توحيد الألوهية - (25) تصورات الأمم الضالة للمعبود

منذ 2018-01-02

الإنسان لا يدرك ضرورة هذه الرسالة، وضرورة هذا الانفكاك عن الضلالات التي كانت البشرية تائهةً في ظلماتها، وضرورة الاستقرار على يقين واضح في أمر العقيدة - حتى يطَّلع على ضخامة ذلك الركام، وحتى يرتاد ذلك التِّيه؛ من العقائد والتصورات، والفلسفات والأساطير، والأفكار والأوهام، والشعائر والتقاليد، والأوضاع والأحوال..

(25) تصورات الأمم الضالة للمعبود

لا أريد من وراء هذا البحث في هذا الموضوع أن أؤرخ للجانب المنحرف في العقيدة، فذلك ليس في مُكْنَة الباحث؛ لكثرة أنواع الانحراف، وما الفائدة من التأريخ للجانب المظلم والكفْرُ ملَّة واحدة؟! إنما أريد من وراء ذلك أن ندرك شيئًا مما وقعتْ فيه الأمم؛ كي نَعلم القيمة العظيمة التي تمتاز بها العقيدة الإسلامية.

 

إن الذين يُدركون الباطل ويعرفونه هم أقدر على معرفة الحق إذا اعتنقوه، وإن الذين يتَّبعون الإسلام ولا يعلمون الجانب المقابل له - وهو الباطل - يُخشى عليهم من الانزلاق في طرق الباطل، وصدق عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - إذ يقول: "توشك أن تُنقض عُرى الإسلام عروةً عروةً إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية".

 

ولا شك أن الذي يعرف ظلام الليل أقْدَرُ على معرفة ضوء النهار، والصحَّة تاج على رؤوس الأصحاء لا يراه إلا المَرضى.

 

وقد أدرك هذه الحقيقةَ الأستاذ: سيد قطب - رحمه الله - حيث يقول: "الإنسان لا يدرك ضرورة هذه الرسالة، وضرورة هذا الانفكاك عن الضلالات التي كانت البشرية تائهةً في ظلماتها، وضرورة الاستقرار على يقين واضح في أمر العقيدة - حتى يطَّلع على ضخامة ذلك الركام، وحتى يرتاد ذلك التِّيه؛ من العقائد والتصورات، والفلسفات والأساطير، والأفكار والأوهام، والشعائر والتقاليد، والأوضاع والأحوال، التي جاء الإسلام فوجدها تَرين على الضمير البشري في كل مكان؛ حتى يدرك حقيقة البلبلة والتخليط والتعقيد التي كانت تتخبَّط فيها بقايا العقائد السماوية التي دخلها التحريف والتأويل والإضافات البشرية إلى المصادر الإلهية، والتي التبست بالفلسفات والوثنيات والأساطير".

 

وأكتفي بثلاثة نماذج:

واحد منها يمثِّل عقيدة دولة من الدول التي يعدُّها الناس متمدِّنةً في القديم، والثاني: انحراف أهل ديانة سماوية عن الحق، والثالث: الوثنية العربية قبل البعثة.

أولاً: الربُّ عند اليونان:

يعدُّ الباحثون الرومان من الأمم المتحضِّرة في القديم، فلننظر إلى عقيدة هذه الأمة الضالة، يزعمون أن "جوبيتر" هو ربُّ الأرباب عندهم، وكانت صورته عندهم أقرب إلى الشيطان منها إلى صورة الأرباب المنزَّهين؛ فقد كان حقودًا لدودًا مشغولاً بشهوات الطعام والغرام، لا يُبالي من شؤون الأرباب والمخلوقات إلا ما يُعينه على حفظ سلطانه والتمادي في طغيانه، وكان يغضب على "أسقولاب" إله الطب؛ لأنه يداوي المرضى، فيَحرمه جباية الضريبة على أرواح الموتى الذين يَنتقلون مِن ظهْر الأرض إلى باطن الهاوية.

 

ويزعمون أنه كان يغضب على "برومثيوس" إله المعرفة والصناعة؛ لأنه يعلِّم الإنسان أن يستخدم النار في الصناعة، وأن يتَّخذ من المعرفة قوةً تُضارع قوة الأرباب، وقد حكَم عليه بالعقاب الدائم، فلم يقنعْ بموته ولا بإقصائه عن حظيرة الآلهة، بل تفنَّن في اختراع ألوان العذاب له، فقيَّده إلى جبل سحيق، وأرسل عليه جوارح الطير تَنهش كبده طوال النهار، حتى إذا جنَّ الليل عادت سليمةً في بدنه؛ لتعود الجوارح إلى نهْشِها بعد مطلع الشمس، ولا يَزال هكذا دواليك في العذاب الدائم مردودَ الشفاعة مرفوض الدعاء.

 

ومما تخيَّله الشاعر الوثني "هزيود" عن علَّة غضب الإله على "برومثيوس": أنه قسَم له نصيبه من الطعام في وليمة الأرباب، فأكثر فيه من العظام، وأقلَّ فيه من اللحوم والشحوم، فاعتقد "جوبيتر" أنه تعالى عليه بمعرفته وحكمته وفطنتِه؛ لأنه اشتهر بين الآلهة بمعرفة وافرة وفِطنة نافذة لم يشتهر بها الإله الكبير.

 

وقد اجتهد "هزيود" الشاعر الفيلسوف قصارى اجتهاده في تنزيه "جوبيتر" وتصويره للناس في صورة من القداسة والعظمة، تُناسب صورة الإله المعبود بعد ارتقاء العبادة شيئًا ما في ديانة اليونان الأقدمين.

 

ومع ذلك، فإن الباحثين الرومان يتحدَّثون عن "جوبيتر" أنه كان يُخادع زوجته "هيرة"، ويرسل إله الغمام لمُداراة الشمس في مطلعها؛ حذرًا من هبوب زوجته الغَيْرى عليه مع مطلع النهار، ومفاجأته بين عشيقاته على عرش "الأولمب".

 

وحدَث مرةً أنها فاجأته وهو يُقبِّل ساقِيه "جانيميد" راعي الضأن الجميل الذي لمحه في الخلاء فاختطفه وصعِد به إلى السماء، فلم يتنصَّل "جوبيتر" من تهمة الشغف بساقِيه، ومضى يُسوِّغ مسلكه لزوجته بما جهلته من لذَّة الجمع بين رحيق الكأس ورحيق الشفاه.

 

فهذا نموذج للعقيدة الشركية الضالة، صنعتها الخرافة والوهم، فغدتْ أساطيرَ، إن الآلهة عند الرومان آلهة مُتعدِّدة تتصارع وتَتقاتل، ويعذِّب بعضها بعضًا، وهي كالبشر تأكل، وتشرب، وتتزوج، ويَخون الإله زوجته، ويلوط ويُبرِّر خطأه، فكيف يكون أثر هذه العقيدة في نفوس معتنقيها؟! وكيف يكون أثرها في سلوكهم أفرادًا ومجتمعات؟! وأي قِيَم تُقرُّها هذه العقيدة الشركية الضالة المُنحرفة؟!

 

الإله عند اليهود:

حفلت ديانة بني إسرائيل - اليهودية - بالتصورات الوثنية وباللُّوثة القومية على السواء، فبنو إسرائيل - وهو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم - عليهم السلام - جاءتهم رسلهم - وفي أولهم إسرائيل - بالتوحيد الخالص الذي علَّمهم إياه أبوهم إبراهيم، ثم جاءهم نبيُّهم الأكبر موسى - عليه السلام - بدعوة التوحيد أيضًا مع الشريعة المُوسَوية المبنيَّة على أساسه، ولكنهم انحرفوا على مدى الزمن، وهبطوا في تصوراتهم إلى مستوى الوثنيات، وأثبتوا في كتُبهم المقدسة وفي صلب التوراة أساطيرَ وتصورات عن الله -تعالى- لا ترتفع عن أحط التصورات الوثنية للإغريق وغيرهم من الوثنيين، الذين لم يتلقَّوا رسالة سماوية، ولا كان لهم من عند الله كتاب.

 

ولقد كانت عقيدة التوحيد التي أنزلها الله على إبراهيم عقيدةً خالصةً ناصعةً شاملةً مُتكاملةً، واجه بها الوثنية مُواجَهةً حاسمةً كما صوَّرها القرآن الكريم، ووصى بها إبراهيم بنيه كما وصى بها يعقوبُ بنيه قبل أن يموت: ﴿ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ * قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ * قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ.. ﴾ [الشعراء: 69 - 73] الآيات، ﴿ وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ.. ﴾ [البقرة: 130] الآيات، ومن هذا التوحيد الخالص، وهذه العقيدة الناصعة، وهذا الاعتقاد في الآخِرة، انتكس الأحفاد، وظلُّوا في انتكاساتهم حتى جاءهم موسى - عليه السلام - بعقيدة التوحيد والتنزيه من جديد، ولكنهم لم يستقيموا عليها، بل انحرفوا عنها.

 

وقد بدأ انحرافهم وموسى - عليه السلام - بين أظهرهم، من ذلك عبادتُهم للعجل الذي صنعه لهم السامريُّ من الذهب الذي حملوه معهم من حُليِّ النساء المصريات: ﴿ قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ * فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ ﴾ [طه: 87، 88].

 

وقبل ذلك طلبوا من موسى - عليه السلام - أن يقيم لهم صنمًا يعبدونه: ﴿ وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ﴾ [الأعراف: 138].

 

وحكى القرآن الكثير عن انحرافهم وسوء تصوُّرهم لله -تعالى- وشِركهم ووثنيتهم، فنسبوا لله الولد: ﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ ﴾ [التوبة: 30]، ونعَتوه - سبحانه - بالبُخل والفقر: ﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ ﴾ [المائدة: 64]، ﴿ لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ﴾ [آل عمران: 181].

 

ومِن لُوثة القومية واعتقادهم أن إلههم قوميٌّ، لا يُحاسبهم بقانون الأخلاق إلا في سلوك بعضهم مع بعض، أما الغرباء - غير اليهود - فهو لا يحاسبهم على سلوك مَعيب بهم.

 

من هذه اللوثة كان قولهم الذي حكاه القرآن الكريم: ﴿ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ [آل عمران: 75]، وقد تضمَّنت كتبهم المحرَّفة أوصافًا لإلههم لا ترتفع كثيرًا على أوصاف الإغريق في وثنيتهم لآلهتهم.

 

جاء في الإصحاح الثالث من سفر التكوين:

"بعد ارتكاب آدم لخطيئة الأكل من الشجرة - وهي كما يقول كتاب الإصحاح شجرةُ معرفة للخير والشر - وسَمِعا صوت الرب الإله ماشيًا في الجنة عند هبوب ريح النهار، فاختبأ آدم وامرأته من وجه الرب الإله في وسط الجنة، فنادى الرب الإله آدم، وقال له: "أين أنت؟"، فقال: سمعتُ صوتك في الجنة، فخشيتُك؛ لأني عريان، فاختبأت، فقال: مَن أعلمك أنَّك عريان؟ هل أكلتَ من الشجرة التي أوصَيتُك ألا تأكل منها؟ وقال الرب الإله: "هو ذا الإنسان صار كواحد منَّا عارفًا الخير والشر، والآن لعله يمدُّ يده، ويأخذ من شجرة الحياة أيضًا، أو يأكل ويحيا إلى الأبد، فأخرجه الرب الإله من جنة عدن، ليعمل في الأرض التي أخذ منها، فطرد الإنسان وأقام شرقيَّ جنَّة عدن الكروبيم، ولهيب سيف متقلِّب لحراسة شجرة الحياة".

 

واضح ما في هذه النقول من وصف الله -تعالى- بالجهل، وأنه لا يدري أين آدم حتى عرَّفه هو، وأنه كالبشر يتمشى كما يتمشى البشر، وأن السبب في إخراج آدم من الجنة ليس هو معصية آدم لربه - كما وضَّح القرآن - وإنما هو خوف الله -تعالى- من أن يأكل الإنسان من شجرة الحياة فيكون من الخالدين، وأن الله لم يعرِّف الإنسان الخير والشر، وإنما علم ذلك عندما أكل من الشجرة، وكل ذلك كذب وافتراء على الله - تبارك وتعالى.

 

ويفهم من كلامهم أن حياة الله التي لا آخِر لها إنما كانت بسبب أكله من شجرة الحياة - سبحانه عما يقولون.

 

وكما نسبوا إلى الله -تعالى- الجهل، نسبوا إليه الحزن والندم على فعل فعله، فهم يذكرون أنه حَزِن على خَلْق الإنسان لَمَّا كثر شرُّه وفساده في عهد نوح: "ورأى الرب أن شرَّ الإنسان قد كثُر في الأرض، وأن كل تصور أفكار قلبِه إنما هو شرير كل يوم، فحزن الرب أنه عمل الإنسان في الأرض، وتأسَّف في قلبه، فقال الرب: أمحو عن وجه الأرض الإنسان الذي خلقتُه، الإنسان مع بهائم ودبابات وطيور السماء؛ لأني حزنْت أني عملتهم، وأما نوح فوجد نعمة في عَيني الرب".

 

واستمع إلى هذه الخرافة التي وردت في الإصحاح الحادي عشر من سِفر التكوين: "بعدما عمرَت الأرض بذرية نوح، وكانت كلها لسانًا واحدًا ولغةً واحدةً، وحدث في ارتحالهم شرقًا أنهم وجدوا نعمةً في أرض شنعار، وسكنوا هناك، وقال بعضهم لبعض: هلمَّ نصنع لَبِنًا ونشويه شيئًا، فكان لهم اللبن مكان الحجر، وكان لهم الحجر مكان الطين، وقالوا: هلمَّ نبني لأنفسنا مدينةً وبُرجًا رأسه في السماء، ونصنع اسمًا؛ لئلا نتبدَّد على وجه كل الأرض.

 

فنزل الرب لينظر المدينة والبرج اللذين كان بَنُو آدم يبنونهما، وقال الرب: هو ذا شعب واحد، ولسان واحد لجميعهم، وهذا ابتداؤهم بالعمل، والآن لا يمتنع عليهم كل ما ينوون أن يعملوه، هلمَّ ننزل ونُبلبل هناك لسانهم؛ حتى لا يسمع بعضهم لسان بعض، فبدَّدهم الرب من هناك على وجه كل الأرض، فكفوا عن بنيان المدينة؛ لذلك دُعي اسمها بابل؛ لأن الرب هناك بلبل لسان كل الأرض، ومن هناك بدَّدهم الرب على وجه الأرض".

 

أيُّ خرافة هذه التي تُزوِّر الحقيقة، وتكاد تمحو معالمها؟! وأيُّ إله هذا الذي ترسمه هذه الخرافة؟! هذا الإله الذي يخاف البشر، ويخاف تكتُّلهم واجتماعهم، فإذا به يحاربهم قبل أن تجتمع كلمتهم، ويصلُب عودهم، ويُشتِّتهم في أقطار الأرض بعد أن يُبلبل ألسنتهم.

 

ونسَب اليهودُ إلى الله فعْلَ الشر، كما نسبوا إليه الندم على ما فعل، ففي سفر صموئيل الثاني، الإصحاح الرابع والعشرين: "فقد جعل الربُّ وباءً في إسرائيل من الصباح إلى الميعاد، فمات من الشعب - مِن دان إلى بئر السبع - سبعون ألف رجل، وبسط الملاك يده على أورشليم ليُهلكها، فندم الرب على الشر، فقال للملاك المُهلك الشعب: كفى الآن، رويدك".

 

فإذا تركنا ما حكاه القرآن عن ضلالة اليهود في وصفهم لربهم، وما في التوراة من تحريف وزيف، ونظرنا في "التلمود"، وهو الكتاب الذي سطره علماء اليهود وحاخاماتهم، وله من الأهمية في نظرهم فوق ما للتوراة، لو نظرنا فيه لهالَنا ذلك الضلال الذي وقع فيه اليهود، لا في العقيدة فحسب، بل في شتى مناحي الشريعة.

 

وسأكتفي بأن أنقل من كتاب "الكنز المرصود في قواعد التلمود" ما يتعلق بالعزة الإلهية، فمن ذلك أن الله عندهم يحتاج إلى أن يقرأ ويتعلم، كما أنه يَهزل ويلعب - سبحانه وتعالى - فقد ورد في تلمودهم: "أن النهار اثنتا عشرة ساعة: في الثلاث الأولى منها يجلس ويُطالع الشريعة، وفي الثلاث الثانية يَحكم، وفي الثلاث الثالثة يُطعم العالَم، وفي الثلاث الأخيرة يجلس ويلعب مع الحوتِ ملك الأسماك".

 

واسمع ما هو أدهى وأعظم: "أنه لا شغل لله غير تعلُّمه مع الملائكة"، وليس للملائكة فقط، بل مع "أسمودية" ملك الشياطين في مدرسة السماء.

 

وما الحوت الذي يلعب معه الرب؟! إنه حوت كبير جدًّا يمكن أن يدخل في حلقه سمكة طولها ثلاثمائة فرسخ دون أن تُضايقه، وبما أن له هذا الحجم فإن الله خاف إذا ما تناسَل أن يُهلك الدنيا؛ ولذا فإنه رأى أن يَحرمه زوجته؛ لأنه لو لم يفعل ذلك لامتلأت الدنيا وحوشًا أهلكتْ من فيها؛ ولذلك حبس الله الذكَر بقوته الإلهية، وقتل الأنثى وملَّحها وأعدَّها لطعام المؤمنين في الفردوس.

 

ويُضيفون إلى هذه الخرافات التي أصبحت عقائد لهم أن: "الله لم يلعَبْ مع الحوت بعد هدم الهيكل، ولم يَمِلْ بعد هدْم الهيكل إلى الرقص مع حواء بعدما زيَّنها بملابسها، وعقَص لها شَعرها".

 

تبًّا لهم وبُعدًا! إنهم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل، قول الأمم الضالة المشركة، فإلههم حسب تصورهم لا يختلف عن البشر، يُفكِّر تفكيرهم، ويفعل فعلهم، يلعب، يرقص، يحزن، ويبكي على ماذا؟! على هدم هيكل اليهود الذي بناه لهم سليمان!

 

والهيكل يرمز إلى مجْد اليهود، وقد جعل الله من ذلك التاريخ الذي هُدم فيه الهيكل إلى اليوم يَبكي ثلاث أرباع الليل، ويزأر كالأسد قائلا: "تبًّا لي؛ لأني صرَّحت بخَراب بيتي، وإحراق الهيكل، ونهْب أولادي".

 

بل يغالون في التحريف والتدجيل، فيقولون: "إن الله تضاءلت ذاته - سبحانه وتعالى عما يقولون علوًّا عظيمًا - بسبب حزنه على خراب الهيكل: "وشغَل الله مساحة أربع سموات بعد أن كان ملْء السموات والأرض في جميع الأزمان".

 

ويَصِفون العلي المجيد بأنه يُحقِّر نفسه - سبحانه - عندما يمجِّده عباده - ويقصدون بهم اليهود طبعًا -: "ولما يَسمع الباري -تعالى- تمجيد الناس له، يَطرق رأسه ويقول: ما أبعد المَلِك الذي يُمدح ويبجَّل مع استحقاقه لذلك، ولكن لا يستحق شيئًا من المدح الأب الذي يترك أولاده في الشقاء"، قاتَلهم الله أنَّى يؤفكون!

 

ومما افترَوه على رب العزة - جل وتقدَّس عما يقولون – أنه يلطم ويبكي وتتساقط دموعه، كل ذلك على شقاء اليهود، وما حلَّ بهم: "يتندَّم الله على تركه اليهود في حالة التعاسة، حتى إنه يلطم ويبكي كل يوم، فتسقط من عينيه دمعتان في البحر، فيُسْمَع دويُّهما من بَدء العالم إلى أقصاه وتضطرب المياه، وترتجف الأرض في أغلب الأحيان، فتحصل الزلازل".

 

وينسبون إليه الخطأ والاعتراف بالذنب، والتكفير عن الذنب، فيزعمون - كذبًا وزورًا - أن القمر خطَّأ الله - سبحانه - وقال للربِّ - سبحانه عما يقولون -: "أخطأتَ حيث خلقتني أصغر من الشمس، فأذعن الله لذلك، واعترف بخطئه، وقال: اذبحوا لي ذبيحةً أكفِّر بها عن ذنبي؛ لأني خلقْت القمر أصغر من الشمس"، ولا أدري كيف ساغ أن يزعموا أن الله يُكفِّر، وتُرى لمن يُكفِّر؟! إن العقول التي تفتري هذا الافتراء سخيفة سخافةً كبيرةً، وإن العقول التي تؤمن بهذه السخافة وتُصدِّقها لا تقلُّ عنها سخافة، والحمد لله الذي هدانا للحق والنور المبين.

 

ومن جملة سخافاتهم التي هي عقائد عندهم: "أن الله يستولي عليه الطيش، كما حصل ذلك منه يوم غضب على بني إسرائيل، وحلف بحرمانهم من الحياة الأبدية، ولكنه نَدِم على ذلك بعد ذهاب الطيش منه، ولم ينفِّذ ذلك اليمين؛ لأنه فعْلٌ ضد العدالة"!

 

ولم يقفِ الأمر عند كونه يحلف، ويحلف جهلاً وطيشًا، ويَظلم ويُكفِّر، بل زعموا أنه يحتاج إلى التكفير عن يمينه، فقد جاء في تلمودهم: "إن الله إذا حلف يمينًا غير قانونية، احتاج إلى من يُحلِّله من يمينه، وقد سمع أحد العقلاء من الإسرائيلين أن الله -تعالى- يقول: مَن يُحلِّلني من اليمين التي أقسمت بها؟ ولما علم باقي الحاخامات أنه لم يحلله منها اعتبروه حمارًا؛ لأنه لم يحلل الله من يمينه، ولذلك نصبوا مَلِكًا بين السماء والأرض اسمه "مي" لتحليل الله من أيمانه ونُذُره عند اللزوم"، وهذا قليل من كثير مما سطرته أيدي اليهود في تلمودهم.

 

هذه نماذج من العقيدة اليهودية المحرَّفة المزيَّفة التي تُشكِّل قاعدة دينهم، وهي لا تقل في انحطاطها عن أساطير الإغريق والوثنيين في آلهتهم.

محمود العشري

كاتب له عدد من الكتابات في المواقع الإسلامية

  • 4
  • 1
  • 10,517
المقال السابق
(24) حكم اللاهين من أطفال المسلمين وأطفال المشركين
المقال التالي
(26) انحراف العرب عن التوحيد

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً