حال الدنيا وأهلها

منذ 2018-01-10

فلابد أن يكتسب  العبد المؤمن الناصح لنفسه من هذه الدنيا الباقيات الصالحات كأن يتزود منها تقوى الله وفعل الخيرات و جميع أصناف العبادات والطاعات وترك المنكرات.

حال الدنيا وأهلها

بسم الله الرحمن الرحيم.. الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وعلى آله وصحبه ومن تبعه بإحسانٍ إلى يوم الدين.. أما بعد فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

 

وبعد هذه التحية الطيبة المباركة أود أن أبين لكم – أيها الإخوة المسلمون – أن المال ظل زائل وأن الله سبحانه استخلفنا به ليبتليا لا ليكرمنا به كما قال تعالى: {فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ}[الفجر: 15-16 ]..

 

إذا كما ترى الله سبحانه أنكر أن يكون ميزان الكرامة والإهانة منوطاً بحصول المال أو بفقده  وبيَّن أن كلا الحالتين مبتلى فيه الإنسان أي ممتحن هل هو إلى طريق الكرامة والسعادة يسلك في الحالتين أم إلى طريق الإهانة والشقاوة يسلك.في كلتيهما.

 

وقد قال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء: 35 ]..

وقال تعالى:{وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الأعراف: 168]..

 

وفي صحيح مسلم رحمه الله " عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله له فيه خير وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن إن أصابته سراء شكر فكانت خيرا له وإن أصابته ضراء صبر فكانت خيراً له "أو كما قال.

 

إذًا علمت أن ما جاء في الحديث الشريف هو الموقف الصحيح للخروج من هذه الفتنة المشار إليها في الآية في سورة الأنبياء.

 

وهذا ايضا هو الزهد الصحيح والورع الأكيد للزَّاهدين بأن يتشبث المؤمن بالشكر في حالات السراء قولا واعتقادا وعملا بدون بطر ولا طغيان ويتشبث بالصبر في حالات الضراء قولا واعتقادا وعملا بدون جزعِ ولا شكاية لأحد.

 

وقد قال صلى الله عليه وسلم: «صلاح أوّل هذه الأُمَّة بالزهد واليقين ويهلك آخرها بالبخل واليقين». حسن رواه الإمام أحمد في الزهد  وحسنه الإمام الألباتي في صحيح الجامع الصغير.

 

وقال عبد الغني المقدسي أبو قدامة في كتابه مختصر منهاج القاصدين: " ومن أبوابه: حب المال، ومتى تمكن من القلب أفسده، وحمله على طلب المال من غير وجهه، وأخرجه إلى البخل، وخوفه الفقر، فمنع الحقوق اللازمة.

 

ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يحذر أن يتمكن حب المال في قلوب أصحابه فكان يأمرهم أن يتخلصوا منه ويتصدقوا  به.

 

فهذا عمر رضي الله عنه استشار النبي صلى الله عليه وسلم في مال  عبَّر عنه بقوله: أصبت أَرضًا لم أصب مَالا أحب إِلَيّ وَلَا أنفس عِنْدِي مِنْهَا. فقال  له لنبي صلى الله عليه وسلم: «إِن شِئْت تَصَدَّقت بهَا»  ونص الحديث كما لي..

 

عَن ابْن عمر من رِوَايَة نَافِع أَيْضا عَنهُ، عَن عمر أَنه قَالَ: أصبت أَرضًا من أَرض خَيْبَر، فَأتيت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقلت: أصبت أَرضًا لم أصب مَالا أحب إِلَيّ وَلَا أنفس عِنْدِي مِنْهَا. فَقَالَ: «إِن شِئْت تَصَدَّقت بهَا» فَتصدق بهَا عمر على أَلا تبَاع، وَلَا توهب، فِي الْفُقَرَاء وَذَوي الْقُرْبَى وَفِي الرّقاب والضيف وَابْن السَّبِيل، وَلَا جنَاح على من وَليهَا أَن يَأْكُل بِالْمَعْرُوفِ، غير مُتَمَوّل مَالا، وَيطْعم. رواه مسلم رحمه الله.

 

فالمهم اعلم – أيها العبد المؤمن - أن الإنسان بين حبين أو بين إرادتين  إرادة الدنيا وإرادة الآخرة كما قال تعالى {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ} [آل عمران: 152 ]

 

فمن حاول جمعهما  فهو امرؤ مخادع نفسه, إذ لايمكن ذلك أبداَ, بل لابد أن يميل المرء إلى جانبٍ واحد.

 

فإن أراد الله له خيراً فسيزهد من هذه الأموال وحبها لينفقها في سبيل الله  وسيختار إرادة الآخرة وحبها من إرادة الدنيا وفتنها لا محالة.

 

وإن أراد الله له شراً فسيمنع الحقوق الواجبة من هذه الأموال وسيبخل و سيفتتن وسيأتيه الموت وهو مشغول بأمانيه أنه سيفعل الخير في زمن كذا وكذا  والعياذ بالله إن كان فيه خيرا أصلاً كما قال تعالى {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ[المنافقون – 10-11]   

 

وطبعاً , هذا الموضوع واسعد جداً وقد أفردته في رسالة أسميتها " ذم حب الدنيا مع الاعرض عن الآخرة:

واعلم أن سورة الكهف قد جاء فيها أربع قصص كتوجيهات وإرشادات للمجتمع المسلم فيها تأثير عظيم للتغيير نخو الأفضل فيما ينفع مجتمعات المسلمين لينهضوا وليرتفعوا بهذه المقومات الأربع..

 

فالمقوم الأول:

هو أن يقوم المسلمون ولو كانوا مستضعفين للتحرك نحو إنكار المنكر على حسب استطاعتهم وإلا تحوَّلوا عنهم بالهجرة عنهم لئلا يفسد دينهم أو يفتتنوا  حتى يكون لهم موضع هجرة أو مركز ينطلقون منه كما اتخذ مثل ذلك المركز رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة. قال تعالى {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِي[النحل: 110 ]

 

فلما قال الله {إن ربك من بعدها لغفور رحيم} عُلِم من ذلك أنهم قبل أن يهاجروا ويجاهدوا ويصبروا كانوا في ذنب كما أفاده شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في بعض بحوثه وقد صرح الله في الآية أنهم فُتِنوا ومن وُقِي الفتنة وسلِم منها فقد أفلح,  والله المستعان, ففي الحديث « السعيد من وُقِي الفتن»..        

 

والمقوم الثاني:

إحسان استخدام المال لمن رزِقه الله به مع الشكر لله في هذه النعمة, فالمال قوام للناس وعصب حياتهم ومصدر قوتهم وعزتهم وشرفهم.

 

قال تعالى {كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ[الكهف: 69].

 

فهذا كما ترى إهدار لقوة الأموال والأولاد لما لا يجدي شيئا وإهدار لقوة العلم بالخوض في الشبهات والأباطيل وما لا فائدة من وراءه.

 

وإنما الواجب على المسلمين أن يستخدموا هذه الأموال والأولاد لاعداد العدة وللدفاع عن بيضة الإسلام فما فائدة إهداره باستمتاعه بما لا قيمة له من الألعاب  مع ضياع الأمة.؟!

 

ألم يجعل الله لهؤلاء الضائعين الهالكين بأيدي أعداء الله وأعداء الإسلام  أو الهالين بالفقر والمجاعة أو القحط والجفاف حقوق من أموالنا سوف نُسأل عنه؟!

 

فبالله إذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كما رواه الطبراني في الكبير عن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم به».

 

ورواه الحاكم في المستدرك عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليس المؤمن الذي يشبع وجاره جائع إلى جنبه.

 

وصححه الذهبي في التلخيص، والألباني في صحيح الأدب المفرد.  " فكيف بهلاك أمة من الناس بالجوع أو في حالة عدم حصول ما يدافعون به عن أنفسهم على مرئى ومسمع؟!

 

فمن ترك مسلما مجروح ينزف دمه وهو قادر على إسعافه أليس كقتله؟ ومن أتاه مسافر يقتله الظمأ  اضطر إلى بيته ثم منع منه الماء أليس ذلك كقتله؟

 

وقد ذكر رسول الله صلى الله ليه وسلم فضائل عظيمة في الجنة لمن قام بمثل هذه الأمور الضرورية

 

فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «أيما مسلم كسا مسلماً ثوباً على عري كساه الله من خضر الجنة، وأيما مسلم أطعم مسلماً على جوع أطعمه الله من ثمار الجنة، وأيما مسلم سقى مسلماً على ظمأ سقاه الله من الرحيق المختوم».رواه أبو داود رحمه الله.

 

والمقوِّم الثالث:

هو العلم، ولا ريب أن العلم هو أساس النجاح لكل الأعمال الأخروية والدنوية، وهو النور الذي يستضاء به في حوالك الأمور ومدلهماتها.

 

لذلك وجَّهنا الله في هذه السورة أن نقتدي بنبي من الأنبياء في طلب العلم، إذ فوق كل ذي علم عليم, وما ذاك إلا لنقتدي به ولنجتهد في تعلم العلم ونصبر في المشقة التي تحصل عند تحصيله إذ لا ينال العلم براحة الجسم.

 

والمقوم الرابع:

إحسان إدارة الحكومات  بالصلاح والإصلاح والإحسان ورعاية العدالة والأمانات وهو ما سأتناوله إن شاء الله تعالى في قصة ذي القرنين دروس وعبر في قصة صاحب الجنتين.

 

الدرس الأول:

إفتتان صاحب الجنتين بجنتيه حتى جعلته مشركاً إذ جعل استعانته وتوكله واعتماده وثقته ورجاءه وخوفه وحب وبغضه في هذه الأموال والنفر فقط أي القوة الظاهرة عنده.

 

وهكذا يكون المفتون بالأموال عبداً له لكونه لا يرى جلب الخير ولا دفع الشر إلا من خلالها.. ولذلك نبَّه عليه صاحب الجنتين بأن يقول{مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ}..

 

الدرس الثاني:

ظن المغرور ظنا كاذباً خاطئاً  بأن الجنتين لا تبيد أبداً حتى وإن مات فإنه سيجد خيرا منهما.

 

فأحيط بثمره فأهلك الله جنتيه حتى صارت صعيدا زلقا فاصبح غير منصور لكونه تعلَّق بولاية باطله كبيوت العنكبوت أما ولاية الحق لله فهي خير ثوابا وخير أملا مع ما فيها من السعادة الدنيوية العاجلة من حصول رحمات الله وبركاته للعبد المؤمن الولي الموحد.

 

بل سيزيد الله الذين اهتدوا هدى  والباقيات الصالحات التي اكتسبوها في دنياهم هي خير لهم وخيرا مرداً كما قال {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا} [مريم:  76 ]

 

وانظر التشابه وادرس ما سبق هذه الآية وما لحقها تعلم أن الكفار في كل الأزما ن على مقياس واحد بل وعلى أقوال واحدة {أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ}[والداريات: 53] أي جمعهم الطغيان.

 

الدرس الثالث:

قد ختم الله في قصة صاحب الجنتين  قوله تعالى {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا} [الكهف: 46 ].

 

إذ التمتع والافتتان بزينة المال والبنون وزهرة هذه الحياة الدنيا ونضرتها الخلابة  إنما هي كأمور خيالية لا حقيقة لها تجعل المرء أعمى فيها لا يتذكر ولا يتيقظ ولا يتأثَّر ليتغير وليغيِّر غيره نحو دين الحق.

 

فهذه فتنة خطيرة جدا – أعني فتنة حب المال - أعمت عوام الناس وكثيراً من خواص الناس إلا من رحمه الله وعافاه.

 

وإنما الحياة الحقيقية التي تستحق أن يُحتَفل بها وأن يُتشاغل بها ليلا ونهارا هي الدار الآخرة.

 

إذاً فلابد أن يكتسب  العبد المؤمن الناصح لنفسه من هذه الدنيا الباقيات الصالحات كأن يتزود منها تقوى الله وفعل الخيرات و جميع أصناف العبادات والطاعات وترك المنكرات.

 

فهذا هو المؤمن الموفَّق حتى ولو كانت الأموال في يده فإنها لا تتمكن في قلبه ولا يتأثر بها.

 

وهذا  أيضاً هو الزهد الصحيح لا التمسكن البارد وادَّعاء الفقر والتفاخر به رياءاً والله المستعان.

 

والله سبحانه وتعالى أعلم.

 

بقلم/ أبو عبد الله عبد الفتاح آدم المقدشي.

  • 1
  • 1
  • 17,229

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً