أنَّه لا ينزع منهم في أيَّ مكان، ولا يُسلب منهم عندَ الصراط، ويَبقى معهم إلى أن يدخلوا به الجنة - إن شاء الله.
ولا يَخفى على المؤمنين أنَّ أنوارهم تتفاوت يوم القيامة، فليس كل المؤمنين يأخذ نورًا مثلَ الآخر؛ إنما يأخذون النور بحسب أعمالهم، وهنا يبرز دور صلاة الفجْر؛ حيث يُعطِي الله بها نورًا تامًّا للمؤمن يوم القيامة، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- الحريص على أمَّته، والمحب لأتباعه يُعلِّمهم ذكرًا خاصًّا يقولونه وهم في طريقهم إلى صلاة الفجْر، والظلام يُغطِّي الأرض - يُعلِّمهم ذكرًا يسألون الله فيه النورَ الذي يُضيء لهم حياتهم، وينوِّر لهم قبورَهم، ويبقَى معهم يوم القيامة؛ روى البخاري ومسلم عن عبدالله بن عباس - رضي الله عنهما - أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خرَج إلى صلاة الفجْر وهو يقول: ((اللهمَّ اجعل في قلْبي نورًا، وفي لساني نورًا، واجعلْ في سَمْعي نورًا، واجعلْ في بصري نورًا، واجعلْ مِن خلفي نورًا، ومن أمامي نورًا، واجعلْ مِن فوقي نورًا، ومن تحتي نورًا، اللهمَّ أعطني نورًا))، هذا اللفظ لمسلم، وفي رواية البخاري زاد: ((وعن يَميني نورًا، وعن يساري نورًا)).
وهذا النُّور يا إخواني لا يضيء لك القبر والآخِرة فقط؛ إنَّما يضيء لك الدنيا كذلك، فالإنسان قد تختلط عليه الأمورُ في الدنيا فلا يستطيع أن يميِّز بين الحق والباطِل، وبين الصواب والخطأ، وبالذات في زمان الفِتن، يصوِّر ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حديثِه الشَّريف الذي رواه الإمامُ مسلِم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - وقال فيه: ((بادِروا بالأعمال فتنًا كقِطع الليل المظلِم...)) في هذه الفِتن المظلمة يرَى المؤمِن طريقه فلا يضلُّ ولا يشقَى، ويهديه الله - عزَّ وجلَّ - إلى الحِكمة، وإلى ما يصلح الدنيا والآخرة؛ ﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [الأنعام: 122]، أسأل الله - عزَّ وجلَّ - أن ينوِّر لنا دُنيانا وقبورَنا وآخرتنا، إنَّه وليُّ ذلك والقادِر عليه.
الخير الثالث في صلاة الفجر:
وعدٌ صريح بالجنَّة؛ روى البخاري عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: ((مَن صلَّى البَردين دخَل الجنة))، والبردان هما الصُّبح والعصْر، فهذا وعدٌ من الرحمن - سبحانه وتعالى - أوحى به إلى رسولِه الكريم -صلى الله عليه وسلم- أن يُدخِل الجنةَ أولئك الذين يحافظون على صلاتي الصبح والعصر، وهذا منتهى أحلام المؤمنين، وهذا هو النجاح الحقيقي والفوز العظيم؛ قال تعالى: ﴿فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾ [آل عمران: 185].
الخير الرابع في صلاة الفجر:
وهو أعْلى من الخير السابق! ويعجب الإنسان: هل هناك ما هو أعْلى مِن دخول الجنة؟! ويخبرنا بالإجابة رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- نعم هناك ما هو أعْلى! هناك رؤيةُ الله - عزَّ وجلَّ - في الجنَّة! الجائزة الكبرى، والهدية العُظْمى، والمنحة التي تتضاءَل إلى جوارها كلُّ المنح، مَن الذي ينال هذه الفرصةَ المهيبة؟! إنهم أولئك الذين يحافظون على صلاتي الصبح والعصْر.
اقرأ حديثَ رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم- الذي رواه البخاري ومسلم عن جرير بن عبدالله - رضي الله عنه - يقول: كنَّا جلوسًا عند النبي -صلى الله عليه وسلم- إذ نظَر إلى القمَر ليلة البدر، قال: ((إنكم ستَرَوْن ربَّكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته))؛ يعني: ترونه بوضوحٍ تام كما ترون القمَر الآن بوضوح تام، ثم قال: ((فإنِ استطعتم ألاَّ تُغلبوا على صلاة قبل طلوعِ الشمس وصلاة قبل غروب الشمس، فافْعلوا))، يا سبحان الله! كل هذا الخير في صلاة الفجر! فإذا علمتَ أنَّ أناسًا مِن المسلمين سمعوا بذلك الخير ثم ناموا عن صلاة الفجر، فماذا تقول في حقِّهم؟! أليستْ هذه هي الحماقةَ بعينها؟! أليستْ هذه هي الغفلةَ بعينها؟! وحقًّا كما قال الله - عزَّ وجلَّ -: ﴿وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ﴾ [النور: 40].
2- ضياع الفجر ليس فقط ضياعَ الأجْر:
فالله - عزَّ وجلَّ - يحذِّر عبادَه كثيرًا من أنْ يغتروا بكونه - عزَّ وجلَّ - غفورًا رحيمًا؛ قال - سبحانه وتعالى -: ﴿وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ﴾ [آل عمران: 28]، وقال: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى﴾ [طه: 124]، وقال: ﴿إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [الأنعام: 165]، وحصْر ذلك يصعُب جدًّا، والله - عزَّ وجلَّ - لا يظلم الناس شيئًا، ولكن الناس أنفسهم يظلمون، يقول -تعالى- في الحديث القدسي الذي رواه مسلمٌ عن أبي ذرٍّ - رضي الله عنه - عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنَّ الله تعالى قال: ((يا عبادي، إنَّما هي أعمالُكم أُحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها، فمَن وجد خيرًا فليحمد الله، ومَن وجد غير ذلك فلا يلومنَّ إلا نفسه)).
وإضاعةِ الصلاة بصِفة عامَّة جريمة عُظمى، وبلية كُبرى، وهي أوَّل ما يُحاسَب عليه العبد يومَ القيامة، فإن صلَحتْ صلَح العمل كله، وإن فسدتْ فسد العمل كله؛ روى الترمذي وأبو داود والنَّسائي، وابن ماجه والدارمي وأحمد، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((إنَّ أوَّلَ ما يحاسب الناس به يومَ القيامة مِن أعمالهم الصلاة، قال: يقول ربنا - عزَّ وجلَّ - لملائكته وهو أعلمُ: انظروا في صلاةِ عبدي أتمَّها أم نقَصَها، فإنْ كانت تامة كُتبت له تامَّة، وإن كان انتقص منها شيئًا، قال: انظروا هل لعبدي مِن تطوُّع، فإنْ كان له تطوُّع، قال: أتِمُّوا لعبدي فريضتَه من تطوعه، ثم تُؤخذ الأعمال على ذاكم))، فكيف يتوقَّع المؤمن خيرًا وقدْ جاء يوم القيامة وكتابه يَخْلو من صلاة الصُّبح في موعدها؟!
وضياع صلاة الصبح يُعاقَب عليها المسلم بكلِّ أنواع العقاب التي ذكَرها الله - عزَّ وجلَّ - وذكَرها الرسولُ الكريم -صلى الله عليه وسلم- لمن أضاع الصلوات في أوقاتها، وفوق ذلك فهناك عقابٌ خاص لمن ضيَّع صلاة الصبح، فقد ذكَر الرسول -صلى الله عليه وسلم- عقابًا شنيعًا لمن نام عن الصلاةِ المكتوبة، ومعلومٌ أنَّ السبب الرئيسي في منْع المسلمين من صلاة الفجر هو النوم؛ فإنَّ المرء عادة ينام عنِ الصلاة فتضيع بكاملها، ولا يصليها إلا بعدَ فوات وقتها؛ روى البخاري عن سَمُرة بن جُندب - رضي الله عنه - أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رأى رُؤيا - ورؤيا الأنبياء حقٌّ - وفي هذه الرؤيا يصوِّر رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- طرفًا مِن عذاب المذنبين مِن المسلمين، وقد يكون هذا العذاب في القبْر، وقد يكون في النار، وقد يكون في الاثنين معًا؛ يقول رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إنَّه أتاني الليلةَ آتيان - جبريل وميكائيل - وإنَّهما ابتعثاني، وإنهما قالا لي: انطلقْ، وإني انطلقتُ معهما، وإنَّا أتينا على رجل مضطجع، وإذا آخَر قائمٌ عليه بصخرة، وإذا هو يَهوي بالصخرة لرأسه فيثلَغ رأسه - أي يشْدَخ - فيتدهده الحجر - يتدحرج - فيأخذه فلا يرجِع إليه حتى يصحَّ رأسه كما كان، ثم يعود عليه فيفعل به مِثل ما فعَل المرة الأولى))؛ يقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: ((قلت لهما: سبحان الله! ما هذا؟! قالا: انطلق، انطلق))، ومرَّ على مشاهَد أخرى كثيرة ليس المجال أنْ أذكرها الآن، ثم بدأا يفسِّران له ما رآه، ففسَّرَا له موقف هذا الرجل بأن قالا له: ((أماَّ الرجل الأوَّل الذي أتيت عليه يثلغ رأسه بالحجر، فإنَّه الرجل يأخُذ القرآن فيرفضه، وينام عنِ الصلاة المكتوبة)).
ولعلَّ الجميع يعلم أنَّ النوم هو المانِع الرئيسي مِن صلاة الفجر، والرجل يضربه في رأسه؛ لأنَّها محل العقل، وأشرف ما في الإنسان، والسبب في النوم.
أيها المؤمنون والمؤمنات، الأمر جدٌّ وليس فيه هزل، ومَن اعتاد المخالفة يوشك أن يقَع في الفِتنة، ومَن وقع في الفتنة وقَع في العذاب الأليم؛ ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [النور: 63].
3- نافلة أعظمُ مِن الدنيا وما فيها:
سُنَّة صلاة الفجر - الصبح - هي أكثرُ صلاة نافلة مِن نوافل الصلوات خصَّها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بتعظيم الأجْر بصورة لافتة حقًّا للنظر، فعلى سبيل المثال قال -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه الإمام مسلمٌ عن عائشة - رضي الله عنها -: ((ركعتَا الفجر خيرٌ من الدنيا وما فيها))، وفي رواية أحمد: ((ركعتَا الفجر خيرٌ من الدنيا جميعًا)).
ووقفة يا إخواني وأخواتي مع هذا الحديث العجيب، ما الذي يمنعنا مِن صلاة الصبح؟! أليس جزءًا ضئيلاً جدًّا جِدًّا جدًّا مِن الدنيا؟! إما سهر بالليل في أمْر من أمور الدنيا، وإما رغبة في أخْذ قسط من النوم؛ لكي تستطيع أن تقوم في السابعة أو الثامنة أو بعدَ ذلك لأمْر آخر مِن أمور الدنيا؛ أليس كذلك؟!
عُد - أخي وأختي في الله - واقرأ الحديثَ العجيب، الدنيا - كلّ الدنيا - بكل ما فيها مِن أموال وكنوز، ومناصِب وأعمال، ومغريات وملهيات، لا تصل إلى قِيمة ركعتي الفجر! ولاحظ أنَّ كل هذا الفضل لركعتي النافلة، فما بالك بركعتي الفرْض؟! وسبحان الله! ليستْ هذه القيمة العالية لطول القيام في هاتين الركعتين أو لكثرة القراءة، فإنَّ الرسول -صلى الله عليه وسلم- كان عادةً ما يخفِّف القراءة فيهما جدًّا؛ روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنَّ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- كان يقرأ في الركعة الأولى بسورة: (قل يا أيها الكافرون)، وفي الركعة الثانية بسورة: (قل هو الله أحد)، ويَرْوي النَّسائي عن السيدة عائشة - رضي الله عنها - أنَّها كانت تقول: إن كنت لأرَى رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- يُصلِّي ركعتي الفجر فيخفِّفهما حتى أقول: أَقَرَأَ فيهما بأمِّ الكتاب - الفاتحة؟! إذًا ليستِ القراءة الطويلة هي السببَ في زيادة الفضل حتى يصل إلى أن يَزيد على الدنيا بكاملها، إنَّما هو التوقيت الذي تُقام فيه هذه الصلاة الكريمة، فالذي ترَك الدنيا جميعًا واستيقظ قبلَ ميعاد إقامة صلاة الصبح؛ حتى يصلي ركعتي الفجْر هو الذي نجَح في الاختبار، وكما ترَك الدنيا جميعًا من أجل هذه الصلاة، فإنَّ الله -تعالى- يُعطيه أجرًا أكبر من الدنيا جميعًا بهذه الصلاة؛ روى البخاري عن السيدة عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: "لم يكُنِ النبي -صلى الله عليه وسلم- على شيء مِن النوافل أشدَّ مِنه تعاهدًا على ركعتي الفَجْر".
وذكَرَ الحافظ ابن حجر العسقلاني في "فتح الباري" أنَّه لم يُحفظ عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه صلى سُنَّة الصلاة قبلها ولا بعدَها في السفر إلا ما كان من سُنة الفجر؛ لذلك روى الإمام أبو داود والإمام أحمد عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((لا تَدَعوا ركعتي الفجْر وإن طردتْكم الخيل))! فحتى عندَ لِقاء العدوِّ، ومطاردة الخيل، واحتدام اللِّقاء، لا تدَعُوا ركعتي النافلة، فما بالكم بالفرْض؟!
ولهذه القيمة العالية كان رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- يقْضِي هذه النافلة إذا فات موعدُها، فيصليها بعدَ صلاة الصبح أو بعد شروق الشمس، وذلك سواء فاتت وحدَها أو فاتت مع صلاة الصبح، وهذا لا يحدُث مع بقية النوافل، اللهمَّ إلا قيام الليل.
إذًا هذا التفخيم الهائِل لركعتي النافلة يُعطي بالتبعية قيمةً أعظم ومكانةً أسمى لركعتي الفرْض، وهذا أمرٌ فريد جدًّا، ويستحق التدبر، فيا باحثًا عن قيراط بسيط في الدنيا، كيف تَنام عمَّا هو خيرٌ من الدنيا جميعًا؟!
4- فقه خاص وذِكر خاص:
لقد جعَل رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- لهذه الصلاة أشياءَ خاصة جدًّا لا تتكرَّر مع غيرها مِن الصلوات؛ بحيث يُعطيها تميزًا واضحًا بيْن الصلوات، وكل الصلوات هامَّة، وكل الصلوات عظيمة، ولكن عندما تلاحِظ اختلافًا في هذه الصلاة بالذات عن غيرِها، فإنَّ في هذا إشارةً إلى تفرد هذه الصلاة بفضْل أعظم، وهذه أمثلة مِن هذا التفرد:
أولاً: هي أوَّل الصلوات افتراضًا على المسلمين هي وصلاة العصر، وكانت كهيئتها الآن؛ أي: كانت ركعتين، وكذلك كانتْ صلاة العصر ركعتين، ثم زِيدت صلاة العصر إلى أربع بعدَ الإسراء والمعراج، وبقيت صلاة الصبح كما فرضت أوَّل مرَّة، ومعنى هذا أنَّ المسلمين يصلُّون هذه الصلاة بهيئتها هذه، وفي موعدِها هذا مِن أوائل أيَّام البعثة، وهذا أمرٌ لافت للنظر، وكأنَّها صلاة لا يَستغني عنها مسلم أو مؤمِن في الأرْض، فكانت من أوائل الشرائع التي نزلت على الرسول الكريم - صلَّى الله عليه وسلَّم.
ثانيًا: أذان الصبح مختلِف عن بقية الصلوات، فكما روى أبو داود عن أبي محذورة - رضي الله عنه - أنَّ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- علَّمه أن يقول في أذان الصبح بعدَ حي على الفلاح: "الصلاة خيرٌ من النوم، الصلاة خيرٌ من النوم".
وقِفوا أيُّها المؤمنون والمؤمنات، أمامَ هذه العبارة العميقة: "الصلاة خيرٌ من النوم"، ما الذي يمنعك غالبًا مِن إدراك صلاة الفجْر؟ أليس النوم ولذَّتُه، وراحته وحلاوته؟! ها قدْ سمعتَ الرسول -صلى الله عليه وسلم- يخبرك - وهو الصادِق المصدوق - أنَّ صلاة الفجر خيرٌ من النوم مهما كان النوم في اعتباراتك هامًّا ومفيدًا!
الصلاة خيرٌ من النوم، إنْ كنت تُصَدِّق الرسول -صلى الله عليه وسلم- وتُدرك أنَّ كلامه هو الحق الذي لا باطل فيه، فليس هناك معنى لعدمِ الاتباع، وإنْ كنت ترى أنَّ النوم أفيد مِن الاستيقاظ وأفضل لظروفك وأنسب لحياتك، فهذا شيء خطير يحتاج إلى وقْفة، القضية يا إخواني ويا أخواتي قضيةُ إيمان!
ثالثًا: جعَل رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- أذكارًا خاصَّة تُقال بعد صلاة الصبح مختلفة عن كلِّ صلاة، فبالإضافة إلى ختام الصلاة المعتاد الذي أوصى به رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- دُبرَ كل صلاة، مثل التسبيح ثلاثًا وثلاثين، والتحميد ثلاثًا وثلاثين، والتكبير ثلاثًا وثلاثين، والاستغفار، والأدعية المختلفة الواردة، فوق كل ذلك أضاف -صلى الله عليه وسلم- أذكارًا خاصَّة بصلاة الصبح ليستْ في غيرها من الصلوات، فعلى سبيلِ المثال ما رواه الترمذيُّ - وقال حسن صحيح - عن أبي ذر - رضي الله عنه - أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((مَن قال في دُبر صلاة الفجْر وهو ثان رجليه قبل أن يتكلَّم: لا إله إلا الله وَحْدَه لا شريك له، له الملك وله الحمد يُحيي ويميت، وهو على كل شيءٍ قدير - عشرَ مرات، كُتبت له عشرُ حسنات، ومُحيت عنه عشر سيئات، ورُفع له عشر درجات، وكان يومَه هذا كلَّه في حرز مِن كل مكروه، وحرس مِن الشيطان، ولم ينبغ لذنب أن يُدرِكه في ذلك اليوم إلا الشِّرْك بالله))، كذلك روى أبو داود والنَّسائي عن مسلم بن الحارث - رضي الله عنه - قال: قال لي النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: ((إذا صليتَ الصبح فقل قبل أن تتكلَّم: اللهم أَجِرني من النار - سبع مرات - فإنك إن متَّ مِن يومك كَتَب الله لك جوارًا من النار))، فهذه فضائلُ لا تُقدَّر بثَمَن، ولا تُحَصَّل إلا بذِكرها في هذا التوقيت.
رابعًا: كان -صلى الله عليه وسلم- وهو الذي كان عادةً يأمر المسلمين بالتخفيف في الصلاة - يطيل في قراءة الصبح - فكما روى مسلم عن أبي برزة الأسْلمي - رضي الله عنه - أنَّ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- كان يقرأ في صلاة الصبح مِن المائة إلى الستِّين آية، وكان ينصرِف حين يعرف بعضنا وجه بعض؛ بمعنى: أنَّ شروق الشمس قد اقتربَ حتى إنهم يستطيعون أن يميِّزوا وجوه بعضهم البعض.
وواضح اهتمام رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم- بالقِراءة الطويلة في هذه الصلاة بالذات، والتي تؤدَّى في وقت يكون فيه القلب عادة خاليًا مِن هموم الدنيا ومشاكلها، كما أنَّ المسلم يفتتح يومَه بهذه الصلاة، فما أجمل أن يفتتح يومَه بكمٍّ لا بأس به مِن الآيات الحكيمات! وقد عبَّر الله - عزَّ وجلَّ - عن صلاة الفجر بكلمة: ﴿وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا﴾ [الإسراء: 78]؛ وذلك لأنَّ قراءة القرآن في هذه الصلاة تشهدها ملائكة الليل وملائكة النهار كما ثبت في الحديث.
خامسًا: كان -صلى الله عليه وسلم- يقرأ في يوم الجُمُعة في صلاة الصبح قراءة خاصَّة، فكان من سُنته -صلى الله عليه وسلم- كما جاء في البخاري وغيره عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنَّه كان -صلى الله عليه وسلم- يقرأ في الركعة الأولى بسورة السَّجْدة، وفي الركعة الثانية بسورة الإنسان، وهذا تميُّز لا يحدُث في أي صلاة مفروضة أخرى، اللهم إلا صلاة الجُمُعة، وهي صلاة متميزة أيضًا.
سادسًا: صلاة الصبح لا تُقصر ولا تُجمع، والظهر والعصر يقصران ويجمعان، والمغرب يُجمع مع العشاء، ولكن لا يقصر، والعشاء تُجمع وتقصر، أما الصبح فمتفرد جدًّا؛ لا يقصر ولا يجمع، لا في سفر، ولا في حضَر، ولا في حجّ، ولا في جهاد، ولا في خوف، ولا في غيره، وهذا - ولا شك - تميز يلفت الأنظار.
أسأل الله - عزَّ وجلَّ - أن يجعلنا من المحافظين على صلاة الفجر، المشتاقين إليها.
5- وقت مشهود:
عظَّم الله - عزَّ وجلَّ - من وقت الصبح في كتابه الكريم، فلم يُقسِم - سبحانه وتعالى - في كتابه بوقت صلاة إلا بوقتِ الصبح والعصر؛ قال تعالى: ﴿وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ﴾ [الفجر: 1 - 2]، كما أنَّ هذا الوقت وقتٌ مشهود، والذي يشهده خلق عظيم مِن خلْق الرحمن - سبحانه وتعالى - وهم الملائكة! كل ملائكة السماء النازِلة إلى الأرْض تشهد هذه الصلاة! روى البخاريُّ عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنَّه قال: سمعتُ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((تفضُل صلاةُ الجميع - الجماعة - صلاةَ أحدكم وحدَه بخمس وعشرين جزءًا، وتجتمعُ ملائكة الليل وملائكة النهار في صلاة الفجْر))، ثم يقول أبو هريرة - رضي الله عنه -: فاقرؤوا إن شِئتم: ﴿إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا﴾ [الإسراء: 78]، فتخيل - يا عبد الله - كيف رفَع الله - عزَّ وجلَّ - مِن قدْر هذه الصلاة حتى جعلها موعدًا لالتقاء ملائكة الليل وملائكة النهار! ثم إنَّ هناك زيادةً في البخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه - يذكر فيها أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد أضاف شيئًا هامًّا بالنسبة لملائكة الليل، وهم الذين يصعدون إلى السماء بعد شُهود صلاة الفجر مباشرةً؛ قال -صلى الله عليه وسلم-: ((ثم يعرج الذين باتوا فيكم - ملائكة الليل - فيسألهم ربُّهم وهو أعلم بهم: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركْناهم وهم يصلُّون، وأتيناهم وهم يصلُّون))، فانظر وتدبر إلى الفارق الهائل بين أن يقول ملائكة الرحمن لله - عزَّ وجلَّ -: وجدنا فلانًا يصلي صلاةَ الفجر في جماعة، وبيْن أن يقولوا: وجدنا فلانًا نائمًا غافلاً ليس واضعًا الفجر في أولوياته، ولا مواقيت الصلاة في حساباته؛ فارِق هائل! فانظر في أي الفريقين تحبُّ أن تكون، واخترْ لنفسك.
6- أنت في حفظ الله:
وعدَك رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- أنك إذا صليت الصبح فإنك ستكون في حِفظ الله - عزَّ وجلَّ - سائِر اليوم! أيُّ مِنَّة، وأي فضْل؟! رَوى الإمام مسلم عن جُندب بن سفيان - رضي الله عنه - أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((مَن صلَّى صلاة الصُّبح فهو في ذِمَّة الله))؛ أي في حماية الله، وفي عهْد الله، وفي ضمان الله - عزَّ وجلَّ - وهناك زيادة للحديث في مسلِم أيضًا وفي الترمذي وابن ماجه يقول فيها الرسولُ -صلى الله عليه وسلم- واللفظ لابن ماجه: ((فلا تخفروا الله في عهْدِه))؛ يعني هذا أمرٌ للناس ألاَّ تؤذي هذا الذي صلى الصبح، ثم يقول: ((فمن قتَله - أي: قتل هذا الذي صلَّى الصبح - طلَبَه الله حتى يكبَّه في النار على وجهه))، حماية ربانية عظيمة لمن صلَّى الصبح، أنت في حماية الله، ومَن آذاك طلبه الله - عزَّ وجلَّ - حتى أدخله النار، تشعر بثِقة هائلة أثناء يومك إذا كنت مصليًا للصبح، تشعر بثبات أمامَ المحن، وأمام المصائب، وأمام الطغاة، وأمام الجبابرة، أنت في حمايةِ مالك الملك وخالِق الأكوان!
ماذا تريد أكثرَ من ذلك؟! كل هذا بركعتين! ولكن هاتان الركعتان أثبتتَا صدق القلب وقوة الإيمان، ومِن ثَم فإن الله - عزَّ وجلَّ - يدافع عنك؛ ﴿إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ﴾ [الحج: 38].
7- مؤتمر عِلْمي إيماني:
كان رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- يهتمُّ بأن يجعل صلاةَ الصبح فرصةً لتعليم أصحابه كلَّ الخير، فكان كثيرًا ما يجعل وراءَها درسًا، أو توضيحًا لمفهوم ما، أو سؤالاً عن أصحابه، أو تفسيرًا لرؤيا، أو غير ذلك مِن أمور التربية، لقد كانت صلاة الصبح - بحقٍّ - مؤتمرًا علميًّا إيمانيًّا راقيًا جدًّا.
وهذه وسيلة من أهم وسائل التربية؛ لأنَّ القلوب تكون نقيَّةً في هذه اللحظات، والعقول متفتِّحة، والملائكة شاهِدة، والبيت بيت الله، والكلام كلام الله، والحضور مِن المؤمنين الصادقين، فرصة رائعة لزَرْع كل ما هو نبيلٌ؛ من عقيدة أو خُلُق أو فِقه أو غيره، وكان رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- ينوع المواد في هذا اللقاء؛ حتى لا يُصابَ المسلمون بالملل، فمرَّةً يسأل أصحابه عن أحوالهم؛ حتى يعلِّمهم في النهاية شيئًا ينفعهم، ومِن ذلك ما رواه الإمام مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - من أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سأل أصحابه يومًا بعد صلاة الصبح فقال: ((مَن أصبح منكم اليومَ صائمًا؟)) قال أبو بكر - رضي الله عنه -: أنا، قال: ((فمَن تبِع منكم اليوم جنازة؟)) قال أبو بكر: أنا، قال: ((فمَن أطعم منكم اليومَ مسكينًا؟)) قال أبو بكر: أنا، قال: ((فمَن عاد اليوم مريضًا؟)) قال أبو بكر: أنا، فقال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: ((ما اجتمعْنَ في امرئ إلا دخَل الجنة))، ولك أن تتفكَّر: متى استيقظ الصِّدِّيق - رضي الله عنه - حتى يفعلَ كل ذلك!
ومن ذلك أيضًا ما رواه البخاريُّ عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال لبلال - رضي الله عنه - عندَ صلاة الفجر: ((يا بلال، حَدِّثْني بأرْجَى عمل عملتَه في الإسلام؛ فإني سمعتُ دفَّ نعليك بين يديّ في الجنة - تحريك نعليك)) قال: ما عملت عملاً أرْجى عندي أني لم أتطهَّر طهورًا في ساعة ليل أو نهار إلا صليتُ بذلك الطهور ما كُتِب لي أن أصلِّي".
وأحيانًا كان يقصُّ على أصحابه قصَّةً لطيفة مشوقة تجذب الأسماع، وتوقِظ مَن يداعبه النوم، ومِن ذلك ما رواه البخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه - من أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صلى صلاةَ الصبح ثم أقْبَل على الناس فقال: ((بينا رجل يسوقُ بقرةً إذ ركِبَها فضربَها فقالت: إنَّا لم نُخلَقْ لهذا، إنَّما خُلقنا للحَرْث))، فقال الناس: سبحان الله! بقرة تتكلَّم! فقال: ((فإني أومن بهذا أنا وأبو بكر وعمر، - وما هما ثَمَّ - وبينما رجلٌ في غنمِه إذ عدا الذِّئب، فذَهَب منها بشاة، فطلَبه حتى كأنَّه استنقذها منه، فقال له الذِّئب هذا: استنقذتها مني، فمَن لها يومَ السَّبُع، يوم لا راعي لها غيْري؟!))، فقال الناس: سبحان الله! ذئبٌ يتكلَّم! قال: ((فإنِّي أومن بهذا أنا وأبو بكر وعمر - وما هما ثَمَّ)).
وأحيانًا كان يُلقي خُطبةً كاملة، أو موعِظة بليغة يعلِّمهم فيها طرفًا من جوامع كلمه -صلى الله عليه وسلم- ومِن ذلك ما رواه الترمذيُّ وأبو داود وابن ماجه وأحمد والدارمي عن العِرباض بن سارية - رضي الله عنه - قال: صلَّى لنا رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- الصبحَ ذات يوم، ثم أقْبل علينا فوعَظَنا موعظةً بليغة، ذرفتْ منها العيون، ووجلتْ منها القلوب، فقال قائل: يا رسولُ الله، كأن هذه موعظة مودِّع، فماذا تعهَد إلينا؟ فقال: ((أُوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة، وإنْ كان عبدًا حبشيًّا، فإنَّه مَن يعش منكم بعْدي فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسُنتي، وسُنة الخلفاء الراشدين المهديِّين، فتمسَّكوا بها، وعضُّوا عليها بالنواجِذ، وإيَّاكم ومحدَثات الأمور، فإنَّ كلَّ محدَثة بِدعة، وكل بِدعة ضلالة)).
والشاهد في كلِّ هذا - وفي غيره - أنَّ الرسولَ -صلى الله عليه وسلم- كان يلاطِف أصحابه بعدَ صلاة الصُّبح ويُعلِّمهم ويُفقِّههم ويشرح لهم، وكل هذه عواملُ تشجِّع مَن كان في قلْبه تردُّد ألاَّ يفوِّت صلاة الصبح.
8- دورة تدريبيَّة رُوحيَّة يوميَّة:
كان -صلى الله عليه وسلم- يحفِّز الناس على البَقاء في المسجد بعدَ صلاة الصبح إلى شروق الشمس، فيصبح هذا الوقت عبارة عن برنامج تَدريبي إيماني عظيم يبدأ به المؤمِن يومَه، وقد رأينا كيف أنَّ الرسولَ -صلى الله عليه وسلم- كان يُطيل الصلاةَ في الصُّبح نسبيًّا عن بقية الصلوات، فيُصلِّي بالمائة إلى الستِّين آية، ثُمَّ يتحدَّث إلى أصحابه في درْس قصير، أو يلاطِفهم بأسئلة، ثم فوق ذلك هو يُحفِّزهم على الجلوس لذِكر الله - عزَّ وجلَّ - إلى شروق الشمس؛ روى الترمذي - وقال: حسن - عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: ((مَن صلَّى الغداة في جماعة ثم قعَد يذكُر الله حتى تطلُع الشمس، ثم صلَّى ركعتَين، كانت له كأجْر حَجَّة وعُمرة تامَّة تَامَّة تامَّة))، والحديث وإنْ كان البعضُ قد ضعَّفه إلا أنَّ الترمذي حسَّنه، وله شواهدُ جيِّدة في الطبراني، وشواهِد أخرى كثيرة كما قال المنذريُّ في الترغيب، وكذلك روى مسلم في صحيحه عن جابرِ بن سَمُرة - رضي الله عنه - قال: "كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا صلَّى تربَّع في مجلسه حتى تطلعَ الشمس حسنًا"؛ أي: تطلع طلوعًا حسنًا، ثم هناك أذكارُ الصباح الكثيرة التي كان يقولها النبي -صلى الله عليه وسلم- ويحفز أصحابه عليها بعدَ الصبح وقبل طلوع الشمس، وكلها مِن الأذكار العظيمة القيِّمة، المليئة بمعاني الشُّكر والحمْد والاستغفار والتسبيح واللجوء إلى الله والاعتماد عليه، وهذه بدايةٌ رائِعة لليوم، فعَلَى سبيل المثال ما رواه أبو داود عن عبدالله بن غَنَّام البَيَاضيِّ - رضي الله عنه - أنَّ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((مَن قال حين يصبح: اللهمَّ ما أصبح بي مِن نِعمة، فمنك وحدَك لا شريكَ لك، فلك الحمد ولك الشكر، فقد أدَّى شُكرَ يومه، ومَن قال مثل ذلك حين يُمسي، فقد أدَّى شكر ليلته))، وكذلك روَى البخاري والترمذي وأبو داود - واللفظ لأبي داود - عن أبي سعيد الخُدري - رضي الله عنه - قال: دخَل رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- ذاتَ يوم المسجد، فإذا هو برجلٍ مِن الأنصار يُقال له: أبو أمامة، فقال: ((يا أبا أُمامة، ما لي أراك جالسًا في المسجد في غير وقتِ الصلاة؟)) قال: همومٌ لزِمتْني، وديون يا رسولَ الله، قال: ((أفلا أُعلِّمك كلامًا إذا أنتَ قُلتَه أذهب الله - عزَّ وجلَّ - همَّك، وقضَى عنك دَيْنك؟))، قال: قلت: بلى يا رسولَ الله، قال: ((قل إذا أصبحت وإذا أمسيت: اللهمَّ إني أعوذ بكَ مِن الهمِّ والحزن، وأعوذ بك مِن العجْز والكسَل، وأعوذ بك من الجُبن والبُخل، وأعوذ بك مِن غَلَبة الدَّين وقهْر الرجال))، قال: ففعلتُ ذلك، فأذهب الله - عزَّ وجلَّ - همِّي، وقضَى عني دَيني"، وروى البخاري وغيره عن شدَّاد بن أوس عنِ النبي -صلى الله عليه وسلم- أنَّه قال: ((سيِّد الاستغفار: اللهمَّ أنتَ ربي لا إله إلا أنت، خلقْتَني وأنا عبدُك، وأنا على عهدِك ووعدك ما استطعتُ، أبوء لك بنِعمتك عليّ، وأبوء لك بذَنبي فاغفرْ لي، فإنَّه لا يغفر الذنوبَ إلا أنت، أعوذ بكَ مِن شرِّ ما صنعت، إذا قال حين يُمسي فمات دخَل الجنة، أو كان مِن أهل الجنة، وإذا قال حين يُصبح فمات مِن يومه مثله))، وأذكار الصباح كثيرة جدًّا وجميلة جدًّا، وتخيَّل نفسك تقوم بهذا البرنامج التدريبي كلَّ يوم، كيف سيكون حالك مع الله - عزَّ وجلَّ؟! وكيف سيكون حالك مع الناس في كلِّ معاملاتك؟! هذه - ولا شكَّ - بداية رائعة لليوم.
9- كفَّارة لنِصف العمر:
هذه خاصية رائِعة لصلاة الفجْر، فقد أشار رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- أن كلَّ صلاة تكفِّر الذنوب التي ارتُكبت في الوقت الذي بيْن هذه الصلاة والصلاة التي قبلها، فعلى سبيل المثال ما رواه مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((الصلوات الخمْس، والجُمُعة إلى الجُمُعة، ورمضان إلى رمضان مكفِّرات ما بينهنَّ، إذا اجتُنبت الكبائِر))، وكذلك ما رواه الإمام مسلم عن عثمانَ بن عفَّانَ - رضي الله عنه - من أنَّه قال: سمعتُ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((ما مِن امرئ مسلِم تحضرُه صلاةٌ مكتوبة، فيُحسِن وضوءَها وخشوعَها وركوعها إلا كانتْ كفَّارة لما قبلها مِن الذنوب، ما لم يؤت كَبيرة، وذلك الدَّهرَ كلَّه))، يا ألله! هذه رحمةٌ عظيمة من ربِّ العالمين.
لكن لاحِظ أنَّ الفترة بين صلاة العشاء وبيْن صلاة الصبح هي أطولُ الفترات التي تقَع بين الصلوات، وهي الليل كله، وهي نِصف اليوم، فتصبح بذلك صلاة الصبح مكفِّرة لنصف اليوم، وبقيَّة الصلوات مكفِّرة لنصف اليوم الآخر، أو قل: تُصبح صلاة الصبح مكفِّرة لنصف العُمر لمن حافَظ عليها، وبقية الصلوات مكفِّرة لنصف العمر الآخَر، وذلك إذا اجتُنبت الكبائر، فضلٌ هائل، وقيمة لا تُقدَّر! فالله المستعان.
10- في كل خطوة بركة:
لفت رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- أنظار أصحابه وأنظارَنا إلى أنَّ البركة في البُكور، فالساعات الأولى في الصَّباح - بعدَ صلاة الصبح - هي أبرَكُ ساعات في اليوم كله، ولن يستغلها إلا الذي استيقظ في هذا الوقت المبكِّر، وصلى الصبح، وبدأ في استثمار يومِه من أوله؛ روى الترمذيُّ وأبو داود وأحمد وابن ماجه عن صخرٍ الغامدي قال: قال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: ((اللهمَّ بارِكْ لأمَّتي في بُكورها))، وهذه المباركة في كلِّ شيء، وفي كل الأعمال، في التجارة والزراعة، والقراءة،، والسفر، والجهاد في سبيلِ الله.
وكان -صلى الله عليه وسلم- كما يقول صخر الغامدي - رضي الله عنه - راوي الحديث السابق - إذا بعَث سريةً أو جيشًا بعثَهم أول النهار، واستفاد صخرٌ - رضي الله عنه - مِن هذه النصيحة، وكان رجلاً تاجرًا، وكان إذا بعَث تجارةً بعثهم أوَّل النهار، فأثْرَى وكثُر ماله، حتى إنَّه في رواية أحمد جاء: أنَّ صخرًا كثر ماله حتى كان لا يَدري أين يضعُه! وكان -صلى الله عليه وسلم- كما روى الترمذي عن النُّعمانِ بن مقرِّن - رضي الله عنه - إذا طلَع الفجر أمْسَك حتى تطلع الشمس، فإذا طلعتْ قاتَل، وكان يقول: عندَ ذلك تهيج رياح النَّصْر، ويدعو المؤمنون لجيوشهم في صلاتهم.
وعلى سبيلِ المثال ما جاء في سُنن النسائي عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: صلَّى رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- يومَ خيبر صلاةَ الصبح بغَلَس - يعني: في أوَّل وقت الفجر - وهو قريب منهم، فأغار عليهم، وقال: ((الله أكبر! خربت خيبر - مرَّتين - إنَّا إذا نزلْنا بساحة قوم، فساءَ صباحُ المنذرَين))، إذًا كل هذه البَرَكة والفضل والنَّصْر في أوَّل لحظات النهار.
لكن ماذا يحدُث إن لم يستيقظِ الإنسان في هذه اللحظات المبارَكة؟ ماذا يحدُث إن ظلَّ غافلاً نائمًا، ساهيًا عن أعظمِ لحظات اليوم، لاهيًا عن نصائح حبيبنا وحبيب الله محمَّد - صلَّى الله عليه وسلَّم؟ ماذا يحدُث لو بدأ الإنسان يومَه بعد فوات هذا الخير؟ استمع إلى كلام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي رواه البخاريُّ ومسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: ((يعقِد الشيطانُ على قافية رأس أحدكم ثلاث عقد إذا نام، بكلِّ عقدة يضرِب: عليك ليلاً طويلاً، فإذا استيقظ فذَكَر الله انحلَّتْ عُقدة، وإذا توضَّأ انحلَّتْ عنه عقدتان، فإذا صلَّى انحلتْ العقدة الثالثة، فأصبح نشيطًا طيِّبَ النفْس، وإلا أصبح خبيثَ النفْس كسلانَ)).
ولاحِظ أنَّ هذا الحديثَ قيل في فضْل قيام الليل وليس في صلاة الصبح، وهذا يعني أنَّ الذي لا يستيقظ قبلَ الفجر ليصلي لله ولو ركعتين قبلَ طلوع الفجر يصبح خبيثَ النفس كسلان، فما بالك بالذي ينامُ عن الصلاة المفروضة؟! فهل نُعاني - يا إخواني وأخواتي - من الكسَل في حياتنا؟! أم هل حياتنا تمتلِئ بالنشاط والحيوية؟! لقد كنَّا نشاهد في السابق الناسَ تخرج إلى أعمالها في الصباح الباكِر، يستوي في ذلك الفلاَّحون والتجَّار والعمَّال، ثم انتشر التلفاز والفيديو والقنوات الفضائية والمقاهي والأندية، فماذا كانتِ النتيجة؟! ماذا كانت نتيجة السهر الطويل، والاستيقاظ المتأخِّر، وضياع الساعات الأولى مِن الصباح؟ لقد ذهبتِ البركة، وقلَّ الإنتاج، واشتدَّتِ الأزمة الاقتصادية، وليست هناك وسيلة لعودة البَرَكة إلا بالعودة إلى شرْعِنا بصورة كاملة، والاهتمام بأدقِّ التفاصيل، ومن ذلك استثمارُ اليوم بكامله، من قبل صلاة الفجر وإلى لحظاتِ النوم، وأسأل الله -تعالى- التوفيقَ لأمَّة الإسلام.
صلاة الفجر في عيون الصالحين:
لكلِّ ما سبق من الفضائل العظيمة، والخصائص الفريدة لصلاةِ الفجْر، وبالذات في جماعة، أدرك الصالحون قِيمةَ هذه الصلاة الهامَّة، فما ضيَّعوها، وما تخيَّلوا أصلاً أن يُضيِّعها أحد؛ رَوى الإمام مالك - رحمه الله - في موطئه أنَّ عمر بن الخطَّاب فقد سليمان بن أبي حثمة - رحمه الله - في صلاة الصبح في يومٍ من الأيام - يومًا واحدًا! - وأنَّ عمر بن الخطَّاب - رضي الله عنه - غدَا إلى السوق، ومسكن سليمان بيْن السوق والمسجد النبوي، فمرَّ على الشفاء أمِّ سليمان - رضي الله عنها - فقال لها: لم أرَ سليمان في الصبح، فقالت: إنه بات يصلِّي فغلبته عيناه - لم يكن يشاهد التلفاز! - فقال عمر: "لأن أشهدَ صلاة الصبح في الجماعة أحبُّ إلى مِن أن أقوم ليلة"، لقد كانتْ بيعة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ليكون أميرًا للمؤمنين بعدَ الصِّدِّيق - رضي الله عنه - في صلاة الفجْر في المسجد النبوي، فقد تُوفِّي الصِّدِّيق - رضي الله عنه - مساءً ودُفِن مساءً، وفي صلاة الفجْر من اليوم التالي بُويع عمر بن الخطاب بالخِلافة، وهذا يعني أنَّ كبار رجال الدولة والأمراء والوزراء وأهل الحل والعقد ومَن بيده الأمر - كل هؤلاء - كانوا يصلُّون الفجر في جماعة، ويأخذون قراراتٍ مصيرية جدًّا في صلاة الفجْر، ولا شكَّ أنَّ اختيارهم سيكون موفَّقًا، وقرارهم سيكون حكيمًا، القرار في بيت الله، وبعدَ صلاة الصبح، وفي هذه اللحظات المبارَكة، ويأخذه هؤلاء المتوضِّئون الطاهرون، فكيف لا يكون صائبًا؟! هنا نفهم لماذا كان يُنصَر هؤلاء.
يروي الإمام مالك في موطئه أنَّ المسور بن مَخْرَمة - رحمه الله - أخبره أنَّه دَخَل على عمرَ بن الخطَّاب - رضي الله عنه - مِن الليلة التي طُعِن فيها، فأيقظ عمرَ لصلاة لصبح، وعمرُ - رضي الله عنه - هو رأس الدولة، وهو مطعونٌ طعنة قاتلة، والظرف صعب جدًّا، لكن صلاة الصبح لا تؤخَّر! فماذا قال عمرُ عندما أيقظه المسور بن مَخْرَمة - رحمه الله؟! قال: "نعم، ولاحَظَّ في الإسلام لمن ترَك الصلاة"، فصلَّى عمر وجُرْحه يثعب دمًا!
لذلك كان عبدالله بن عمرَ - رضي الله عنهما - يقول: "كنَّا إذا فقدْنا الرجل في هذه الصلاة، أسأنا به الظن"، فهو إمَّا أُصيب في بدنه، أو أُصيب في دِينه، لقد رُبِّي في بيت عمر بن الخطاب - رضي الله عنهم أجمعين.
وكان الصالِحون من هذه الأمَّة حريصين على بدْءِ القتال دائمًا بعدَ صلاة الصبح - وليس قبلها - حتى لا تَضيع عليهم الصلاة؛ لأنَّ وقتها قصير، وحتى يحصلوا على بركةِ الساعات الأولى مِن النهار، وحتى يبتهلوا إلى الله -تعالى- في صلاتهم أن ينصرَهم على أعدائهم؛ خالد بن الوليد - رضي الله عنه - لم يكن يبدأ قتالَه إلا بعدَ صلاة الصبح، يوسف بن تاشفين - رحمه الله - زعيم دولة المرابطين، وقائد مِن أعظم قادة المسلمين - لم يخُضْ موقعة الزلاقة المشهورة إلا بعدَ أن صلَّى الفجر بجيش المسلمين، ثم بدأ القتال، قطز - رحمه الله - بدأ القتال في موقعة عين جالوت المشهورة ضدَّ التتار بعدَ صلاة الصبح مباشرةً، لم تكن أعمالهم تبدأ في الخامسة صباحًا أو السادِسة صباحًا أو السابِعة صباحًا، إنما كانتْ أعمالهم مرتبطةً بصلاة الصبح، تُكَيَّف الدنيا - كل الدنيا - على مواعيدِ الصلاة، ولا تكيَّف مواعيد الصلاة على أيِّ شيء آخَر!
قواعد في منتهَى الوضوح في فِكر كلِّ قائد مسلم ناجِح؛ أنس بن مالك - رضي الله عنه - كان يَبكي كلَّما تذكَّر فتح "تستر"، و"تستر" كانت مدينةً فارسيةً حصينة، حاصَرَها المسلمون سَنَة ونصفًا بالكامل! ثم سقطتِ المدينة في أيدي المسلمين، وحقَّق الله -تعالى- لهم فتحًا مبينًا، وهو مِن أصعب الفتوح التي خاضها المسلمون، فإذا كان الوضع بهذه الصورة الجميلة المشرِقة، فلماذا يبكي أنس بن مالك - رضي الله عنه - عندما يتذكَّر موقعة تستر؟! لقد فُتح باب حِصن تستر قُبيلَ ساعاتِ الفجْر بقليل، وانهمرتِ الجيوش الإسلامية داخلَ الحصن، ودار لقاء رهيب بيْن ثلاثين ألف مسلِم ومائة وخمسين ألف فارسي! وكان قتالاً في منتَهَى الضراوة، وكانت كلُّ لحظة في هذا القتال تحمِل الموت، وتحمل الخطرَ على الجيش المسلِم، موقف في منتهى الصُّعوبة، وأزمة من أخطر الأزمات! ولكن في النهاية - بفضل الله - كتَب الله - عزَّ وجلَّ - النصر للمؤمنين، وانتصروا على عدوِّهم انتصارًا باهرًا، وكان هذا الانتصار بعدَ لحظات مِن شروق الشمس! واكتشف المسلمون أنَّ صلاة الصبح قد ضاعتْ في ذلك اليوم الرهيب! لم يستطعِ المسلمون في داخل هذه الأزمة الطاحِنة والسيوف على رقابهم أن يصلُّوا الصبح في ميعاده! ويَبكي أنس بن مالك - رضي الله عنه - لضياع صلاةِ الصبح مرَّةً واحدة في حياته! يبكي وهو معذور، وجيش المسلمين معذور، وجيش المسلمين مشغولٌ بذروة سنام الإسلام، مشغول بالجهاد، لكن الذي ضاع شيءٌ عظيم! يقول أنس: وما تستر؟! لقد ضاعتْ منِّي صلاة الصبح، ما وددتُ أنَّ لي الدنيا جميعًا بهذه الصلاة!
هنا نفهم لماذا كان يُنصر هؤلاء؛ ﴿إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾ [محمد: 7]، فإذا كانتْ هذه إحدى أسباب النَّصْر، فخبِّرني بالله عليك كيف ينصُر الله - عزَّ وجلَّ - قومًا فرَّطوا في فريضة صلاة الصبح؟! هذا - والله - لا يكون، أمَّا إنْ كان الجيش على شاكلة أنس بن مالك - رضي الله عنه - يحاسب نفسه على الصلاة الواحِدة، فهو ولا شكَّ جيش منصور؛ ﴿وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ [الحج: 40].
الوسائل المعينة على صلاة الصبح جماعة:
إنني لم أذكُرْ كل هذه الفضائل والخصائص لصلاة الفجر لمجرد العِلم بأحاديث الرسول -صلى الله عليه وسلم- أو لمجرَّد التمتع بفضائل نظريَّة لا تتحقق في واقعنا، إنني لم أذكُرْ كل ذلك إلا لنسعى سعيًا حثيثًا لتطبيق شرع الله - عزَّ وجلَّ - وللحفاظ على فرْض من فروض الله - عزَّ وجلَّ - وللاقتداء الحقيقي بالصالحين الذين فقهوا هذا الدِّين فقهًا صحيحًا سليمًا، أريد أن نكون كعمرَ وأنسٍ، وصخر والنعمان، وغيرهم، في نظرتهم لصلاة الصبح، وفي احترامهم لقانون الله - عزَّ وجلَّ - فماذا نفعل؟!
سأذكُر هنا في هذه الوسيلة - إنْ شاء الله - عشر وسائل مُعينة على صلاة الفجر، لكن الابتكار في هذه الوسائل مطلوبٌ، والتنوُّع جميل، فليبحث كل واحد منَّا عن أي طريقة تساعده وتساعِد عمومَ المسلمين على تنفيذ أمر الله - عزَّ وجلَّ - وأسأل الله التوفيقَ والقَبول.
1- الإخلاص:
وهذا هو أهمُّ العوامِل المساعدة على الاستيقاظ لصلاة الفجْر، وبدونه لن يواظِب أحد على هذه الصلاة الهامَّة، وكما ذكرتُ قبل ذلك فصلاةُ الفجر أصلاً مقياس للتفرِقة بين المخلصين والمنافقين، والإخلاص لله - عزَّ وجلَّ - يكون بحرصك الشديد على أنْ تُرضي الله - عزَّ وجلَّ - وأن تكون مستعدًّا للتضحية بأيِّ شيء في سبيل ذلك، وهذا الإخلاص لن يكونَ إلا إذا أعطيتَ لله - عزَّ وجلَّ - قدْرَه، اقرأ معي قول الله - عزَّ وجلَّ - في سورة الزمر: ﴿وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ * وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ [الزمر: 65 - 67]، الأرض جميعًا بكلِّ الملهيات التي شغلتْ عن صلاة الفجْر أو غيرها مِن الطاعات، ﴿وَالسَّمَوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [الزمر: 67]، ولاحِظْ أن الإشراك بالله يأتي عندما لا يقدر العبادُ قدْرَ الله - عزَّ وجلَّ - وإعطاء الله - عزَّ وجلَّ - قدرَه يكون بالتدبُّر في قرآنه، وبالنظَر في ملكوته، وبرؤية آياته، ومطالعة خلْقه.
إنَّ ضياع الفجر - أيها المؤمنون والمؤمنات - عَرَض لمرَض، وليس هو المرض بذاته، أما المرض فهو أنَّك جعلت الله - عزَّ وجلَّ - أهونَ الناظرين إليك، فلم تهتمَّ به، ولم تخلص له، ولم تأبه بأمْره، ولم تخشَ تحذيره، ولم تتبع قانونه، ولم تخضع لشرعه، ومن ثم أضعت صلاة الفجر، وهذه علامة خطيرة على غياب الإخلاص، ثم لاحِظ شيئًا خطيرًا: أنَّه ليس معنى أنك حافظتَ على صلاة الفجر في جماعة أسبوعًا أو شهرًا أو عامًا أنَّك أصبحتَ من المخلصين، ولكن يجب أن تستمرَّ المواظبة بصِفة دائمة، منذُ أدركت قيمةَ صلاة الفجر وإلى لحظةِ الموت!
والأمر - كما ترون - يحتاج إلى مجهودٍ ومجاهدة ومصابَرة وتدريب، والذي يصلِّي فترةً ثم ينقطع ليس مخلصًا لله - عزَّ وجلَّ - وللأسف فإنَّ كثيرًا من المسلمين يلتزم فترةً من حياته بالصلاة في المسجد، ثم يترُك هذا الأمر لأعوام وأعوام! ولو كان يصلي حقًّا لله - عزَّ وجلَّ - فليعلم أنَّ الله - عزَّ وجلَّ - حيٌّ لا يموت، وهو - سبحانه وتعالى - لا نعبدُه في يوم دون يوم، أو ظرْف دون ظرف؛ إنما يجب أن نعبدَه في كلِّ الحياة، وفي كل الظروف.
وكم يحزن المرء عندما يشاهِد بعض النماذج الخطيرة في المجتمع المسلم، فعلى سبيل المثال:
• داعية يدْعو الناس إلى الخير، ويعلِّمهم الكتاب والسنة، ويحفِّزهم على الطاعة، فينزل لصلاة الفجْر؛ لأنَّه يتعرَّض للحرَج أن يفعل الناس الخير ولا يفعله هو! فإذا غاب الناس كأنْ كان في سفر مثلاً، أو غير منطقة سكَنه، أو انقطع عن تعليم الناس لأيِّ عُذر أو سبب، انقطع عن النزول إلى صلاة الفجْر! أين الإخلاص؟!
• مسلم آخر اضطرتْه ظروف عمله أن يستيقظَ في الصباح الباكر جدًّا قريبًا من ميعاد الفجر، أو طالب يُذاكر في أيَّام امتحاناته فلا ينام إلا قُرب ميعاد الفجر! فيجد كل منهما نفسَه مستيقظًا وقتَ صلاة الفجر فينزل للصلاة، فإذا تغيَّر ميعاد عمل الأول فأصبح متأخرًا، أو إذا انقطعتِ المذاكرة للثاني بانتهاء الامتحانات، انقطَع كلاهما عن صلاة الفجْر! أين الإخلاص؟!
• مسلم ثالث يحتاج إلى الله - عزَّ وجلَّ - احتياجًا شديدًا في أمرٍ من الأمور، كأنْ يكون قد وقَع في أزمة شديدة، مثل مرض ابنه، أو فقد وظيفته، أو يكون قد وقَع عليه ظُلم ما، فبدأ ينتظم في صلاة الفجْر، ويصلِّي بخشوع تامّ، ويدعو الله بإخلاص، ثم فُرِّجت الأزمة، وحُلَّت المشكلة، فانقطع عن صلاة الفجْر! أين الإخلاص؟!
اقرأ قول الله - عزَّ وجلَّ -: ﴿هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [يونس: 22 - 23].
• مثال رابع: أعرِف شيخًا كان يعمل إمامًا في أحدِ المساجد في دولة غربية براتب شهري، وكان يؤمُّ الناس في كل الصلوات، وكان يعطي لهم دروسًا وخطبًا، ثم بعد انتهاء سَنة من العمل لم يجدَّد له العقد، فاضطرَّ للعمل في وظيفة أخرى في نفس المنطقة، ومع قربه من المسجد إلا أنَّه انقطع عن صلاة الفجر في المسجِد، وعن معظم بقية الصلوات! لقد كان يؤمُّ الناس كوظيفة، فضاعتِ الوظيفة وضاعتْ معها الصلاة! فأين الإخلاص؟!
الإخلاص - يا إخواني وأخواتي - أهمُّ وسيلة مِن وسائل المحافظة على صلاة الفجر، وأهمُّ وسيلة لكلِّ أعمال البِر والطاعة والخير، والشيطان يقْوَى على كل عباد الله إلا المخلصين منهم؛ قال تعالى - وهو يحكي عن الشيطان -: ﴿فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ﴾ [ص: 82 - 83]، فاحذر أن تكونَ فريسة للشيطان، وتسلَّح بسلاح الإخلاص.
2- العزيمة:
عندي قناعة شخصيَّة أنَّ من أراد بصدق أن يستيقظَ للفجر، فلن يحولَ دونه حائل! لو يشعر المسلم فعلاً بقيمة الفجْر في جماعة، فسوف يرتِّب كلَّ حياته ليقوم لصلاة الفجر، انظر ماذا يقول ربُّنا - سبحانه وتعالى - عن المنافقين: ﴿وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ﴾ [التوبة: 46]، فتأتي الإرادة أولاً، فلو كانوا حقًّا وصدقًا يريدون الخروجَ، لأعدوا له العُدَّة المناسبة التي تمكِّنهم فعلاً من الخروج، وكذلك الذي "يريد" أن يصلي الفَجْر فإنَّه إن لم يعدَّ له العُدة، فليس مِن الصدق أن يقول: أنا أريد ولكني لا أوفَّق، فعلى سبيل المثال: إنْ كان ينام متأخرًا، ولا يضبط منبهًا، ولا يأخذ بأي سبب مِن أسباب الإيقاظ، فكيف يقول: أنا "أريد" ولكني لا أسمع الأذان؟!
لو لم تكن هناك عزيمةٌ صادِقة، فليس هناك أملٌ في سماع الأذان؛ قال تعالى: ﴿وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ﴾ [الأنفال: 23]، وحتى لو سمع المسلم الأذان وهو ضعيف العزيمة، فلن يقوم! لكن الأخطر مِن ذلك أن يصل إلى المرحلة التي "يكره" الله - عزَّ وجلَّ - فيها قيامَه! وكيف يكره الله - عزَّ وجلَّ - قيامَ المسلم للصلاة؟! يكره ذلك عندما يجد إصرارًا على المخالَفة، وخورًا في العزيمة، ونيَّة واضحة للمعصية، والله - عزَّ وجلَّ - لا يُريد الذي يأتي إليه أن يأتي مضطرًّا كارهًا، إنما يحبُّ العبد الطائع عن رغْبة، والملبِّي له عن شوْق، فإذا وجد الله - عزَّ وجلَّ - هذا الضعفَ في العزيمة، فإنَّه يكره انبعاثَ المسلم للصلاة، أو إلى أيٍّ مِن أعمال الخير، بل ويُثبِّطه ويمنعه مِن الفِعل؛ قال تعالى: ﴿وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ﴾ [التوبة: 46]، فراجع نفْسك يا بن الإسلام، فالأمر جِدُّ خطيرٍ، لو كنت قد اعتدتَ التخلُّف عن صلاة الفجْر، فاحذر أن تكونَ ممَّن كرِه الله - عزَّ وجلَّ - انبعاثَهم فأصابك بالكسل والفُتور، والضعف والقعود.
ثم إني أنصحك ألاَّ تتأثَّر بكثرة القاعدين المتخلِّفين عن صلاة الفجر؛ روى الترمذي - وقال: حسن - عن حذيفة - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: ((لا تكونوا إمَّعة، تقولون: إنْ أحسن الناس أحسنَّا، وإن ظلموا ظلمْنا، ولكن وطِّنوا أنفسكم: إنْ أحسن الناس أن تُحسنوا، وإنْ أساؤوا فلا تظلموا))، فلا تقارن نفسك بالقاعدين؛ إنما قارن نفْسك بأصحاب رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم- قارن نفْسك بأنس بن مالك - رضي الله عنه - الذي كان يَبكي لضياع صلاةِ الفجْر مرَّة واحدة، قارن نفْسك بخالد والقعقاع ويوسف بن تاشفين وقطز - رضي الله عنهم أجمعين - ارفع مِن همتك، وعظِّم قُدوتك، وكبِّر أهدافك، وضخِّم طموحاتك.
ثم إني أنصحك أيضًا بعمل وِرد محاسبة بصلاة الفجْر فقط، وتعامل بجدية مع هذا الورد، وسجِّل فيه أيام الشَّهْر كلها، فإذا صليتَ الفجر في جماعة في يوم، فضعْ علامة صواب، وإن لم تصلِّ الفجر في جماعة، فضعْ علامة خطأ، ثم انظر آخر الشهر لتحاسبَ نفسك، فترى هل حياتك تسير بصورة صائبة، أم أنها تسير بصورة خاطئة؟! وتذكَّر أنَّ الأمر جد لا هزل فيه؛ يقول عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: "حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسَبوا، وزِنوا أعمالكم قبل أن تُوزن عليكم، وتزيَّنوا ليوم العَرْض الأكبر".
3- احذر الذنوب:
صلاة الفجر هديةٌ من الله - عزَّ وجلَّ - لا تُعطَى إلا للطائعين التائبين، أمَّا القلب الذي أُشرب حبَّ المعاصي، فكيف يستيقظ لصلاةِ الفجْر؟! القلب الذي غطَّتْه الذنوب، كيف يتأثَّر بحديث يتكلَّم عن فضلِ صلاة الفجر، أو كيف يسمع النداء: حيَّ على الصلاة، حيَّ على الفلاح، الصلاة خيرٌ من النوم؟! كيف لهذا القلب أن يخشع لذِكر الله وما نزَل من الحق؟ كيف؟! وكيف؟! وكيف؟!
روى الترمذي - وقال: حسن صحيح - وكذلك أحمد وابن ماجه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إنَّ المؤمِن إذا أذنب ذنبًا، كانتْ نُكتة سوداء في قلْبه، فإنْ تاب ونزَع واستغفر، صقل قلبُه، فإن زاد زادت، فذلك الرَّان الذي ذكَره الله في كتابه: ﴿كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ [المطففين: 14]))، فضياع صلاة الفجْر مصيبة، والله - عزَّ وجلَّ - يقول في كتابه: ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ﴾ [الشورى: 30]، ابحثْ بدقَّة في حياتك على ذنوبٍ ما زلت مصرًّا عليها، ذنوب في عينيك، أو ذنوب في لِسانك، أو ذنوب في علاقاتك بالناس، أو ذنوب في علاقاتك بالوالدين، أو ذنوب في القلْب؛ من كِبر أو عُجب، أو حسَد أو غضب، أو رياء أو غيره، ثم لا تستصغرنَّ ذنبًا من الذنوب، فقد يكون هذا الذنب هو السببَ في ضياع صلاة الفجر؛ روى الإمام أحمد عن عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: "إيَّاكم ومحقراتِ الذنوب، فإنهنَّ يجتمعن على الرجل حتى يهلكْنَه"، فأقلِع عن المعصية فورًا، واندمْ ندمًا حقيقيًّا على ما سبق مِن الذنوب، واعزم عزمًا أكيدًا على ألاَّ تعود إلى هذه الذنوب مطلقًا، وأرْجِع الحقوق إلى أصحابها، وافتَح صفحةً جديدة مع الله - عزَّ وجلَّ - فإنْ فعلت ذلك صادقًا فإنَّ الله يمنُّ عليك بهداياه وعطاياه، ومنها صلاة الفجر في جماعة، وذلك بكلِّ أفضالها وبكلِّ حسناتها، وأسأل اللهَ الهداية والتوبة لي ولكم ولعامَّة المسلمين.
4- الدعاء:
وهذه وسيلةٌ غاية في الأهمية، وحذارِ أن تستهين بها، قم بعمل ورد يومي من الدعاء الذي تدْعو فيه أن يمنَّ عليك بصلاة الفجْر في جماعة، وأكثِر مْن الدعاء، وأكثر مِن الإلحاح فيه، وتذكَّر وتدبَّر: من الذي يُوقظك في صلاة الفجْر؟! بل قل: مَن الذي يبعثك مِن نومك في صلاة الفجر؟! ذلك أنَّ النوم نوعٌ من الموت، واليقظة نوع مِن البعث! انظر ماذا يقول ربُّنا - سبحانه وتعالى - في كتابه العظيم: ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الزمر: 42]؛ لذلك علَّمنا الرسولُ - صلَّى الله عليه وسلَّم – دعاءً هامًّا عند النوم، ودعاءً هامًّا عند اليقظة، وهذا الدعاء يوضِّح معنى التشابه الشديد بين النوم والموت، وبين اليقظة والبعث؛ روى البخاري ومسلم عن حُذَيفة بن اليمان - رضي الله عنه - قال: كان النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- إذا أتى إلى فراشه قال: ((باسمِك أموتُ وأحيا))، وإذا قام قال: ((الحمدُ لله الذي أحيانَا بعدَما أماتنا وإليه النُّشور))، إذًا ندعو الله - عزَّ وجلَّ - الذي يُمسِك بأرواحنا أن يرسلها على صلاةِ الفجْر، أو قبل صلاة الفجر، ندعوه أن يزيِّن الإيمانَ في قلوبنا، ندعوه أن ييسِّر لنا الطاعة، ندعوه أن يُعيننا على الصلاة في أوقاتها وفي المسجد، ندعوه أن يثبتَ أقدامنا على طريقِه فلا نضِلُّ ولا نزِل، ولا نتبع الهوى أو الشيطان، ندْعوه أن يعظمَ في أعيننا شرعَه وأمرَه فلا نعصيه أو نخالفه، ندعوه باستمرار وبإلحاح وفي كلِّ وقت، وبالذات في أوقات الإجابة المعروفة، وليس مِن المعقول أن ندعوَ الله - عزَّ وجلَّ - وهو الكريم - أن يقرِّبنا منه، ثم هو يُبعدنا عنه! فالله - عزَّ وجلَّ - يفْرَح بعودة عبدِه إليه أشدَّ مِن فرح العبد بالنجاة مِن موت محقَّق؛ روى البخاري ومسلم - واللفظ لمسلم - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: ((واللهِ لَلَّهُ أفرحُ بتوبة عبدِه مِن أحدكم يجِد ضالَّتَه بالفلاة)).
5- الصحبة الصالحة:
وهذه أيضًا وسيلة غاية في الأهمية، فالطاعة على الإنسان الوحيد صعْبة، والشيطان على مَن سار بمفرده أقْدَر، اقرأ حديثَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي رواه الترمذي وأحمد عن عمرَ بن الخطاب - رضي الله عنه - وقال الترمذي: حسن صحيح: ((عليكم بالجماعة، وإيَّاكم والفُرقة؛ فإنَّ الشيطان مع الواحِد، وهو مِن الاثنين أبعد، ومَن أراد بحبوحة الجنة فليلزمِ الجماعة))، انظر أيضًا إلى حديثِ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في سنن الترمذي بسند صحيح، عن عبدالله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((يدُ الله مع الجماعة، ومَن شَذَّ شذَّ في النار)).
انظر مَن هُم أصحابك؟! هل إذا رأيتهم ذكَّروك بصلاة الفجر وبالقرآن، وبغضِّ البصر وببِر الوالدين؟ هل يذكِّرونك بالله - عزَّ وجلَّ - وبطاعته؟ أم أنهم غير هؤلاء؟ إنْ لم يكن لأصحابك من هَمٍّ غير اللهو واللعب وتضييع الأوقات والأعمار، والحياة التافهة الرخيصة، والذنوب والمعاصي، فأدْرِكْ نفسك وأدركهم، ادعهم إلى الخير، وإلى الطاعة، فإن أبَوْا عليك فانجُ بنفسك! وابحث عن غيرهم، عليك بالصُّحبة الصالحة؛ فدِينك هو دِين أصحابك؛ فقد روى الإمام أحمد عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((المرء على دِين خليله، فلينظرْ أحدكم مَن يُخالل)).
ويا حبَّذا لو كانتْ هذه الصحبة الصالحة يسكنون إلى جوارك، ويصلُّون في المسجد الذي تصلِّي فيه؛ بحيث إذا غِبت عنِ الصلاة في يوم مِن الأيام فإنَّهم يطمئنون عليك، ويسألون عنك، وكذلك تفْعل معهم؛ ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾ [المائدة: 2]، ورأينا كيف كان عمر بن الخطَّاب - رضي الله عنه - يطمئِنُّ على صاحبه سليمان بن أبي حثمة - رحمه الله - عندما غابَ عن الصلاة يومًا، هذه هي الصُّحبة الصالحة، وهذه هي الصحبة التي تسعدُ في الدنيا وتسعد في الآخِرة؛ ﴿الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ﴾ [الزخرف: 67]، أسأل الله - عزَّ وجلَّ - أن يمنَّ علينا بالصحبة الصالحة في الدنيا، وأن يجمعَنا مع أحبابنا يومَ القيامة إخوانًا على سُرر متقابلين.
6- تعلَّم كيف تنام:
وهل في النوم صعوبة حتى نحتاج أن نتعلَّمه؟! نعم يا إخواني ويا أخواتي! نحن نحتاج أن نتعلم الطريقة الصحيحة للنوم، وهي الطريقةُ التي أرادها الله - عزَّ وجلَّ - منَّا، والتي كان ينام بها رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- كيف يكون النوم بهذه الطريقة؟!
أولاً: النوم مبكرًا، وهذا ليس عيبًا مطلقًا! وليس شيئًا خاصًّا بالأطفال فقط كما يعتقد الكثيرون، إنَّما هي سُنة إلهيَّة، وكذلك سُنة نبويَّة، كما أنَّ الدراسات العلمية والعقلية تؤيِّد ذلك الأمر تمامًا، وهذا مِن إعجاز الإسلام! فقد خلق الله - عزَّ وجلَّ - الكون كله بحيث ينام ليلاً ويستيقظ نهارًا، حتى الحيوانات والأسماك والنبات، وكذلك الإنسان بالطبع؛ ولذلك فالله - عزَّ وجلَّ - جعَل الشمس في النهار تضيء للناس رغمًا عنهم حتى يستيقظوا، ثم هو يجعل الليلَ مظلمًا حتى يسهلَ على الناس النوم، وهذه مِن آيات الله الباهرات، ومع ذلك فالناس تخالِف! فيعتقد كثيرٌ من الناس - وبالذات الشباب - أنَّه كلما ازداد رجولةً، سهِر أكثر، وكلَّما تمدن وتحضر قَضَى الليل مستيقظًا ونهارَه نائمًا! يقول الله -تعالى- في كتابه الحكيم: ﴿اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ﴾ [غافر: 61].
ثم إنَّ الله - عزَّ وجلَّ - خلق الجسم، ووزَّع هرموناته، ونظَّم أجهزته، بحيث ينام بالليل، ويصحو بالنهار، فإذا خالف الإنسان لم تعملْ أجهزته بالصورة الأمثل، وقد أدْرك هذه الأمورَ أولئك الذين قاموا بعمل دِراسات علميَّة على الجسم وعلى الكون؛ لكي يعملوا لدُنياهم في أفضل ظروف، ومِن ثَمَّ أوصوا جميعًا بالنوم مبكرًا والاستيقاظ مبكرًا - في موعِد صلاة الفجْر - وقد وصلوا إلى هذه التوصيات والحقائق بعدَ قرون عديدة مِن تسطير هذه الحقائق في كتاب الله - عزَّ وجلَّ - وفي سُنة نبيه -صلى الله عليه وسلم- ولكن الذي يؤسَف له حقًّا أنهم هم الذين يطبقون ذلك، ونحن الذين تركْنا هذا الفضل!
ولو ذهبتَ إلى البلاد الغربية، لشاهدتَ أنهم ينامون مبكرًا جدًّا أكثر من تخيُّل كثير من المسلمين، فليس مستغربًا أن ينام المعظَم في وقت بين الثامنة والتاسِعة مساءً، وقلَّما تجد أحدًا يسير في الشارع بعدَ ذلك التوقيت! وليس هذا النوم المبكِّر نتيجة انعدام المغريات للسهَر عندهم، إنما هم يَملكون كلَّ مغريات السهر وزيادة، فعندهم التلفاز والفضائيات والكازينوهات، والمحال مفتوحة 24 ساعة، والملاهي والأصحاب والحفلات، كل ذلك عندهم، ولكن المصلحة الدنيويَّة البحتة اقتضتْ أن يناموا مبكرًا ويستيقظوا مبكرًا، ففعلوا ذلك، وهذا النظام ولا شكَّ انعكس على حياتهم، فمواعيدهم مضبوطة، وأعمالهم ناجِحة، ومصالحهم غير متعطِّلة، والكل يعمل في حيوية ونشاط.
وأنا لستُ أقول ذلك الكلام لأنَّني منبهر بهذا النظام الذي قد يعتقد البعضُ أنهم اخترعوه، أبدًا! أنا أقول هذا الكلام؛ لأنَّني في حسرة أنَّ هناك كنوزًا لا تقدَّر بثمن في كتاب الله - عزَّ وجلَّ - وفي سُنة الحبيب -صلى الله عليه وسلم- والناس لا تحفل بها، ولا تحرِص عليها.
إنَّ ما يفعله الأمريكيُّون واليابانيُّون والصينيُّون، والألمان والإنجليز، وغيرهم مِن أهل النشاط في الدنيا هو الإسلام يا إخواني وأخواتي، وليس اختراعًا حديثًا، أو نظامًا مبتدَعًا، والذي وصلوا إليه من تقدُّم مادي، وانضباط حياتي ليس لشيءٍ إلا لأنهم ساروا على سُنن الكون التي وضعَها الله - عزَّ وجلَّ - في كونه، والذي وعد - سبحانه وتعالى - أنَّ مَن أخذ بها وصل إلى مرادِه مؤمنًا كان أو فاسقًا أو كافرًا؛ ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ﴾ [هود: 15].
ثم فكِّر يا بن الإسلام، لماذا لا تنام مبكرًا؟! لماذا يقضي المسلمون ليلَهم في يقظة؟! طائفة ليستْ قليلة من السهرانين يقضون أوقاتهم أمامَ شاشات التلفاز، والجميع يعلم أنَّ تحصيل السيِّئات من وراء هذه السهرات أكبرُ بكثير من تحصيل الحسنات، فوق أنَّه وقت ضائع وجهد مهدر، وطائفة أخرى تقْضي الوقت في أعمالها، وهذه - وإن كانت تعمل عملاً جادًّا - إلا أنها ستضيع ساعات البَرَكة في الصباح؛ لأنها لن تقوَى على الاستيقاظ المبكِّر، وطائفة أخرى كبيرة من الطلاَّب والطالبات يسهرون للمذاكَرة، مع أنَّ علماء الطب قد أجمعوا على أنَّ تركيز المخ يكون أعلى بدرجات كبيرة في ساعات النهار الأولى، وسيكون أبركَ ألف مرَّة أن يذاكر الطالب بعدَ صلاة الفجر بدلاً مِن أن يذاكر بعدَ منتصف الليل، وطائفة أخرى أشدّ سوءًا من كل ما سبق، وهم بعض الشباب الذين يجلسون على المقاهي والكافتيريات إلى قبيل الفجر؛ يلعبون الألعاب المختلفة، ويشربون المشروبات المتعدِّدة، ويهدرون الأوقات الغالية، ومنهم مَن ينشغل في ألعاب الفيديو، ومنهم مَن ينغرس أمام شاشات الإنترنت، ومنهم مَن يلعب البلياردو، ومنهم من يقِف على نواصي الشوارع يدخِّنون السجائر وما هو أخطر، ومنهم مَن يرتكب ما هو أفظع وأشنع مِن كل ما سبق، وللأسف الشديد جُلُّهم من المسلمين ومِن عائلات مسلِمة، وقد تكون عائلات محترَمة وملتزمة، ولكن للأسف الشديد عميت الأبصار، وتاهتِ العقول، واسودَّت الأفئدة!
ولا أدري أين الآباء والأمهات؟! وأين المعلِّمون والمربون؟! وأين الدعاة والمصلحون؟! وأين ولاة الأمر ومسؤولو التربية والتوجيه والتعليم؟!
لماذا هذا الانقلاب البشِع في سنن الكون؟! ولماذا هذا الانقلاب البشِع في الأخلاق؟! أليستْ هناك وقفةٌ أمينة لمراجَعة أحوال الأمَّة؟! أليستْ هناك دراسة لتقييم وضْع الأمَّة الإسلامية في الأرْض، وأسباب انحدار مستواها، وانهيار شبابها؟! أليستْ هناك فرصةٌ للاصطلاح مع ربِّ العالمين - سبحانه وتعالى - والعودة لنظامه وشرْعه وقانونه وسننه؟!
أفيقوا أيُّها المسلمون، فلا نحن نجد لنا مكانًا بيْن الأمم الآن بهذا النِّظام المنقلب، ولا نحن سنجد مكانًا بيْن المؤمنين في الآخِرة بهذا التضييع لفروض الله - عزَّ وجلَّ - ومن المؤكَّد أنَّ السهر وحده ليس السببَ في كل مصائبنا، ولكنَّه أحد العوامل الناتجة - والمسببة في نفس الوقت - عن انقلاب الأوضاع، وضياع النِّظام، وخلل الفَهم.
الرسول -صلى الله عليه وسلم- المربي العظيم كان يعلِّمنا ويعلِّم الأمَّةَ بكاملها أن تنام مبكرًا قدرَ المستطاع؛ لكي تحسنَ استثمار الليل، وكذلك لتحسن استثمار النهار؛ روى البخاري ومسلم عن أبي برْزَةَ - رضي الله عنه - أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يَكْرَه النوم قبل العشاء - لكي لا تضيع عليك صلاة العشاء - وكان يكره الحديثَ بعدها، ولا يكون الحديث بعد العِشاء إلا لضرورة واضحة، ومصلحة متحقِّقة لا تتحقق فعلاً إلا في هذا التوقيت، ولا يكون هذا المكث بعدَ العشاء إلا لفترة محدودة.
إذًا الإسلام منظومة متكامِلة، ولا يُجدي ترقيع الإسلام برُقع من كل مكان، وحسب كل هوى، الإسلام حزمة واحدة، لو أخذته بكامله نفَعَك في الدنيا والآخرة، وإن انتقيتَ منه بحسب الهوى فلن ينفعَك لا في الدنيا ولا في الآخِرة؛ ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [الأنعام: 153].
ثانيًا: نصيحة هامَّة جدًّا بالنسبة لموضوع النوم: أن تنام بالهيئة التي كان ينام بها رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- وأن تذكُر الأذكار التي كان يواظب عليها قبل نومه، وسنن النوم موجودة في كلِّ كتب السنن والأحاديث، وهي كثيرة، ولا يتَّسع المجال هنا لذِكرها بكاملها، ولكن منها على كلِّ حال:
• النوم على وضوء.
• النوم على الجانب الأيمن.
• وكذلك منها أذكار النوم العظيمة والهامَّة، وأذكُر منها على سبيل المثال ما يلي: روى البخاري عن البراء بن عازب - رضي الله عنه - أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((إذا أتيتَ مضجعك فتوضَّأ وضوءك للصلاة، ثم اضطجع على شقِّك الأيمن، ثم قل: اللهم أسلمتُ وجهي إليك، وفوضتُ أمري إليك، وألجأت ظهري إليك؛ رغبةً ورهبةً إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، اللهمَّ آمنت بكتابك الذي أنزلتَ، وبنبيِّك الذي أرسلت، فإن متَّ مِن ليلتك فأنت على الفطرة، واجعلهنَّ آخر ما تتكلَّم به))، وروى البخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه - حديثًا طويلاً في قصة أبي هريرة - رضي الله عنه - مع الشطيان، وكيف أمْسك أبو هريرة - رضي الله عنه - به، فدلَّه الشيطان على وسيلة هامَّة للتغلب على الشياطين، وأقرَّها رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- وقال لأبي هريرة - رضي الله عنه -: ((صدَقَك وهو كذوب))، وكانت هذه الوسيلة هي أن يقرأ آية الكرسي مِن سورة البقرة قبل أن ينام، وقال له: ((لن يزالَ عليك مِن الله حافِظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح))، وهذا أمر في غاية الأهمية؛ فإنَّ الشيطان من أهم العوامل المعوقة عن صلاة الصبح، ويتمنَّى لو مكثت ليلك كله في سريرك، ولم تقم لقيامِ الليل ولا لصلاة الفجْر، فبقراءة آية الكرسي لن يقربك شيطان، وتسهل مهمَّة استيقاظك - إن شاء الله - وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: ((إذا أوى أحدُكم إلى فراشه، فلينفضْ فراشه بداخلة إزاره؛ فإنَّه لا يدري ما خلَفه عليه، ثم يقول: باسمك ربِّ وضعتُ جنبي، وبكَ أرفعه، إن أمسكتَ نفْسي فارحمها، وإنْ أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادَك الصالحين)).
ثالثًا: من النصائح الهامة في موضوع النوم أن تُعرِّف الناس قدر المستطاع بنظامك الجديد، وأنك تنام مبكرًا لتستيقظ مبكرًا، وبذلك فسيعلم الجميع أنَّك لا ترحِّب بزيارات ولا تليفونات ولا مواعيد ولا أعمال بعدَ الساعة التاسعة مثلاً أو بعد الساعة العاشرة مثلاً، وليس في هذا النظام ما تستحي منه، بل على العكس، الاستحياء يجب أن يكون من الطَّرَف الآخر الذي قلب فطرته، وقلب أوضاعه، وقلب الموازيين الصحيحة في الكون! وهذه أيضًا فرصةٌ للدعوة إلى الله، فأنت تستطيع أن تذكُر لمعارفك وأحبابك أنك تنام مبكرًا لتستيقظ مبكرًا، وأنك بذلك تؤدِّي سُنَّة الرسول -صلى الله عليه وسلم- كما أنَّك تفعل ذلك لتحافظَ على فرض صلاة الصبح، وهذا كله قد يدفع غيرك إلى تقليدك، ولك الأجْر - إن شاء الله - أسأل الله - عزَّ وجلَّ - أن يعلِّمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علَّمنا.
7- لا تأكل كثيرًا قبل النوم:
وهذه وسيلة شرعية وصحيَّة تمامًا، لا يختلف على أهميتها طبيبان! وهي وسيلة نافعةٌ للإنسان بصفة عامَّة، ونافعة له في موضوع الصلاة بصفة خاصَّة، والأصل ألاَّ يأكل الإنسان كثيرًا طوال فترات اليوم، وليس في الليل فقط؛ روى الترمذي - وقال: حسن صحيح - عن مقدام بن معدي كرب قال: سمعتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((ما ملأَ آدمي وعاء شرًّا من بطن، بحسب ابن آدم أكلات يُقمن صلبَه، فإنْ كان لا محالة: فثُلُث لطعامه، وثُلُث لشرابه، وثُلُث لنفَسه))، وهذه قاعدة طبيَّة رائعة.
وإذا كان هذا النظام سيطبَّق في نهار اليوم، فنحنُ في الليل أحوج إليه؛ فالأكل الكثير والسَّمين قبل النوم يؤذِي الجسد كثيرًا، ويؤدِّي إلى اضطرابات كثيرة في النوم وفي الصحَّة، كما أنَّه سيؤدي على المدى البعيد إلى زيادة الوزن، وبالتالي صعوبة الحرَكة، وكثرة الكسَل، وعدم القُدرة على الاستيقاظ في موعد الفجر؛ لذلك يقول أحد الصالحين: تأكل كثيرًا، تنام كثيرًا، يفوتك خيرٌ كثير! وهو بالطبع يقصد فواتَ قيام الليل، فما بالك بفوات فرض صلاة الصبح؟!
وبمناسبة الأكل: أذكُر أنه لا داعي لشُرب الشاي والقهوة ليلاً، وكذلك المياه الغازية؛ لأنَّ كل ذلك يحتوي على مادة "الكافيين"، والتي تؤدِّي إلى تنبيه العقل، وبالتالي إلى طولِ السهر، أو القلق أثناء النوم، كما أنَّهم جميعًا من مدرَّات البول، وتؤدِّي إلى كثرة الاستيقاظ ليلاً، وهذا قد يؤدِّي إلى الإرهاق الذي يصعُب معه القيام على موعد الفجر.
8- مذكرات فضائل الفجر:
وهذه وسيلةٌ مبتكَرة ولطيفة ومفيدة لمعظم المسلمين، حتى الذين يحافظون على الفجر منذُ سنين، وهذه الوسيلة عبارة عن إعداد عددٍ كبير من الأوراق الكرتونية التي ستَكتُب فوق كلِّ ورقة منها حديثًا مِن أحاديث الرسول -صلى الله عليه وسلم- المحفزة على صلاة الصبح، والموضِّحة للأجْر الكبير والفضل العظيم لهذه الصلاة الهامَّة، ثم ستضع هذه الأوراق في حجرتك وفي بيتك بحيث تذكِّرك بهذا الفضل فترفَع مِن حماستك، وتُعلي من همَّتك، وتقوِّي مِن عزيمتك على الاستيقاظ في صلاة الفجْر، وإليك بعضَ النصائح المفيدة الخاصة بهذه المذكرات:
أولاً: اكتب هذه النصائح على ورق له ألوان جذَّابة فوسفورية؛ حتى تلفت انتباهك إليها.
ثانيًا: اجعلْ حجمها كبيرًا نسبيًّا حتى تراها بسهولة، وأعتقِد أنَّ حجم 20 سم × 15 سم مثلاً يُعتبر حجمًا مناسبًا.
ثالثًا: اكتبْها بخط واضح وجميل، وإنْ لم تكن تستطيع ذلك خُذْها إلى أحد أصدقائك ليكتبَها لك، وهذا في نفْس الوقت تذكير لصديقك.
رابعًا: ضعْ هذا الورق في مكان ظاهِر في حجرتك.
خامسًا: لا تضعِ الورق كله مرة واحدة، بل ضع في كلِّ أسبوع ورقتين أو ثلاثة، ثم استبدل بهم الأسبوع الثاني أوراقًا أخرى، وهكذا؛ وذلك حتى لا تألف منظر الورق فتفقد تأثيره فيك، فإذا أعددتَ عشرين أو ثلاثين ورقة فإنَّك لا ترى الورقة إلا كل 10 أسابيع مرَّة، وبذلك ستقرأ الحديث، وكأنك تقرؤه للمرة الأولى، ولا شكَّ أنَّ هذا أفيد.
وهذه المذكرات سيكون لها أكثرُ مِن فائدة في حياتك، أذكُر منها:
أولاً: ستحقِّق لك هذه المذكرات فائدةَ التذكير المستمرّ بأجر صلاة الفجر، فلا تفتُر عن الاستعداد الكافي للاستيقاظ.
ثانيًا: حتى لو كنت مِن المحافظين على صلاة الفجر، فإنَّك أحيانًا تنسى الثواب الضخْم في هذه الصلاة، فيتحوَّل النزول إليها إلى عادةٍ خالية من الرُّوح والرغبة، ولكن أن تقرأ كلَّ يوم حديثًا عن فضلِها، فهذا يشعرك على الدوام بلذَّة هذه الطاعة الجميلة.
ثالثًا: كثرة رؤية الحديث ستؤدِّي إلى حِفظه، ولا يَخفى ما لحفظه مِن فوائد تعينك على تذكيرِ أصحابك ومعارفك بهذا الفضْل العميم.
رابعًا: قد يرَى هذا الورقَ أهلُك الذين يعيشون معك في البيت، فإذا كانوا لا يحافظون على صلاةِ الفجْر ذكَّرتْهم هذه الأحاديث بفضل هذه الصلاة، فلعلَّهم يحافظون عليها، وفي النهاية فأنت لك الأجْر بما يوازي عملَهم لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا، أسأل الله - عزَّ وجلَّ - أن يوفِّقنا إلى صالح القول والعمل.
9- الأجراس الثلاثة:
الجرس الأول - المنبه: وهذه وسيلةٌ رئيسية من وسائل الإيقاظ، وتذكَّر أنك لو ضبطت المنبه على موعد بعدَ صلاة الصبح، فهذا دليلٌ مادي على أنك متعمِّد أن تضيع فرض صلاة الصبح، وهذه علامات خطيرة جدًّا - أسأل الله العافية لي ولك - ولي بعض النصائح الخاصَّة بضبط المنبه:
1- اضبط المنبه على ميعاد الفجْر تمامًا، بحيث يدقُّ مع الأذان، فتسمع كلمات الآذان الجميلة: حيَّ على الصلاة، حي على الفلاح، الصلاة خيرٌ من النوم، الله أكبر، لا إله إلا الله، وهذه الكلمات - إن شاء الله - ستحرِّك القلبَ والرُّوح والجسد للقيام.
2- لا داعي للتفاؤل الزائد في البداية؛ بأن تعزمَ على قيام الليل في الثُّلُث الأخير من الليل قبلَ صلاة الفجْر؛ فإنَّك إن وضعت المنبه قبلَ الفجر ولو بربع ساعة فإنك إن لم تكن معتادًا على القيام، فإنَّك غالبًا ستغلق المنبه وتستريح - كما سيوسوس لك الشيطان - خمس دقائق فقط!
وأنا أقول لك: احذرْ - يا بن الإسلام - هذه أخطر خمس دقائق في حياتِك! فهذه هي الدقائق الخمس التي ستقود إلى ضياع فرْض مِن فروض الله - عزَّ وجلَّ - فلذلك نصيحتي أن تأخُذ نفسك بالتدرُّج، فحاول في البداية أن تلتزمَ بصلاة الفجر، فإذا اطمأننتَ على قدرتك على الاستيقاظ في هذا الموعد، وتعوَّدتَ على حلاوة صلاة الفجر، فإنَّك تستطيع في هذه اللحظة أن تقدِّم المنبه بضع دقائق لتصلِّيَ قيام الليل، ثم بعد ذلك قدِّمه أكثر وأكثر حسبما تسمح قدرتك وطاقتك، وتذكَّر ما رواه الإمام أحمد عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((إنَّ هذا الدين متين، فأوغلوا فيه برِفق)).
3- احرصْ على شراء منبِّه بصوت مزعج غير موسيقي؛ لحُرمة سماعها، وحتى يكون أقدرَ على إيقاظك.
4- مِن الممكن أن تشتري أكثرَ من منبه، وتضبط كلَّ منبه على وقت بينه وبيْن الوقت الآخر خمس دقائق مثلاً، بحيث تزيد مِن فُرص الاستيقاظ إن أنتَ أغلقت أحد المنبِّهات دون أن تدري.
5- إنْ كنت قد اعتدتَ صوت منبهك، فلا مانعَ مِن أن تتبادل منبهك مع صديقك؛ بحيث تسمع صوتًا غير مألوف؛ فيكون على إيقاظك أقدر.
6- لا تَضَع المنبِّه بالقرب مِن يدك، بل ضعه على مسافة بعيدة في الغرفة؛ بحيث تضطرُّ إلى القيام لإغلاقه، فهذا أدْعَى - إن شاء الله - ليقظتك.
الجرس الثاني: التليفون؛ اتَّفِقْ مع أحد أصحابك أو مع بعض أصحابك أنَّ من يستيقظ أولاً يوقظ الآخَر بالتليفون، وهكذا تتعاون أنتَ وأصحابك على هذا العمل النبيل، ومن النصائح الهامَّة في هذا المجال أن تجعلَ صديقك يفتح معك حوارًا في التليفون لمدَّة بسيطة حتى لا تنام مباشرةً بعد غلق التليفون، كما أنَّه من المفيد جدًّا أن تجعل من مسؤوليتك أن توقِظ غيرك بعد أن تستيقظ، فشعورك بالمسؤولية تُجاهَ غيرك سيدفعك إلى الإصرار على اليقظة - إنْ شاء الله.
الجرس الثالث: جرس الباب؛ اتَّفق مع أحدِ جيرانك في السَّكن أو في المنطقة أن يمرَّ عليك ويدقَّ عليك جرس الباب لإيقاظك، وهذه الوسيلة ناجحة جدًّا، ومن الصعب جدًّا أن تقوم وتفتح الباب ثم تعود مرَّةً أخرى للنوم، ولكن لا تنس أن تخبر أهلك بأنَّ هناك من سيطرق الباب عندَ الفجر حتى لا تسبِّب فزعًا في البيت، وأسأل الله تعالى لي ولك التوفيقَ لكل خير.
10- ادع غيرك:
ادعُ غيرك إلى صلاة الفجْر، هذه وسيلةٌ رائعة للاستيقاظ؛ إذ كيف يغفُل عن الخير مَن يُذكِّر الناس به؟! وما كان على الله - عزَّ وجلَّ - ليراك تُذكِّر عباده بفريضة ثم لا يُساعِدك هو - سبحانه وتعالى - على أدائها.
وتذكَّر أنَّ الحركة الدائمة في سبيل الله تضمن لك ارتباطًا دائمًا به، وابدأ أوَّل ما تبدأ بأهلك: أولادك وزوجتك، وإخوانك ووالديك، وإذا كنتَ تجِد صعوبة في صلاة الفجر، فلا داعيَ أن يمرَّ أحبابك بنفس التجرِبة الصعْبة، ولكن علِّمهم وحفِّزهم وساعدهم بكلِّ طاقتك، واعلم أنَّ هذا في حق أهلك ليس فضلاً منك، بل هو فرض عليك؛ روى البخاري ومسلم عن عبدالله بن عمر - رضي الله عنهما - أنَّه قال: سمعتُ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((كلُّكم راعٍ وكلُّكم مسؤول عن رعيَّتِه، الإمام راعٍ ومسؤول عن رعيَّته، والرجل راعٍ في أهله وهو مسؤول عن رعيَّته، والمرأة راعيةٌ في بيت زوجِها ومسؤولة عن رعيَّتها، والخادم راعٍ في مال سيِّده ومسؤول عن رعيته))، قال: وحسبتُ أن قد قال: ((والرجل راعٍ في مال أبيه ومسؤول عن رعيَّته، وكلُّكم راع ومسؤول عن رعيته)).
وادع أيضًا إلى هذا الخير كلَّ أحبابك وأصحابك، ومعارفك وزبائنك:
حدِّثْهم كلَّ يوم عن الفجر وأهميته، حدِّد معهم مواعيدَ في صلاة الفجر في المسجد إنْ كان ذلك ممكنًا، اكتب أحاديث عن صلاة الفجر وأعطِها لهم ليقرؤوها، أرسل إليهم بريدًا إلكترونيًّا (- e - mail -) على صندوقهم الإلكتروني عن طريقِ الإنترنت، اتَّصل بهم بالتليفون قبلَ صلاة الفجر، ضعْ لوحة في مكتبك أو محلك أو عيادتك أو شركتك تحضُّ على صلاة الفجر، أعطِهم شريطًا أو كتابًا يتحدَّث عن صلاة الفجر، ابتكر ما يناسب أصدقاءَك، ولكن لا تنسَهُم أبدًا.
وتذكَّر أنَّ كل مَن صلى الفجر بسببك سوف تأخذ مثل حسناته، ومثل حسنات أولئك الذين سيَدعوهم صاحبُك إلى الفجر، مثل: أولاده وأصحابه وأحبابه، وقد يظلُّ هذا الخير ينمو في ميزانِ حسناتك إلى يومِ القيامة، وهو فضلٌ هائل لا يستوعبه العقل؛ روى الإمام مسلم عن جرير بن عبدالله - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: ((مَن سَنَّ في الإسلام سُنَّةً حسنة فعُمِل بها بعدَه، كُتِب له مثل أجْر مَن عمل بها، ولا ينقص مِن أجورهم شيء، ومَن سن سُنة سيِّئة فعُمل بها بعده، كُتِب عليه مثل وِزر مَن عمل بها، ولا ينقص من أوزارهم شيء))، وأسأل الله تعالى لي ولك ولعامَّة المسلمين الهدايةَ الكاملة إلى طريق الله - عزَّ وجلَّ.
ملخص لوسائل المحافَظة على صلاة الفجر:
1- أخْلِص لله - عزَّ وجلَّ - وأعطِ له قدرَه.
2- اعقدِ العزم وحاسبْ نفسك يوميًّا.
3- تُبْ من الذنوب واعقد النية على ألاَّ تعود إليها.
4- أكثِرْ من الدعاء أن يرزقَك الله تعالى صلاةَ الفجر.
5- احرصْ على الصُّحْبة الصالحة.
6- درِّب نفسك على النوم بطريقة الرسول -صلى الله عليه وسلم-: النوم مبكرًا/ على وضوء/ على الجانب الأيمن/ أذكار النوم/ أعْلِم الناس بنظامك الجديد.
7- لا تأكل كثيرًا قبلَ النوم وتجنَّبِ الشاي والقهوة في الليل.
8- اكتُب مذكِّرات صلاة الفجْر وعلِّقها في حجرتك.
9- استعِن بالأجراس الثلاثة: المنبه/ التليفون/ الباب.
10- ادعُ غيرَك إلى صلاة الفجْر، وابدأ بأهلك.
كلمة أخيرة - صلاة الفجر وبناء الأمة:
صلاة الفجر في جماعة لرِجال المسلمين، وفي أوَّل وقتها لنِساء المسلمين قضية محورية في حياة الأمَّة المسلمة، وفي بناء الأمَّة المسلمة.
القضية ليستْ قضية ركعتين، وليستْ قضية زيادة في الحسنات، ولكن القضية أكْبَر مِن ذلك بكثير، صلاة الفجر في موعدها تُعيد تنظيمَ اليوم بكامله إلى الطريقة التي أرادها الله - عزَّ وجلَّ - وإلى الطريقة التي خَلَق الله الكون ليسيرَ عليها.
صلاة الفجر تربط الأمَّة بربِّها من أوَّل اليوم، فتبدأ الأمَّة الإسلامية يومَها بطاعة وذِكر، وصلاة ودعاء.
صلاة الفجر تجعَل الأمة - كل الأمة - في ذِمَّة الله طول اليوم، وفي حِفظ الله طول اليوم، وفي ضمان ورِعاية وحماية الله طولَ اليوم.
في صلاة الفجْر - يا بن الإسلام - تُقابل صفوة المجتمع! هل تعتقد أنَّ صفوة المجتمع هم أهلُ الجاه والسلطان والمال والشُّهرة؟! هل تعتقد أنَّ صفوة المجتمع هم الفنَّانون والفنانات، والمطربون واللاعبون واللاعبات؟! هل تعتقد أنَّ صفوة المجتمع هم أساتذة الجامِعة - وإنْ كانوا علمانيِّين - أو أصحاب الفِكر والثقافة - وإن كانوا فاسدين - أو عمالقة التِّجارة والصناعة - وإنْ كانوا منحرفين -؟!
أبدًا - يا بن الإسلام -: ليسوا هؤلاء هم صفوةَ المجتمع! لكن ابحثْ عن صفوة المجتمع الحقيقيِّين في أولئك الذين يحافظون على صلاة الفجْر في جماعة، ابحث عنهم في أولئك الذين نجَحوا في اختبار ربِّ العالمين، في مجتمع كثُر فيه الفساد تقابل الصالحين في صلاة الفجر، في مجتمع كثُر فيه النفاق تقابل الصادقين في صلاة الفجر، في مجتمع كثُرت فيه المعاصي والآثام والشرور تقابل مَن اشتاقت نفسه للقُرْب من الله -تعالى- واشتاقت نفْسه للخير، فترك دفْء الفراش وراحة الجسد وهموم الدنيا، وترك مواعيدَ البشر، واتَّجه إلى الله - عزَّ وجلَّ - ليزوره في بيته في الموعد الذي ضربه له، أيّ فضل، وأيّ مِنَّة من الله - عزَّ وجلَّ؟!
صلاة الفجر يا إخواني مقياسٌ لمستوى الأمَّة، ومقياس لقِيمة الأمَّة.. الأمة التي تفرِّط في الفجر في جماعة أُمَّةٌ لا تستحق القيام، بل تستحق الاستبدال، والأمَّة التي تحرِص على صلاة الفجْر في جماعة أمَّة اقترب ميعاد تمكينها في الأرْض! أحد الدعاة لا يُحافظ على صلاة الفجر في جماعة، ثم هو يتحدَّث في دروسه وخطبه عن التمكين في الأرْض؛ كيف؟!
إنَّ الله لا يُصلح عملَ المفسدين، وأيّ فساد أعظم مِن تضييع فرْض من فروض الله، وتضييع حقٍّ من حقوق الله، والإصرار على ذلك؟!
ما هي أوَّل صفات أولئك الذين يُمكَّنون في الأرض؟! اقرأ وتدبَّر في آيات الله - عزَّ وجلَّ -: ﴿وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ﴾ [الحج: 40 - 41]، أول صفات الممكَّنين في الأرض إقامةُ الصلاة، وإقامة الصلاة ليستْ نقرَ الصلاة كنقر الغراب، وفي غير موعدها، إنما إقامة الصلاة هي إقامتها بكلِّ شروطها، وفي أوَّل وقتها، وفي المكان الذي أمَر الله به، وبكلِّ خشوع وتضرُّع وابتهال وانكسار، الصلاة في هذه الصُّورة صلةٌ بين الله - عزَّ وجلَّ - وبين عباده، والصلاة بهذه الصورة أداةٌ مِن أدوات النصر.
الجميع يعرِف الكلمة التي قالها أحدُ المسؤولين اليهود من أنَّه لا يخاف من أمَّة الإسلام إلا في حالة واحدة، وهي أن يصلَ عدد مَن يصلُّون الفجر في جماعة إلى عدد الذين يصلون الجُمُعة في جماعة! وسواء قال هذه الكلمة مسؤولٌ يهودي أو لم يقلْها، فالجملة صحيحة، أمَّة الإسلام بغير صلاة الفجر في جماعة أمَّةٌ غير مرهوبة، لا يستقيم لأمَّة تطلب العزة والكرامة والنصرة أن تفرِّط في هذه الصلاة.
ملحوظة غريبة جدًّا وهامَّة جدَّا تلاحظها في سورة الإسراء - وهي السورة التي جاء فيها قولُ الله - عزَّ وجلَّ -: ﴿وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا﴾ [الإسراء: 78] - أنَّ هذه السورة هي التي تتحدَّث عن قرب ميعاد استبدال بني إسرائيل، وإحلال الأمَّة المسلمة في مكانها، وتسليم القيادة للأرض لهذه الأمَّة المسلمة الجديدة، فلا تسلَّم القيادةُ إلا إلى الذين يحافظون على صلاة الفجْر! بل تلاحظ ملحوظة أغرب، وهي أنَّه لم يأت طلبُ النصرة إلا بعدَ الحديث عن الفجر، اقرأ هذه الآيات بتدبر: ﴿أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا * وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا * وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا * وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا﴾ [الإسراء: 78 - 81]، آيات عجيبة، ودستور معجز، لا يأتي طلَب السلطان النصير مِن الله - عزَّ وجلَّ - ولا يأتي مجيء الحق وإزهاق الباطل وتمكين دِين الله - عزَّ وجلَّ - في الأرض إلا بعدَ إقامة الصلاة، وبالذات صلاة الفجْر؛ ﴿وَقُرْآنَ الْفَجْرِ﴾، وإلا بعدَ قيام الليل ﴿وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ﴾، هذه هي أهم أدوات النصر، كيف أعاد صلاحُ الدين الأيوبي - رحمه الله - بناء الأمَّة؟! إنَّه اهتم أول ما اهتم بتحفيزِ المسلمين على صلاتها في المسجد، وعلم أنَّ الجيش الذي يصلي في جماعة جيش يستطيع أن ينتصر على الصليبيِّين أو على غيرهم من أعداء الأمَّة، صلاح الدين - رحمه الله - لم يكن درويشًا يقِف في المسجد يذكُر الله ويصلي له ثم هو يترُك إعداد الجيوش والتهيئة للحرب! أبدًا لم يكن على هذه الشاكِلة؛ إنَّما أخَذ بكل الأسباب المادية من إعداد وتدريب، وتجهيز للسلاح ورسم للخُطَّة، وحشد للجنود، واختيار للتوقيت المناسِب، وعقد الأحلاف، وتوحيد الصفوف، أخذ بكلِّ الأسباب المادية، لكنَّه علم أنه لن ينتصر إلا إذا نصره الله - عزَّ وجلَّ - وكيف ينصره الله - عزَّ وجلَّ - إن لم يكن هو ينصر الله - عزَّ وجلَّ؟!
﴿وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ﴾ [الحج: 40]، وكيف ينصُر المسلمون اللهَ - عزَّ وجلَّ - وهم يُضيِّعون فرضًا من فروضه؟! كيف ينام المسلمون عن صلاة الفجر ثم يرفعون أيديَهم في الضحى أو في الظهر أو في المساء يطلبون النصرةَ والتمكين والعلوَّ في الأرض؟!
إنَّ هذا الدين - يا أبناء الإسلام - لن ينصره إلا مَن أحاطه من جميع جوانبه، الذي أدى عباداته، والتزم بعقائده، وتخلَّق بأخلاقه، واتبع قوانينه، ولم يتعد حدوده، ولم يترك صغيرة ولا كبيرة فيه إلا وحرص عليها، هذا هو الذي ينصر الدِّين، وهذا هو الذي ينصُره الله - عزَّ وجلَّ.
وسبحان الله! تغيير الله - عزَّ وجلَّ - لواقِع الأرض من الظلم إلى العدْل، ومن الفساد إلى الصلاح، يكون في هذا الوقت الشريف، وقت الصبح، فحذارِ - أيها المؤمن وأيتها المؤمنة - مِن النوم في هذا الوقت الشريف.
انظروا إلى إهلاكِ قوم لوط - عليه السلام - متى كان؟! قال تعالى: ﴿إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ﴾ [هود: 81]، ألم يكن الله - عزَّ وجلَّ - قادرًا على إهلاكهم في أيِّ وقت في النهار أو الليل، فلماذا اختار هذا التوقيت بالذات؟! إنَّ هذا هو وقت التغيير! إنه أول لحظات النور بعد الظلام، وكذلك هو أول لحظات العدْل بعد الظلم، وهو أوَّل لحظات الصلاح بعدَ الفساد.
كيف هلكت عاد قوم هود - عليه السلام؟! أرسل الله - عزَّ وجلَّ - عليهم ريحًا عاتية فأهلكتهم، فمتى تم ذلك؟! اقرأ بقلبك: ﴿تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ ﴾ [الأحقاف: 25]، جاءت الرِّيح المدمرة في وقت الصباح، وهلك الظالمون ونجَّى الله المؤمنين في هذا الوقت الشريف.
كيف هلكت ثمود قوم صالح - عليه السلام؟! اقرأ بقلبك: ﴿وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ * كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ﴾ [هود: 67 - 68].
حتى مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان التغيير في وقتِ الصَّباح، حتى إنه كان يقول: ((إنا إذا نزَلْنا بساحة قوم، فساء صباحُ المنذرين))، هذا هو وقت التغيير، ووقت الجهاد، ووقت التمكين.
ألم تروا أنَّ الله - عزَّ وجلَّ - عندما أقسم بالخيول التي تجاهِد في سبيلِ الله - عزَّ وجلَّ - أقسم بالخيول التي تُغِير على الأعداء في وقت الصباح؟! قال سبحانه: ﴿وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا * فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا * فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا﴾ [العاديات: 1 - 3].
وسيظل هذا الكلامُ صحيحًا إلى يومِ القيامة؛ لأنَّ هذا مِن سنن الله - عزَّ وجلَّ - إلى اللحظات الأخيرة في عمر الأرض سيكون التغييرُ والإصلاح والتمكين لأولئك الذين يحافظون على صلاةِ الفجْر في جماعة! نزول المسيح - عليه السلام - إلى الأرض، واستقرار العدْل في الأرض سيكون في صلاة الفجْر، الجيل الذي يستحقُّ استقبالَ المسيح - عليه السلام - جيل يحافظ على صلاةِ الفجْر، انظروا إلى كلامِ رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم- يصِف لنا مستقبلَ الأرض كما جاء في سُنن ابن ماجه عن أبي أُمامة الباهلي - رضي الله عنه - قال: ((إنه لم تكُن فتنةٌ في الأرض منذُ ذرأ الله ذرية آدم أعظم مِن فتنة الدجَّال، وإنَّ الله لم يبعث نبيًّا إلا حذَّر أمَّتَه الدجال، وأنا آخِر الأنبياء، وأنتم آخِر الأمم، وهو خارج فيكم لا محالة))، ثم بدأ يتحدَّث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن صفات الدجَّال، وعن الأحداث المصاحبة له، وعن يأجوج ومأجوج، ثم بدأ يتحدَّث عن اللحظات الأخيرة جدًّا في الأرض، فتحدَّث عن طائفة المؤمنين التي سينزل عليها المسيح - عليه السلام - ليقيمَ العدْل في الأرض مِن جديد بشريعة محمَّد -صلى الله عليه وسلم- فقال: ((وجُلُّهم ببيت المقدس - أي: جلُّ المؤمنين آنذاك ببيت المقدس - وإمامهم رجلٌ صالح، فبينما إمامُهم قد تقدَّم يُصلِّي بهم الصبح، إذ نزل عليهم عيسى ابن مريم)) الصبح! يا ألله! يا ألله! ليس هذا الكلام مِن قبيل المصادفة يا إخواني، هذه لحظاتُ تغيير وتمكين، وعزَّة ورفعة للمسلمين؛ يقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إذ نزَل عليهم عيسى ابن مريم الصبح، فرجَع ذلك الإمام ينكص يمشي القَهْقَرى ليتقدَّم عيسى يصلِّي بالناس، فيضع عيسى يدَه بين كتفيه، ثم يقول له: تقدَّم فصلِّ، فإنَّها لك أُقيمت، فيصلي بهم إمامُهم))، يا سبحان الله!! أبعْدَ هذا هناك مَن ينام وصلاة الفجر تُقام في هذا المسجد؟!
صلاة الفجر يا إخواني هديةٌ مِن الله - عزَّ وجلَّ - لجيل النصر، مَن أراد إرادة حقيقيَّة أن يغير من حال المسلمين، بل وأن يغيِّر مِن حال الأرْض، فليحرِصْ على صلاة في المسجد، وبالذات على صلاة الفجْر، ومَن نكث فإنَّما ينكُث على نفسه، واعلموا جيدًا أنَّ الله - عزَّ وجلَّ - لا يحتاج إلينا، بل نحن المحتاجون إليه، لن تنفعَه - سبحانه وتعالى - طاعتُنا، ولن تضرَّه معصيتُنا، إنَّما هي أعمالنا يحصيها علينا، فمَن وجَد خيرًا فليحمده - سبحانه وتعالى - ومَن وجد غير ذلك فلا يلومنَّ إلا نفْسه، أسأل الله - عزَّ وجلَّ - أن نكون ممَّن يستمعون القولَ فيتَّبعون أحسَنه.
أحلم بيومٍ:
• أحلم بيوم أجِد فيه مساجدَ المسلمين ملأى بالمسلمين.
• أحلم بيوم أجد فيه الأمة تنتظر أذان الفجر بشوق، يرددونه وراء المؤذن بتدبر، ويسعون إلى بيوت الله بلهفة.. إنهم في لقاء مع الله!
• أحلم بيوم أجِد فيه المسلمَ الذي تضيع منه صلاةُ فجر واحدة حزينًا ومهمومًا؛ لأنه قد ضيع شيئًا عظيمًا، أغْلَى من الدنيا وما فيها.
• أحلم بيوم أجِد فيه ولاةَ أمور المسلمين في كلِّ بلاد المسلمين من أقصاها إلى أقصاها يؤمُّون المسلمين في المساجِد في صلاة الفجْر وغيرها.
• أحلم بيوم أجِد فيه دِين الله - عزَّ وجلَّ - هو دين الأرْض، وشرع الله - عزَّ وجلَّ - هو الشَّرْع الذي يحتكم إليه العالَمون، وأنَّ زمان الظلم ولَّى، وجاء زمان العدْل والقسط والنور والحق.
• أحلم بكلِّ ذلك، وأنا أعلم أنَّ أي واقع نعيشه الآن كان حلمًا قبلَ ذلك، وأنا أعلم أيضًا أنَّ أحلام اليوم هي واقِع الغد - إن شاء الله.
أنا أحلم بمستقبلٍ أكاد أراه رأيَ العين! ليس تنجيمًا ولا كشفًا للغيب، ولكن تصديقًا بوعْدِ الله - عزَّ وجلَّ - والله لا يُخلف الميعاد، لقد وعدَنا ربُّنا في كتابه وعدًا، وهو لا محالةَ واقع؛ قال - سبحانه وتعالى -: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ [النور: 55]، ثم الآية التالية مباشرة: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ [النور: 56]، هذا هو طريقُ الاستخلاف والتمكين والأمْن.
أسأل الله - عزَّ وجلَّ - أن ييسِّر لأمة الإسلام أمرَ رُشد، يُعَزُّ فيه أهل طاعته، ويُذلُّ فيه أهل معصيته، ويؤمَر فيه بالمعروف، ويُنهى فيه عن المنكر، إنه ولي ذلك والقادِر عليه.