الجامعة.. تلامذة وأساتذة...!
كم رؤي من مناظر تشمئز لها النفوس والفِطر السليمة، من استعلاء تلميذ على شيخ معمَّر كبير، ومن تطاول سفيه على قامة علمية باذخة، ومن محاكمة جهول متسلق، لعلامة فريد..!
• طلّ عليهم بطلة البراءة الهادئة، وقد علاه الخجل، والتحفه الأدب ، وغاص في رياحين المسكنة، ثم ماهي إلا حقبة، لفها ما لفها من حب الظهور، والإعجاب بالرأي والذات، حتى أُشرب حب المراتب والتسلق، وبات معاديا للكبراء والمشايخ ...!
• وتعتبر الجامعات أكبر مؤسسة تعليمية وتربوية تصدّر الكفاءات والخريجين بمختلف أنواعهم للمجتمع بناءً، وصناعة، وإبداعا وتطويرا .
• وما يحصل في الجامعة من اجتماع الأساتذة والتلاميذ في وقت سريع، وصيرورة التلامذة أساتذة حينما يرشحون معيدين مختارين للدراسات العليا..!
• مما يعني تحقيق معاني التلمذة، وتطبيق صفات طالب العلم الحقيقي، فيحمله ذاك على التواضع ومكارم الأخلاق، ونبذ الكبر والاستعلاء .
• وفي مدة خاطفة، يتمكن بعض المعيدين من تحقيق الشهادات أو يكلف بمهام إدارية فيعود مستعليا على مشايخه، وأساتذتهم الفضلاء لا زالوا في فناء العلم تدريسا وتفقيها..،!
• فيتناسى جهله السابق، وصغره الآنف، وتقصيره الماضي، فيستأسد بلا مسوغ، ويتفاخر بلا مبالاة، فيتعامل بأنفة وغلظة مع شيوخه، زاعما تطبيق الأنظمة، وما هي إلا لوثة الدكترة، أو المنصب المنحول، واعتقاد البلوغ وحيازة الفضل والكمال...!
• وإذا صار عميدا أو فوقه، تعمد التعقيد، وابتعث ثارات قديمة، ونفسيات مخجلة، لا يحول علمه دون بثها، ولا معرفته عن اجترارها، ولا خلقه عن المجازاة بسببها..! فيقع في (ظاهرة العقوق العلمي) و (التسلط الإداري). وبعضهم ربما مر على جسر( يتمسكن حتى يتمكن )..!
• كم رؤي من مناظر تشمئز لها النفوس والفِطر السليمة، من استعلاء تلميذ على شيخ معمَّر كبير، ومن تطاول سفيه على قامة علمية باذخة، ومن محاكمة جهول متسلق، لعلامة فريد..! يا زمن العجائب، مناظر تقطع الفؤاد، وتضيق بها الأرواح...على الأحبة تبكي أم على طللٍ// لم يبقى فيها أحباءٌ وسمارُ .. هيهات يا صاحبي أبكي على زمن/ ساد العبيد به واقتيد أحرارُ...!
• ومع حصول ذلك في التعليم العام، إلا إنه في التعليم العالي أشد وأسرع، بسبب التعيين السريع للمعيد ومنحه جدولا مباشرا، دون تدرج علمي أو تنظيم إداري سليم، فيقع في كارثة لا يسلم منها إلا من عصمه الله بفضل علم وأدب، وانظر إلى أدب موسى عليه السلام مع الخضر عليه السلام( هل أتبعك على أن تُعلّمنِ مما علّمتَ رشدا )سورة الكهف . وقال العلامة ابن المبارك رحمه الله: قال لي مَخلَد بن الحسين رحمه الله: ( نحن إلى كثيرٍ من الأدب، أحوجُ منا إلى كثيرٍ مِن الحديث )؛ ( الجامع للخطيب١/٨٠)..
• وقال الإمام ابن القيم - رحمه الله( أدب المرء: عنوانُ سعادته وفلاحه، وقلة أدبه: عنوان شقاوته وبَوَارِه، فما استُجلِب خيرُ الدنيا والآخرة بمثل الأدب، ولا استُجلِب حرمانُهما بمثل قلة الأدب؛ (مدارج السالكين ٢/٣٦٨) .
• وحينما يُفقد الأدب، وتباع الأخلاق، ينتهي الحال إلى مثل ذاك، ونُحرم بركة العلم وثماره، ولا يجني جانٍ إلا على نفسه، وحدّث بعد ذلك عن الصراع الشرس، والتنافس المذموم، ووشايات لا حد لها، بين من يعدون أنفسهم علماء ومختصين ماهرين...!
• والعلــم إن لم تكتنفه شمائــلٌ// تُعليه كان مطيـــةَ الإخـفــــاقِ..
لا تحسبنَّ العلــمَ ينفع وحـــده// مـا لم يُتـوّج ربــُّــه بخَلاقِ..!
• ولعل من تبعات الدكترة المذمومة دعوى العلم بلا مصداقية، وتعشق الألقاب بينهم إلى درجة إن لم تُذكر، وقع في النفس ما يقع من الإحن والتحاملات..،!
• ومع إساءة بعضهم للمعيدين وبخسهم حقوقهم، إلا أن انقلاب المعيد عليهم أسوأ وأنكى، وقد تحمله المواقف السابقة إلى إضمار عقيدة الانتقام، والكيل بمكيالين...!
• وتطغى النفعية المادية والتسلقية، فلا تجد حدائق للأخلاق، ولا مرافئ للطيب والوداد، وفي الحديث:( إن العبد ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم والقائم ).
• والعجيب أنه قد تجد توقيرا في المساجد والمجامع، بخلاف الجامعات ودوحات العلم الشرعي..!
• وقديما كانت الكليات والمعاهد العربية الشرعية مرتعا لممارسة أخلاقيات علمية وضاءة، ومع التطور المدني والانفتاح التقني، وغلبة الطمع الدنيوي، باتت الدنيا والمفاخرة هي المعيار ، والله المستعان ، ونتج عن ذلك عقوق ومروق وشقوق..!
• ومن سوء الأدب : تحدث بعضهم أمام شيوخه، والإفتاء بين أيديهم، فلم يرعَ حرمتهم، أو يوقر مجلسهم، وهو لا يزال دونهم علما وسناً ورتبة، وفئة جدلية تتعلم بالجدال والتطاول وسوء الأسئلة ، قال الإمام مالك رحمه الله ( كان أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف يماري ابن عباس، فحُرم منه علما كثيرا ).
• وكان ديدن السلف رحمهم الله الصبر والليونة والتذلل، قال الضحاك بن مزاحم المفسر المشهور رحمه الله: ( ما استخرجت هذا العلم من العلماء، إلا بالرفق بهم ) .
• والأعجب إنشاء دروس بحضرة علمائه الكبار، الذين ملأوا الجو فقها ووعيا وتوجيها .
• وكان بعض السلف إذا ذهب إلى شيخه تصدق بشيء، وقال: ( اللهم استر عيب شيخي عني، ولا تُذهب بركة علمه مني) ، وقال الشافعي رحمه الله رضي الله عنه:( كنت أصّفح الورقة بين يدي مالك صفحًا رفيقًا هيبة له، لئلا يسمع وقعها ) ..!
• وإذا رغب الطالب المناقشة والمراجعة، تلطف برفق وأدب، وداخل بهدوء وإجلال.
• ولو تمت المخالفة العلمية بدليلها وأدبها ، فلا حرج فقد خالف ابْنُ عباس عمرَ وعليا وزيد بن ثابت رضي الله تعالى عنهم وكان قد أخذ عنهم، وخالف كثير من التابعين بعض الصحابة وإنما أخذوا العلم عنهم، وخالف مالك كثيراً من أشياخه بالخلق الحسن، والأدب الجم، وهلم جرا..!
• ومن المدهش في الحقل الجامعي اجتماع عدة طبقات درّست بعضها بعضا، وأحيانا أستاذ كبير درس عدة طبقات، وصاروا عمداء وأساتذة، والواجب تقدير ذاك وتوقيره، وحفظ مكانة أولئك الذين فاقوا علما وأدبا ومكانة، وعند أبي دَاوُدَ رحمه الله قال عليه الصلاة والسلام: ( «إن من إجلال الله إكرامَ ذي الشيبة المسلم» ..) قال في عون المعبود ( أي تعظيم الشيخ الكبير في الإسلام ، بتوقيره في المجالس ، والرفق به ، والشفقة عليه ، ونحو ذلك ، كل هذا مِن كمالِ تعظيم الله ، لحرمته عند الله ) .
• وينبغي للأساتذة الترفق بالمعيدين الجدد، وأن لا يتعالوا عليهم، أو يغضوا من قدرهم، لئلا يحشروهم للعداء، وليشجعوهم على العلم والمواصلة ، وليَعوا أن ثمة طبقات منهم تنفع الطلاب نفعا عزيزا، وتورثهم ميراثا مباركا، من جراء حرصهم وقوة تحضيرهم..!
• قال العلامة محمد بن عبد الباقي البزاز الحنبلي رحمه الله:( يجب على المعلم أن لا يعنّف، وعلى المتعلم أن لا يأنف ).
• وتبقى الجامعات ملتقى علميا وتربويا وفكريا ينضح بالفوائد والفرائد، وما ينبغي أن تعكره المفاسد والأوابد ، والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل...!
- التصنيف: