وقفات مع النظام الديمقراطي: المقال الأول
ملفات متنوعة
إذا كان هؤلاء لا يدركون فإن الديمقراطيين يدركون ذلك إدراكا حقيقيا، ولذا فإنك تراهم يخوضون - في مواجهة النظام الإسلامي – معارك شرسة على كافة المستويات وبشتى الوسائل والأساليب.
- التصنيفات: مذاهب فكرية معاصرة -
الوقفة الأولى: العلاقة بين الديمقراطية والعلمانية
العلاقة بين الديمقراطية والعلمانية هي علاقة الفرع بأصله، أو علاقة الثمرة الخبيثة بالشجرة التي أثمرتها، فالعلمانية هي " مذهب من المذاهب الكفرية التي ترمي إلى عزل الدين عن التأثير في الدنيا، فهو مذهب يعمل على قيادة الدنيا في جميع النواحي السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والأخلاقية، والقانونية وغيرها، بعيدا عن أوامر الدين ونواهيه " (1) .
والديمقراطية تقوم أساسا على إسناد السيادة أو السلطة العليا للأمة أو الشعب وهذا يعني أن الكلمة العليا في جميع النواحي السياسية إنما هي للأمة أو الشعب.
و على ذلك يمكننا القول: إن الديمقراطية مذهب من المذاهب الفكرية التي ترمي إلى عزل الدين عن التأثير في جميع النواحي السياسية، فالديمقراطية إذن هي التعبير السياسي أو الوجه السياسي للعلمانية، كما أن الاشتراكية والرأسمالية تعبير اقتصادي عن العلمانية، وهذه العلاقة بين الديمقراطية والعلمانية نستطيع أن ندركها بكل سهولة ويسر إذا علمنا أن نظرية العقد الاجتماعي التي تمثل الأساسي الفلسفي لنظرية السيادة التي تقوم عليها الديمقراطية، كانت في نفس الوقت تمثل الركن الأساسي في فكر زعماء الثورة الفرنسية التي أقامت دولة علمانية لأول مرة في تاريخ أوروبا المسيحية.
الوقفة الثانية: لا ديمقراطية في الإسلام :
وإذا قد تبينت لنا حقيقة الديمقراطية، وحقيقة الأصول والأسس الإلحادية التي تنطلق منها الديمقراطية، وتبين لنا ما اشتملت عليه من الكفر الغليظ والشرك بالله العلي الكبير، إذ تبين لنا حقيقة ذلك بكل وضوح وجلاء، يصبح من الأمور المنكرة جدا أن تسمع من يقول: إن " الديمقراطية من الإسلام " أو إن " الإسلام نظام ديمقراطي" أو " الديمقراطية الإسلامية " أو أشباه ذلك من الأسماء الملفقة من كلمة الحق وهي الإسلام، ومن كلمة الباطل وهي الديمقراطية.
الوقفة الثالثة: النظام الديمقراطي باطل شرعا:
والنظام الديمقراطي – بقيامه على أسس إلحادية كفرية – يصبح باطلا شرعا، وتصبح الديار أو البلاد التي تعلوها أحكامه ديارا أو بلادا خالية من الحاكم أو الوالي المعترف به شرعا، والذي له على الناس حق الطاعة وحق النصرة، وهذا يترتب عليه:
أنه لا ولاية شرعية للنظام الديمقراطي على المسلمين.
أن علاقة المسلم بهذا النظام هي علاقة البراء وليس الولاء.
أن على المسلمين الذين تعلو ديارهم أو بلادهم أحكام النظام الديمقراطي، عليهم العمل لإزالة هذه الأحكام حتى تعلوها أحكام النظام الإسلامي.
وقد كتب إمام الحرمين الجويني في كتابه ( غياث الأمم ) فصلا عظيما في ما يجب على المسلمين فعله عندما تخلو بلادهم عن الحاكم الشرعي المعترف به، فانظره فإنه مهم .
الوقفة الرابعة: ليس في الديمقراطية خير تحتاج إليه خير أمة أخرجت للناس:
كثيرا ما يحدث أن يقول بعض الناس: إننا لا نشك بأنه لا توجد ديمقراطية في الإسلام بهذا المعنى المذكور، والموجود فعلا في الدول النصرانية وغيرها من ملل الكفر، ثم يضيفون إلى هذا القول قولهم: ولكننا وجدنا في الديمقراطية بعض العناصر الطيبة مثل: حق الشعوب في اختيار حكامهم، ومساءلتهم بما يمنع من استبدادهم، وحقهم في إبداء آرائهم، وأن يكون لهم نصيب في إدارة شئون بلادهم، وحق في خيراتها ومواردها، يقولون: إذا كان الأمر كذلك، فما الذي يمنع من أن نأخذ من الديمقراطية ما فيها من خير وندع ما فيها من شر؟ !
والسؤال على هذا النحو يدل على تلك الأمية الشرعية المتفشية في الأمة، وخاصة فيما يتعلق بالفقه الشرعي السياسي.
والجواب يتلخص فيما يلي:
قد ذكرنا من قبل أن أصول الديمقراطية وجذورها إنما هي أصول وجذور إلحادية كفرية، فما معنى أن ندع ما فيها من الشر؟ معناه أن تترك هذه الأصول وبالتالي ما نتج عنها أو تفرع منها، وإذا كنا سوف نترك أصول الديمقراطية فهل يمكن أن نقول عن نظام ليس فيه أسس الديمقراطية أنه نظام ديمقراطي؟ ! وإذا كان الأمر كذلك، فلماذا إذن الإصرار على التمسك بلفظ لا حقيقة له؟!
وقد ذكرنا أيضا من قبل أنه في ظل النظام الديمقراطي لا يمكن الفصل بين ما يظن أنه حسن وبين ما هو خبيث، لأن الجميع يصدر عن أساس واحد.
ثم نقول: وهل في الديمقراطية - أو في غيرها من النظم – شيء من الخير ينقصنا حتى يقال: نأخذ ما فيها من خير وندع ما فيها من شر؟!
هل الأمة التي قال فيها الله عز وجل {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110].
تحتاج في شيء من نظامها السياسي الذي هو جزء من دينها إلى ما عند أمم الكفر والضلال؟
إن من عقيدة الإسلام التي يعتقدها كل مسلم: أن ديننا لم يترك بابا من أبواب الخير إلا ودلنا عليه، ولم يترك بابا من أبواب الشر إلا وحذرنا منه.
كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( «إنه لم يكن نبي قبلي إلا كان حقا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه وينذرهم شر ما يعلمه لهم» )) فهل يسوغ في عقيدة المسلم – بعد ذلك – أن يقال: إن في النظام الديمقراطي عناصر طيبة أو نوعا من الخير تنقص النظام الإسلامي، ومن ثم فنحن في حاجة إلى استعارتها منه وتطعيم النظام الإسلامي بها؟!
لقد بلغ من عناية الدين بالمسلمين أن علمهم كل شيء حتى أدب قضاء الحاجة، فهل يمكن أن تكون الهداية في مجال النظام السياسي غير كاملة حتى نحتاج إلى غيرنا؟
إن من المقاصد الأساسية في شريعة الإسلام إقامة دولة على أساس الإيمان، وتنظيمها تنظيما دقيقا محكما وصحيحا، يكفل الخير كله والحق كله والعدل كله لكل من أظلتهم راية الدولة الإسلامية، فهل يمكن أن يقال: إن هناك عناصر من الخير لازمة لدولة الإيمان لم تأت في شريعة الإسلام، ونحن في حاجة إلى استيرادها من أمم الكفر والضلال؟ !
إن ما يمكن أن يقال فيه : نأخذ ما فيه من خير، وندع ما فيه من شر، هو ما كان من قبيل المخترعات التي بنيت على الاكتشافات والتجارب المعملية، أو ما كان من قبيل الأمور المباحة التي تركها الله لنا لنجتهد فيها وفق ظروف العصر ومصالح الأمة، أما ما جاءنا فيه من الله ورسوله أمر أو نهي أو هداية أو إرشاد فلا خير إلا فيه، وليس في غيره خير نحتاج إليه.
الوقفة الخامسة: الديمقراطية قاطع طريق على النظام الإسلامي:
قد يبدو من الأمور الغريبة لدى كثير من الناس، والتي قد لا يدركون لها تفسيرا مقنعا، ما تظهره كثير من الدول الغربية الكافرة من نقمة أو مهاجمة لبعض الأنظمة الحاكمة في الدول العربية والإسلامية، بدعوى ما تمارسه هذه النظم من الظلم الاجتماعي والاستبداد السياسي، وكبت الحريات، وقتل واعتقال الآلاف من الناس، وترتفع فيها أصوات مطالبة بقطع المعونات، أو تقليل المساعدات، حتى تقوم في تلك البلاد أنظمة ديمقراطية تتعامل مع رعاياها بطريقة إنسانية تحفظ عليهم حريتهم وأمنهم واستقرارهم.
يسمع هذا الكلام سامع، أو يقرؤه قارئ، فيحتار: هل وصلت الرحمة والشفقة بدول الكفر على المسلمين إلى هذا الحد، لدرجة أنهم يناصرون الشعوب المسلمة على حكامها الجائرين؟ ! شيء عجيب حقا!
ولكن العجب يزول إذا علمنا أن ذلك ليس من أجل الرحمة والشفقة، وإنما من أجل قطع الطريق على النظام الإسلامي حتى لا يعود إلى بلاد المسلمين.
الوقفة السادسة: طبقات المتكلمين بلفظ الديمقراطية أو الدعاة إليها في بلاد المسلمين :
لقد تكلم بلفظ الديمقراطية ودعا إليه كثير من الناس على اختلاف مشاربهم وأفكارهم.
فمنهم بعض العلماء وبعض المنتسبين إلى العلم ومن غريب الأمر لدينا نحن الآن أن نجد في كتابات هؤلاء كلمات مثل: ديمقراطية الإسلام، السيادة للأمة، الأمة مصدر السلطات، واشتراكية الإسلام، وأشباه ذلك من المصطلحات الدخيلة ذات الجذور الإلحادية التي وفدت إلى بلادنا مع الكفار المتغلبين على ديار الإسلام.
وقد يزول هذا الاستغراب – ولو جزئيا – إذ أدركنا أن كل ما قاله هؤلاء في هذا الصدد لا وزن له من الناحية الشرعية، ولا قيمة له من الناحية العلمية، ذلك أن كثيرا منهم وقد دهمتهم الحضارة الوافدة بكثير من نظمها واصطلاحاتها لم يأخذوا الوقت الكافي للتفكير المتأني المتزن لمعرفة حقيقة هذه الألفاظ، بل وجدوا أنفسهم مدفوعين للكلام في هذه الأمور، التي لم يتمكنوا – لحداثة عهدهم بها – أن يدركوا ما فيها من الكفر والضلال، فاقتربوا منها وقالوا بها، وتأولوا في سبيل ذلك النصوص والأحداث التاريخية لتوافق هذه المصطلحات ونحن لا نتهم أحدا بسوء نية، ولكن أردنا التنبيه على ذلك حتى لا يفتر أحد بما قد يجده في هذه الكتابات من استخدام لهذه المصطلحات ومحاولة إلباسها ثوبا إسلاميا.
ومن هؤلاء العلماء والمنتسبين للعلم من قد تبين له ما في هذه الدعوات والمصطلحات، من الزيغ والضلال، لكنهم في نفس الوقت رأوا الكثيرين من المسلمين المثقفين ثقافة غير شرعية، وقد أخذ بلبهم البريق الزائف لهذه المصطلحات حيث كان المجتمع المسلم – بعد سيطرة الكافرين عليه – يمر بمرحلة من الانهزام على كافة المستويات، وكان هم هؤلاء العلماء أن يحفظوا على العامة دينهم واعتقادهم، فأرادوا التوفيق بين ما جاء به الدين ودل عليه وبين ما جاء به هؤلاء فقالوا: إن السيادة للأمة وإن الأمة هي مصدر السلطات، ولكن قيدوها بقيود أفرغتها من مضمونها، فهم لم يقولوا بسيادة مطلقة أو سلطة مطلقة – كما هو المعروف في هذا المصطلح – وإنما قالوا بسيادة وسلطة مقيدة بقيد الشرع، وفي إطاره، ومع ذلك فإن هذا الكلام أيضا غير صحيح لأنه كلام متناقض ينقض آخره أوله، لأن السيادة – كما سبق تعريفها – هي السلطة العليا المطلقة التي لا تعلوها أو تدانيها سلطة أخرى، فكيف يقال: إنها سلطة وسيادة مقيدة، وإذا أمكن تقييد هذه السيادة أو السلطة كان المقيد هو صاحب السيادة وليس المقيد، وهذا يبين بطلان قول كل من يقول: إن الأمة أو الشعب - في النظام الإسلامي – هي صاحبة السيادة أو مصدر السلطات بشرط تقييدها بالشريعة؛ لأن هذا كلام ينقض بعضه بعضها، والسيادة في النظام الإسلامي هي للشرع، والأمة أو الشعب في مقام العبودية لله الواحد القهار لا في مقام السيادة.
ومن المتكلمين بالديمقراطية أو الداعين إليها، قوم جمعوا بين حسن النية وسطحية التفكير، وقد ظنوا – وهم مخطئون قطعا – أن النظام الديمقراطي يحقق الخير والعدل، فأرادوا أن يبينوا للناس – بدافع حسن النية أو الغيرة على الدين – أن الإسلام قد سبق الديمقراطية بأربعة عشر قرنا من الزمان، وأن الديمقراطية قد جاء بها الإسلام وطبقها الخلفاء الراشدون!
ومنهم من خدع في الشعارات البراقة المعلنة مثل حق الناس في اختيار حكامهم، وحقهم في مساءلتهم، وحريتهم في التعبير عن آرائهم، وغير ذلك، وانطلت عليهم الخدع القاتلة بأن معارضة الديمقراطية تعني الموافقة على تضييع الحقوق وإهدار كرامة الإنسان، وتأييد الجور والطغيان.
ومنهم دعاة ظنوا أن الديمقراطية قد توفر لهم قدرا من الحرية يستطيعون من خلاله أن يقوموا بواجب الدعوة، فنادوا بالديمقراطية .
ومنهم دعاة أيضا رأوا في العمل على إرجاع الأمة إلى النظام الإسلامي احتياجا إلى جهود كبيرة وتضحيات جسام، فآثروا السلامة ونادوا بالديمقراطية لعلهم من خلال الحرية المتاحة أن يتمكنوا من إقامة النظام الإسلامي، ولكن هيهات.
والحقيقة أن هذا التصور الذي يبدو أن فئات كثيرة ومجتمعات كبيرة عاملة في حقل الدعوة الإسلامية باتت في ظل البحث عن طريق سلمي آمن. يجنبهم كثيرا من تكاليف الجهاد وتضحياته، باتت تركن إليه وترفع لواءه، إنما يدل على غفلة كبيرة، وسذاجة في الفهم، وسطحية في التفكير.
فهل هؤلاء نسوا أو تناسوا أن ما يدعونا إليه من إقامة النظام الإسلامي هو مناقض مناقضة كاملة وشاملة للنظام الديمقراطي؟ !
إذا كان هؤلاء لا يدركون فإن الديمقراطيين يدركون ذلك إدراكا حقيقيا، ولذا فإنك تراهم يخوضون - في مواجهة النظام الإسلامي – معارك شرسة على كافة المستويات وبشتى الوسائل والأساليب.
وإذا كان التناقض تاما بين النظام الإسلامي والنظام الديمقراطي، أفلا يكون من الغفلة والسذاجة والسطحية بمكان أن يتصور متصور أن الديمقراطيين يسعهم أن يتركوا المسلمين يستخدمون وسائل النظام الديمقراطي لتقويض النظام الديمقراطي نفسه والقضاء عليه! وإقامة النظام الإسلامي بدلا منه؟ !