التواضع لله ملك الملوك

منذ 2018-07-05

إن التواضع هو الإعتراف بالعز والكبرياء لله سبحانه، وعدم منازعة الله ملك الملوك في هذه الصفات، ويستوجب التواضع لله تعالى الانقياد للحق وقبوله، وعدم التقليل والتحقير من شأن الناس.

بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
قال الله تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى:1] . قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى: "يأمر الله تعالى بتسبيحه المتضمن لذكره وعبادته، والخضوع لجلاله، والاستكانة لعظمته، وأن يكون تسبيحا، يليق بعظمة الله تعالى، بأن تذكر أسماؤه الحسنى العالية على كل اسم بمعناها الحسن العظيم" انتهى من (تفسير السعدي). قال ابن القيم رحمه الله تعالى: "أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ الْعَلِيُّ الْأَعْلَى ، وَنَطَقَ بِذَلِكَ الْقُرْآنُ ، فالله عَزَّ وَجَلَّ له الْعُلُوُّ مِنْ سَائِرِ وُجُوهِ الْعُلُوِّ ، لِأَنَّ الْعُلُوَّ صِفَةُ مَدْحٍ ، فَثَبَتَ أَنَّ لِلَّهِ تَعَالَى عُلُوَّ الذَّاتِ وَعُلُوَّ الصِّفَاتِ وَعُلُوَّ الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ " انتهى من (اجتماع الجيوش الإسلامية :2/ 182). وقال الله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ ۚ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الحشر:23 ].والمسلم الذي يتدبر الآيات الكريمة يتواضع لعظمة الله تعالى ويعلم أن العز والجلال والكبرياء لله ملك الملوك ويتجنب جريمة الكبر والفخر واحتقار الناس.
وفي السنة النبوية بيان لعاقبة من ينازع الله عز وجل في العز والكبرياء فعن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله تعالى عنهما قالا : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:  «قال الله تعالى : العز إزاره والكبرياء رداؤه فمن ينازعني عذبته» . (مسلم : 2620). قال  الإمام النووي رحمه الله تعالى :"هكذا هو في جميع النسخ ، فالضمير في "ازاره" ، "ورداؤه" : يعود إلى الله تعالى للعلم به ، وفيه محذوف تقديره:  " قال الله تعالى: ومن ينازعني ذلك أعذبه."  ومعنى "ينازعني" : يتخلق بذلك فيصير في معنى المشارك .وهذا وعيد شديد في الكبر مصرح بتحريمه .( شرح مسلم : 16 / 173 )

معنى التواضع
ورد في موسوعة الأخلاق بموقع الدرر السنية تعريف التواضع لغة واصطلاحا كما يلي:
معنى التَّواضُع لغةً:
"التواضع التذلل، يُقَال: وضَعَ فُلانٌ نَفْسَهُ وضْعًا، ووُضُوعًا بالضَّم، وَضَعَةً، بالفَتْحِ: أي أذلَّها. وتَوَاضَعَ الرَّجُلُ: إذا تَذَلَّلَ، وقيل: ذَلَّ وتَخاشَعَ" (العين للفراهيدي:2/196), (تاج العروس لمرتضى الزبيدي:22/343).

معنى التواضع اصطلاحا:
التَّواضُع هو: (ترك التَّرؤس، وإظهار الخمول، وكراهية التَّعظيم، والزِّيادة في الإكرام، وأن يتجنَّب الإنسان المباهاة بما فيه مِن الفضائل، والمفاخرة بالجاه والمال، وأن يتحرَّز مِن الإعجاب والكِبْر) (تهذيب الأخلاق للجاحظ: ص 25).

إن التواضع هو الإعتراف بالعز والكبرياء لله سبحانه، وعدم منازعة الله ملك الملوك في هذه الصفات، ويستوجب التواضع لله تعالى الانقياد للحق وقبوله، وعدم التقليل والتحقير من شأن الناس.
.
جريمة الكبر في الشريعة الإسلامية
لقد بين الله سبحانه جريمة الكبر والفخر في كثير من الآيات في القرآن الكريم وكفي بهذه الجريمة عاقبة أنها سبب في الابتعاد عن محبة الله الودود. قال الله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ۖ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا} [النساء : 36] ، وقال الله تعالى: {لِّكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [الحديد : 23] . وقال الله سبحانه : {وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [لقمان : 18]، قال الإمام ابن عاشور رحمه الله تعالى: "انتقل لقمان بابنه إلى الآداب في معاملة الناس فنهاه عن احتقار الناس وعن التفخر عليهم ، وهذا يقتضي أمره بإظهار مساواته مع الناس وعدّ نفسه كواحد منهم" انتهى من (تفسير ابن عاشور).   وقال الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى:  {ولا تمش في الأرض مرحا}   أي : جذلا متكبرا جبارا عنيدا ، لا تفعل ذلك يبغضك الله تعالى" انتهى من (تفسير ابن كثير). وقال الله تعالى: {ولا تمش في الأرض مرحا إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا} [ الإسراء : 37 ]. قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى: " يقول الله تعالى: {وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا} أي: كبرا وتيها وبطرا متكبرا على الحق ومتعاظما على الخلق. {إِنَّكَ}   في فعلك ذلك {لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا}   في تكبرك بل تكون حقيرا عند الله تعالى ومحتقرا عند الخلق مبغوضا ممقوتا قد اكتسبت أشر الأخلاق واكتسيت أرذلها من غير إدراك لبعض ما تروم" انتهى من (تفسير السعدي).

ومن جميل تدبر القرآن الكريم معرفة الآداب التي يتحلى بها الرسل والأنبياء والملائكة عليهم الصلاة والسلام . وأعظم هذه الآداب الإقرار بفضل الله الكريم والاعتراف بنعمه والخضوع لعظمته. قال الله تعالى: {قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا ۖ إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [البقرة:32]، وفي الآية الكريمة بين الله تعالى خلق الملائكة الكرام عليهم الصلاة والسلام وأدبهم مع الله تعالى في الإقرار بفضل الله سبحانه وعلمه وحكمته. وهذه الآية منهج لكل عباد الله الكريم لتحقيق تمام الأدب والخضوع لله ملك الملوك. فمن عرف الله تعالى رب العالمين تواضع لله العظيم واعترف بأن كل فضل ونعمة من الله تعالى.

إن جريمة الكبر من صفات إبليس والكبر أورثه الخلود في جهنم  قال الله تعالى: {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ ۖ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} [الأعراف:12]، قال الإمام البغوي رحمه الله تعالى: " قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : أول من قاس إبليس فأخطأ القياس ، فمن قاس الدين بشيء من رأيه قرنه الله تعالى مع إبليس . وقال ابن سيرين رحمه الله تعالى: ما عبدت الشمس إلا بالقياس. وقال محمد بن جرير رحمه الله تعالى: ظن الخبيث أن النار خير من الطين ولم يعلم أن الفضل لمن جعل الله تعالى له الفضل ، وقد فضل الله تعالى الطين على النار من وجوه منها : أن من جوهر الطين الرزانة والوقار والحلم والصبر وهو الداعي لنبي الله آدم عليه الصلاة والسلام بعد السعادة التي سبقت له إلى التوبة والتواضع والتضرع فأورثه الاجتباء والتوبة والهداية ، ومن جوهر النار الخفة والطيش والحدة والارتفاع وهو الداعي لإبليس بعد الشقاوة التي سبقت له إلى الاستكبار والإصرار ، فأورثه اللعنة والشقاوة ، ولأن الطين سبب جمع الأشياء والنار سبب تفرقها ، ولأن التراب سبب الحياة ، فإن حياة الأشجار والنبات به ، والنار سبب الهلاك ." انتهى بتصرف يسيرمن (تفسير البغوي). والكبر من صفات أهل البغي والظلم فهذا قارون يبين الله عز وجل جريمة كبره وفخره وعدم الاعتراف بفضل الله تعالى. قال الله تعالى: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِي ۚ أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا ۚ وَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} [القصص:78].

تعريف الكبر
والمسلم الذي يعتبر من مواعظ القرآن الكريم يحرص تمام الحرص على تجنب الكبر وملازمة التواضع. وفي سبيل ذلك يجب تربية النفس وقهر حبها للعلو على خلق الله تعالى ويجب تهذيبها للانقياد للحق والرضا به.  ولقد حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم من عاقبة الكبر ولو كان مقدار هذا الكبر مثقال ذرة بأن العاقبة تكون الحرمان من دخول الجنة.  فعن عبدالله بن مسعود رضِي اللهُ عنه  قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يدخُلُ النَّارَ مَن كان في قلبِه مثقالُ ذرَّةٍ مِن إيمانٍ ولا يدخُلُ الجنَّةَ مَن كان في قلبِه مثقالُ ذرَّةٍ مِن كِبْرٍ» فقال الرَّجلُ: يا رسولَ اللهِ إنَّ الرَّجلَ لَيُحِبُّ أنْ يكونَ ثوبُه حسَنًا ونعلُه حسَنةً فقال: «إنَّ اللهَ جميلٌ يُحِبُّ الجمالَ، الكِبْرُ مَن بطِر الحقَّ وغمِص النَّاسَ» (صحيح ابن حبان:5466). قال ابن القيم رحمه الله تعالى: (فسر النَّبي صلى الله عليه وسلم الكِبْر بضده فقال صلى الله عليه وسلم : الكِبْر بطر الحق وغمص الناس. فبطر الحق: رده، وجحده، وغمص الناس: احتقارهم، وازدراؤهم. ومتى احتقرهم وازدراهم: دفع حقوقهم وجحدها واستهان بها) انتهى من (مدارج السالكين: 2/318).

ومن أبرز مظاهر الكبر رد النصيحة والتكبر على صاحب النصيحة والإعراض عن قبول الحق بالسخرية من الناصح. وهذا شر يجب الابتعاد عنه فقبول الحق من التواضع لله تعالى. عن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ أحَبَّ الكلامِ إلى اللهِ أن يقول العبدُ : سبحانك اللهمَّ و بحمدِك ، و تبارك اسمُك ، و تعالَى جَدُّك ، و لا إله غيرُك . و إنَّ أبغضَ الكلامِ إلى الله أن يقول الرجلُ للرجلِ : اتَّقِ اللهَ ، فيقول عليك بنفسِك» صححه الألباني في (السلسلة الصحيحة:2598). وفي سبيل التحلي بالتواضع يجب تمام البعد عن السخرية من خلق الله تعالى سواء أكان ذلك بالقول أو بالتلميح أو بمجرد الرضا بالقلب فيما يوسوس به الشيطان في التقليل من شأن الآخرين. قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الحجرات:12] .وقال الله تعالى : {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} [الهمزة:1]، قال الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى: " الهماز : بالقول ، واللماز : بالفعل . يعني : يزدري بالناس وينتقص بهم " انتهى من (تفسير ابن كثير).
وفي بستان السيرة النبوية أمثال على تواضع الرسول صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فعن البراء بن عازب رضِي اللهُ تعالى عنه قال: " كان النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَنقُلُ معَنا الترابَ يومَ الأحزابِ ، ولقد رأَيتُه وارى الترابُ بَياضَ بطنِه ، يقولُ : «لولا أنت ما اهتَدَيْنا نحن ، ولا تصَدَّقْنا ولا صَلَّينا ، فأَنزِلَنْ سَكينةً علينا ، إنَّ الأُلَى - وربما قال : - المَلا - قد بَغَوا علينا ، إذا أرادوا فِتنةً أبَينا أبَينا» . يَرفَعُ بها صوتَه .. أخرجه البخاري (4106) واللفظ له، ومسلم (1803). وورد في الموسوعة الحديثية شرح الحديث الشريف: " لَمَّا حاصَرتِ الأحزابُ- مِن قُريشٍ ومَن تحالَفَ معهم مِنَ العربِ- النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ والمسلمينَ قرَّرَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ حَفْرَ خندقٍ حولَ المدينةِ بعدَ أنِ استشارَ الصحابةَ، فأشارَ عليه سلمانُ الفارسيُّ رضِي اللهُ عنه بحَفْرِه وأخْبَرَه أنَّ قومَه (فارس) كانوا يَصنَعون ذلك، وكان صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يُباشِرُ الحفْرَ ويَحمِلُ التُّرابَ بِيدِه الشَّريفةِ مع المسلمينَ؛ تواضعًا منه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وترغيبًا لهم في الأجرِ حتَّى وارى التُّرابُ جِلدَ بطنِه، أي: غطَّاه، وكان صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كثيرَ الشَّعَرِ، وكان يَرتِجزُ، أي: يقولُ بعضَ أبياتِ الشِّعرِ في أثناءِ عملِه، وكانت لعبدِ اللهِ بنِ رواحةَ، وهي:
اللَّهمَّ لولا أنتَ ما اهتدَيْنا ** ولا تَصدَّقنْا ولا صَلَّيْنا
فأَنزِلَنْ سَكينةً علَيْنا ** وثبِّتِ الأقدامَ إنْ لاقَيْنا
أي: إنْ لاقَيْنا أعداءَكَ مِنَ الكفَّار وغيرِهم.
إنَّ الأُلى قد بَغَوْا عَلَينا *** وإنْ أَرادوا فتنةً أبيْنَا
أي: إنَّ الَّذين ظَلمونا واعتدَوا علينا يُريدونَ أنْ يَفتنُونَا عَن دِينِنا وإنَّنا نأبَى ذلك، ثُمَّ يمدُّ صوتَه بآخِرها أي بقوله: أبَيْنا. " انتهى.

وجاء في سيرة عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى أنه قيل له: "جَزَاكَ اللَّهُ عَنِ الإِسْلامِ خَيْرًا ، قَالَ : " لا ، بَلْ جَزَى اللَّهُ الإِسْلامَ عَنِّي خَيْرًا" رواه أبو نعيم في (حلية الأولياء :5/ 331). وجاء مثله أيضا عن الإمام أحمد رحمه الله تعالى، فقد أورد القاضي أبو يعلى رحمه الله تعالى في طبقات الحنابلة (1/ 298) في ترجمة محمد بن زهير ، وهو أحد تلامذة الإمام أحمد رحمهم الله تعالى جميعا ، وورد ما نصه:  قال: أتيت أبا عبد الله في شيء أسأله عنه، فأتاه رجل فسأله عن شيء أو كلَّمه في شيء، فقال له: جزاك الله عن الإسلام خيراً، فغضب أبو عبد الله، وقال له: من أنا؛ حتى يجزيني الله عن الإسلام خيراً؟ بل جزى الله الإسلام عني خيراً" انتهى. وتعليقا على هذه المواقف قال الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد رحمه الله تعالى: " وهذا من هضم النفس - رحم الله تعالى الإمام أحمد ." انتهى من (معجم المناهي اللفظية: ص612).

قال محمد بن الحسين بن علي رضي الله تعالى عنهم أجمعين: "ما دخل قلب امرئ شيء من الكِبْر قط، إلا نقص من عقله بقدر ما دخل من ذلك أو كثر" (إحياء علوم الدين: 3/339). وقال الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "الكبر ينافي حقيقة العبوديَّة" (العبودية:ص 99). فما أجملها من حكم تغذي عقل اللبيب فيتعلم ويعلم أن الكبر صفة ذميمة لا تليق بمن يسعى لتحقيق العبودية لله تعالى ولا تنبغي لكل من يسعى للفوز بالجنة التي وعدها الله عز وجل لعباده الصالحين المتواضعين.

قال عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهم: "رَجُلٌ لا يُكَافِيهِ عَنِّي إِلا اللَّهُ تعالى: وهو رَجُلٌ عَرَضَتْ لَهُ حَاجَةٌ فَظَلَّ سَاهِرًا مُتَفَكِّرًا بِمَنْ يُنْزِلُ حَاجَتَهُ ، فَأَصْبَحَ فَرَآنِي مَوْضِعًا لِحَاجَتِهِ ، فَهَذَا لا يُكَافِيهِ عَنِّي إِلا اللَّهُ سُبْحَانَهُ "  انتهى بتصرف يسير(المجالسة وجواهر العلم :3 / 69). هذه الجمل من أجمل ما يجد المرء في كتب العلم فهي سلوى لكل طالب للآخرة وفيها عذوبة الأدب وجميل التواضع لله تعالى. فمن جميل الأدب أن لا يظن من يفعل خيرا للناس أنه صاحب فضل عليهم بل يشكر الله تعالى ملك الملوك بتسخيره لفعل الخير للناس.

كيفية التخلص من الكبر
معرفة قَدْرِ الله تعالى
قال الله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ۚ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر:67]،  قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى: "وما قدر هؤلاء المشركون ربهم حق قدره، ولا عظموه حق تعظيمه، بل فعلوا ما يناقض ذلك، من إشراكهم به من هو ناقص في أوصافه وأفعاله، فأوصافه ناقصة من كل وجه، وأفعاله ليس عنده نفع ولا ضر، ولا عطاء ولا منع، ولا يملك من الأمر شيئا. فسووا هذا المخلوق الناقص بالخالق الرب العظيم، الذي من عظمته الباهرة، وقدرته القاهرة، أن جميع الأرض يوم القيامة قبضة للرحمن، وأن السماوات - على سعتها وعظمها - مطويات بيمينه، فلا عظمه حق عظمته من سوَّى به غيره، ولا أظلم منه. {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} أي: تنزه وتعاظم عن شركهم به." انتهى من (تفسير السعدي).

فعلى المسلم أن يعرف قَدْر الله تعالى فيتواضع لله سبحانه، وعلى المسلم أن يعرف ضعفه وافتقاره إلى الله رب العالمين، وأن يتجنب التقليل من شأن الناس وأن يقر بكل فضل ونعمة بأنها من الله تعالى فلا يتكبر على الخلق بمال أو جاه أو نسب أو علم.  ولقد كتب الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى مقولات ذهبية في منهجية وكيفية التحلي بالتواضع. قال ابن القيم رحمه الله تعالى: "إن جهل المرء بنفسه وصفاتها وآفاتها وعيوب عمله ، وجهله بربه تعالى وحقوقه وما ينبغي أن يعامل به يتولد منهما رضاه بطاعته وإحسان ظنه بها ، ويتولد من ذلك من العجب والكبر والآفات" انتهى بتصرف يسير (مدارج السالكين: 1/175). وقال ابن القيم رحمه الله تعالى: "فالْفَخْر والبطر والأشر وَالْعجب والحسد وَالْبَغي وَالْخُيَلَاء وَالظُّلم وَالْقَسْوَة والتجبر والإعراض وإباء قبُول النَّصِيحَة والاستئثار وَطلب الْعُلُوّ وَحب الجاه والرئاسة وَأَن يحمد بِمَا لم يفعل وأمثال ذَلِك ينتج من الْكبر" انتهى بتصرف يسير من (الفوائد: ص209) . وقال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: "التواضع يتولد من العلم بالله سبحانه ، ومعرفة أسمائه وصفاته ، ونعوت جلاله ، وتعظيمه ، ومحبته وإجلاله ، ومن معرفته بنفسه وتفاصيلها ، وعيوب عملها وآفاتها ، فيتولد من بين ذلك كله خلق هو " التواضع " ، وهو انكسار القلب لله سبحانه، وخفض جناح الذل والرحمة بعباده ، فلا يرى له على أحدٍ فضلاً ، ولا يرى له عند أحدٍ حقّاً ، بل يرى الفضل للناس عليه ، والحقوق لهم قِبَلَه ، وهذا خلُق إنما يعطيه الله عز وجل من يحبُّه ، ويكرمه ، ويقربه" انتهى ( الروح : ص 233).

الخوف من عاقبة الكبر
من أعظم الأسباب التي تحفز المسلم على تهذيب نفسه وتنقية سريرته الخوف من عاقبة الكبر ومن عذاب الله تعالى. فعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده :عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «يُحشر الْمُتَكَبِّرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْثَالَ الذَّرِّ فِي صُورَةِ الرِّجَالِ، يَغْشَاهُمُ الذُلُّ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ، يُساقون إِلَى سِجْنٍ مِنْ جَهَنَّمَ يُسَمَّى: بُولَس تَعْلُوهُمْ نَارُ الْأَنْيَارِ، وَيُسْقَوْنَ مِنْ عُصَارَةِ أَهْلِ النَّارِ؛ طِينَةَ الْخَبَالِ» رواه الترمذي (2492). وورد في الموسوعة الحديثية لموقع الدرر السنية:  "يُسمَّى" هذا السِّجنُ باسمِ "بَولَسَ"- بفتحِ الباءِ وقيل: بضَمِّها، وسكونِ الواو وفتحِ اللَّامِ- قيل: هو مِن (الإبلاسِ)، بمعنى: اليأسِ، ولعلَّ هذا السِّجنَ إنَّما سُمِّي به؛ لأنَّ الدَّاخِلَ فيه يائسٌ مِن الخَلاصِ عمَّا قريبٍ، "تَعْلوهُم"، أي: تأتي مِن فوقِهم، وتَغْشاهم وتُحيطُ بهم "نارُ الأنيارِ"، جمعُ نارٍ، وأُضيفَ إليها لفظُ نارٍ؛ للمُبالَغةِ في الإحراقِ وشِدَّةِ الحرِّ، وقيل: إنَّها أصلُ نيرانِ العالَمِ، "يُسقَون" بصيغةِ المجهولِ، أي: تَسْقيهم الملائكةُ مِن خزَنةِ جَهنَّمَ بأمرِ ربِّها، "مِن عُصارةِ أهلِ النَّارِ"، وهو ما يَسيلُ مِن دَمٍ وقيحٍ وصديدٍ مِن أهلِ النَّارِ، ونَتنِهم، وهذه العُصارةُ تُسمَّى "طِينةَ الخَبالِ"، أي: الفسادَ الَّذي يَفسُدُ به البدَنُ. " انتهى. وعن ابن عمر رضِي اللهُ تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بينما رجل يجرُّ إزاره من الخيلاء خُسف به فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة»   رواه البخاري ( 3297). وورد في الموسوعة الحديثية لموقع الدرر السنية: "حرَّمَ اللهُ تعالى الجنَّةَ على الْمُتكبِّرينَ؛ وذلك لأنَّها صفةٌ لا ينبغي لأحدٍ أنْ يتَّصفَ بها؛ فهي خاصَّةٌ بِالمولى سبحانَه وتعالى، فمَنْ نازَعَه فيها وجَبَ عليه عذابُ الآخرةِ، وكان عُرضةً لِعذابِ الدُّنيا، وفي هذا الحديثِ يذكر النبي صلَّى الله عليه وسلَّم، أنَّ اللهَ تعالى قد خَسَفَ الأرضَ برجُلٍ كان يَجرُّ إزارَه مُختالًا بِنفسِه، فهو يَتجلْجلُ في الأرضِ، أي: يتحرَّكُ وينزلُ مُضْطرِبًا فيها إلى يومِ القيامةِ. " انتهى.

وعن حارثة بن وهب الخزاعي رضي الله تعالى عنه، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال :  «ألا أخبركم بأهل الجنَّة؟ كل ضعيف متضاعف؛ لو أقسم على الله لأبرَّه، ألا أخبركم بأهل النَّار؟ كل عتلٍّ ، جواظٍ مستكبرٍ» (متفق عليه). وعن أَبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: «احتجَّت الجنة والنار، فقالت النَّار: فيَّ الجبَّارون والمتكبرون. وقالت الجنة: فيَّ ضعفاء الناس ومساكينهم، فقضى الله بينهما: إنَّك الجنة رحمتي أرحم بك من أشاء، وإنَّك النار عذابي أعذب بك من أشاء، ولكليكما عليَّ ملؤها» (مسلم:2846).

معرفة أثر التواضع
عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما نقصت صدقةٌ من مال ، وما زاد الله عبداً بعفوٍ إلا عزّاً ، وما تواضع أحدٌ لله إلا رفعه الله» ( مسلم : 2588 ). قال الإمام النووي رحمه الله تعالى: قوله صلى الله عليه وسلم : " وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله " : فيه وجهان : أحدهما : يرفعه في الدنيا , ويثبت له بتواضعه في القلوب منزلة , ويرفعه الله تعالى عند الناس , ويجل مكانه . والثاني : أن المراد ثوابه في الآخرة , ورفعه فيها بتواضعه في الدنيا .قال العلماء : وقد يكون المراد الوجهين معا في جميعها في الدنيا والآخرة ، والله تعالى أعلم .( شرح مسلم :16 / 142 ) .

الدعاء
ومن أعظم السبل للتحلي بالتواضع الدعاء لله سبحانه بالتحلي بالخلق الحسن. قال الله سبحانه: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة:186] ولذا فعلى المسلم الإلحاح في الدعاء والرجاء من الله تعالى لكي يرزقنا حسن الخلق وجميل التواضع، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم: «الَّلهُمَّ حَسَّنتَ خَلْقِي فَحَسِّن خُلُقِي» رواه ابن حبان في صحيحه وصححه الألباني في (صحيح الجامع:1307). ومن دعاء النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم : «وَاهْدِنِي لأَحْسَنِ الأَخْلاقِ لا يَهْدِي لأَحْسَنِهَا إِلا أَنْتَ ، وَاصْرِفْ عَنِّي سَيِّئَهَا لا يَصْرِفُ عَنِّي سَيِّئَهَا إِلا أَنْتَ» رواه مسلم (771).

نسأل الله الكريم أن يرزقنا التواضع وجميل الخلق وأن يغفر لنا ولوالدينا وأهلنا والمسلمين والحمد لله رب العالمين ونصلي ونسلم على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه أجمعين ومن اتبعه بإحسان إلى يوم الدين.

  • 10
  • 0
  • 37,122

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً