حكاية كتاب من الدّاخل والخارج!

منذ 2019-03-29

وسأنظر إلى هذا الكتاب من جهتين، الأولى من داخله، وسيكون الحديث مختصرًا لسببين أوّلهما أنّه سبق لي كتابة مقالة عن الكتاب، ويمكن الرّجوع إليها، وثانيهما كي لا يتقاطع كلامي مع شيء كثير من درر الزّملاء

تلقيت دعوة من مركز عبدالرّحمن السّديري الثّقافي؛ للمشاركة في ملتقى القراءة بدار الرّحمانيّة في مدينة الغاط، لمناقشة كتاب من إصدارات المركز، وإنّ أحاديث الكتب مع القرّاء والمثقفين، والحوار حولها، لمن أمتع جلسات الفوائد، وأسنى ليالي السّمر، وما أجدرها من طريقة بالانتشار والتّعميم.

وسأنظر إلى هذا الكتاب من جهتين، الأولى من داخله، وسيكون الحديث مختصرًا لسببين أوّلهما أنّه سبق لي كتابة مقالة عن الكتاب، ويمكن الرّجوع إليها، وثانيهما كي لا يتقاطع كلامي مع شيء كثير من درر الزّملاء على منصّة القراءة، أو من تعليقات الحضور شركاء الملتقى، وفي كلّ خير ونفع بإذن الله.

عنوان الكتاب: عبدالرّحمن بن أحمد السّديري: أمير منطقة الجوف.. فصل من تاريخ وطن وسيرة رجال، يقع في أزيد من خمسمئة صفحة بقليل، وصدرت الطّبعة الثّانية الأنيقة منه عام 1437=2016م عن مركز عبدالرّحمن السّديري الثّقافي، بعد عقد تقريبًا من ظهور طبعته الأولى، وتزايد طلبه والسّؤال عنه.

ونبعت فكرة كتابنا تحت قبّة مجلس الشّورى الذي جمع رائد المشروع د.زياد السّديري مع محرّره د. عبدالرّحمن الشّبيلي، واُستهلّ المؤلَّف الضّخم بتقديم فخم مختصر من الملك سلمان، وبدأ بتوطئة، فتمهيد، يعقبه اقتباسات تشبه الشّهادات من وزراء ومسؤولين سابقين، تلاها أربعة أقسام تضمّ سبعة عشر فصلًا، يتبعها الملاحق فالمراجع، وفي الختام صور وكشّاف أسماء، علمًا أنّ سبعة عشر باحثًا يرتبطون مع الأمير بعلاقات متنوّعة ما بين بنوّة، وخؤولة، وزمالة، وصداقة، قد تعاونوا على كتابة المحتوى.

يختصّ القسم الأوّل بالأسرة عبر ثلاثة فصول، ويحفظ القسم الثّاني المراسلات والشّعر ضمن فصلين، بينما يستنطق القسم الثّالث ما في عيون الآخرين خلال أربعة فصول، ويقف القسم الرّابع على رابية تطلّ على الأمير الرّاحل في خدمة الجوف من ثمانية فصول، وأُضيف أخيرًا ملحق فيه لقاء صحفي، وقصائد لم تنشر.

ومن المناسب أن يُحذف المتشابه والمكرّر الذي يمكن الاستغناء عنه، ويُستفتح كلّ فصل أو قسم بخلاصة قصيرة تغني المستعجل، وتذكر النّاسي، ويُكتفى بإيراد المهمّ من الأشعار، ويُحال على الدّيوان للاستزادة، مع إضافة صور لمزارع الأمير وأوقافه، والإسهاب في طريقة تربيته لأنجاله وأحفاده، والتّوسع في دراسة علاقاته مع رجال الدّولة وأجهزتها.

هذا هو الكتاب من داخله، وأمّا من جهة الخارج فلكتابنا دلالات من المناسب الوقوف معها، والحديث عنها باختصار أيضًا لدواعي الوقت، وحذار الملال، ولعلّها أن تكون سببًا ملهمًا لأعمال أخرى؛ إذ الغاية تعميم النّموذج وتطويره دون الاكتفاء به، فالنّص أذكى من منشئه، وقد يدرك القارئ مالم يخطر على ذهن الكاتب، وكم ترك الأوّل للآخر.

فمنها مركزيّة التّاريخ في ثقافة أيّ أمّة، وأهميّة سير الرّجال في مسيرة الدّول والأماكن والكيانات، وإنّ ضياع جزء من التّاريخ ليعود إلى إهمال التّوثيق، وترك الاحتفاء بمن يستأهل، وكم من أعلام اندثرت مآثرهم بعقوق الأبناء أو الطّلاب، وهذا ما حمى الله منه أنجال الأمير؛ فحفظوا كبيرهم بهذه السّيرة الجامعة، وهكذا الأسر العريقة تصنع.

كما نلمح تزكية صادقة لجمال التّربية، فالأمير لا يحمل شهادة في هارفارد، أو كامبردج، أو سانت هيرست، ولم يتخرّج في جامعة أو معهد شهير، وربّما أنّه لا يعرف الانترنت، وقطعًا لم يمض وقتًا مع وسائل التّواصل؛ بل كان لبيته وأسرته، وثقافة مجتمعه المحيط به، تأثير كبير عليه في مسالكه الحياتيّة، والإداريّة، والإبداعيّة، والإنسانيّة.

فارتضع لبانتها صغيرًا، ووعاها يافعًا، وتمثّلها في سنّي عمره، ونقل ما يناسب العصر منها لتربية بنيه وبناته، وإفادة من وما حوله، فكانت خصائص مجتمعه ظاهرة عليه، وثمار آله يانعة فيه، ولذا برز غراس فكره في ذريته وأعماله، وهكذا التّربية العميقة تفعل، إذ لا تخرم دينًا ولا عرفًا، ولا تتوانى عن اهتبال فرص المعاصرة الرّاشدة، دون انهماك في تنافر مفتعل، أو انشغال في دهاليز ثنائيّات مرهقة، أو انغماس فيما لا طائل تحته.

ونتيجة لإحسانه في صناعة أولاده وبناته وإجادته في توجيههم، بادروا لأعمال يكافئون بها شيئًا من جميل أبيهم، فاحتشدوا بما وهبهم الله وعلّمهم، وخدموا صروحًا أنشأها شيخهم الرّاحل أو أرادها، واستكتبوا باحثين كبار عنه، لتخليد محامده وآثاره، وجعل نجاحاته قدوة لمن شاء، وحين شارف العمل على التّمام افتتحه الملك سلمان المشهور بوعي التّاريخ، وتقدير رجالات الدّولة، والبّر بوالدته الأميرة حصّة بنت أحمد السّديري وبأسرتها، فكان الفتح متميزًا.

ومع تقدير هذا الجهد المتقن، يبدر سؤال: ماذا لو أنّ الأمير كتب سيرته أو أملاها وهو حيّ؟ وبما أنّ هذا الخيار قد فات وأُستدرك بكتابنا، فلا بأس من أن نحضّ أهل العلوم، والفنون، والتّجارب، والأخبار، على تدوين سيرهم، وندعو القريبين منهم لمعاودة الطّلب إليهم، وإعانتهم إذا شرعوا في التّدوين أو السّرد، فإنّ الشّيخ الكبير حين يموت -كما يقول المثل الأفريقي- يدفن معه مكتبة ثمينة، وكم تحت أديم هذه الأرض من مكتبات!

وما دمنا في سياق الافتراض فماذا لو أنّ هذا العمل أُنجز والأمير على قيد الحياة يسمع ويرى ويسعد بعاجل البشرى؟ ولماذا لا نشيع فينا منهج الاحتفاء بأكابرنا من خلال الأعمال المهداة للرّموز والنّماذج التي تستحقّ التّكريم، وهي سنّة ثقافيّة حميدة، وأتمنى أن يتبنّاها المركز بالتّعاون مع نظرائه، فيصدُر في كلّ عام كتاب حافل بالعلم والنّفع، يُهدى لإمام حاضر بيننا، وننهي به حال القطيعة مع نبلاء المجتمع أو الزّهد فيهم، وكم في ديارنا من عالم، أو أديب، أو وجيه، أو إداري، تشرئب لفرائده العقول قبل الأعناق.

أمّا غلاف الكتاب فيفصح عن أنّ الأمير ابن بيئته الذي لا يتعالى عليها، ويفاخر بصحرائها، وأوديتها، ومناخها، وعاداتها، فهو الشّاعر، والفارس، والمزارع، والمضيف، والسّائح في البراري، وحين تولّى إمارة الجوف قريبًا من نصف قرن أشاع أبوّته قبل أن يستقوي بسلطان المنصب، فغدا الأمير لأهلها الظلّ والملجأ والمستراح، وبادلهم الحبّ شعرًا ونثرًا وإنجازًا، والصّور تشهد، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.

ولأنّ الموت قدر محتوم على كلّ حي، اختار الرّجل أن يغادر الدّنيا ويترك فيها باقيات صالحات، ولم يكتف بآثاره الحيويّة من نسل مبارك، ولم يقنع بالوقوف عند ما حققّه من منجزات تنمويّة في منطقته، ولم يستوعب كتابه وديوانه ما في جعبته، ولم تستهلك مزارعه ونخيله وأنعامه فائض همّته، فوضع وقفًا ناجزًا باقيًا يجمع الوعي مع الإغاثة، ويخلط الثّقافة مع الحياة، ويجعل من القراءة والعلم أساسًا كالماء، وصيّر خدماته عامّة مستمرة، وذلكم هو معنى الخلود، بل معنى التّوفيق، والقبول من الله.

هذا طرف من شأن كتاب عن سيرة رجل دولة وتاريخ ونسب، انتمى أوائله للدّعوة والدّولة، وحفظت رمال الصّحراء، وأمواه الخليج، بطولاتهم وخطاهم، وأثر حوافر خيولهم وأخفاف إبلهم، وأوثقت المصاهرات فيما بعد عُرى العلائق معهم ولازالت، وتوّج ذلك بحكم محلّي لمناطق ذات حدود تستوجب الحيطة، وذات قبائل تقتضي الحكمة، وذات حاجات تستلزم البصيرة، فكانوا أهلًا للعظائم إبّان الحرب والمفاوضات، وفي السّلم والبناء؛ حتى أصبح أفرادها نعم القدوة الحسنة التي جمعت صدق القول، وصلاح العمل، وأولئك آبائي.

أحمد بن عبد المحسن العسَّاف-الرِّياض

مدونة أحمد بن عبد المحسن العسَّاف

  • 0
  • 0
  • 2,077

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً