أباطيل إنجليزية وأغلال فارسية!

منذ 2019-04-01

وحاولت بريطانيا ومن جاء بعدها، تقطيع أواصر العلاقة الخليجية مع العرب والمسلمين، ومقاومة المشاعر الدينية، والقومية العربية، كي تصفو لهم المنطقة بخيراتها

يستمر البروفيسور عبد العزيز عبد الغني إبراهيم حمدون، في نظم درر من المؤلفات الخاصة بتاريخ الجزيرة العربية، ومنطقة الخليج العربي، ويكاد أن يكون اهتمامه منصرفاً نحو هذه البقعة العربية الخالصة، ذات الخصوصية الدينية والعربية، حتى أنه حين ألَّف عن مرابعه وجواره الأفريقي، ربطه بالمنطقة العربية في كتاب بعنوان: “إخوة بلال”.

وبلغ من عناية مؤلفنا الباحث والمؤرخ الكبير بهذه المنطقة، أن حلَّ ضيفاً على مجلس الملك سلمان قبل ثلاثة عقود تقريباً-حين كان أميراً للرياض-، وكان اللقاء محفوفاً ومختصراً، وجرى فيه نقاش وقائع تاريخية، ومسائل من التاريخ السياسي، مع استعراض لكتب المؤلف التي كانت منشورة آنذاك، وحين خرج البروفيسور من هذا اللقاء قال: تالله لقد كنت في مجلس مؤرخ عميق؛ وليس بين يدي زعيم عريق فقط.

ومن كتبه القديمة النادرة، كتاب عنوانه: السلام البريطاني في الخليج العربي 1899-1947 دراسة وثائقية، صدر عن دار المريخ بالرياض، ويبدو أنه طبع مرة واحدة عام(1402=1981م)، وقد وجدته مع شقيقه-حكومة الهند البريطانية– بين ركام الكتب وعليهما أثر السنين؛ ثم قرأتهما معاً، وكتبت عنهما! يقع الكتاب الذي أهداه مؤلفه الوفي لوالدته في (349) صفحة من القطع الكبير، ويتكون من مقدمة، وستة فصول، فخاتمة وملاحق.

يتحدث الفصل الأول عن السلام البريطاني والمسائل الطارئة (1899-1904م)، ويبدأ بالحديث عن اللورد كيرزن الذي حكم الهند والخليج نيابة عن عرش بريطانيا-أصدرت هيئة أبو ظبي عن هذا الاستعماري الشرس كتاباً من 03 أجزاء-. واختارت بريطانيا في هذه الفترة العزلة المجيدة؛ كي لا تتدخل في أي بقعة من العالم، لقلة تعداد جيشها، حتى أن بسمارك تندر على الجيش الإنجليزي قائلاً: إنَّ الشرطة الألمانية قادرة على اعتقاله!

وكان همُّ بريطانيا الأول في أوروبا هو حفظ توازنها، والحيلولة دون أن تبتلع أي قوة الأخرى؛ فيختل التوازن، وزاد من إشكالات الإنجليز عزوف الشعب عن أداء الضريبة الحربية، وبخله على ميادين القتال بأبنائه-ومما يحزن أن بريطانيا وفرنسا احتلتا عالمنا بجيوش فيها نسبة لا يستهان بها من المسلمين أو المستضعفين-.

ونظراً لخبرة كيرزن السياسية، وتأهيله العلمي، ومعرفته باللغات الشرقية، عُين نائباً عن الملك في الهند، مع صغر سنه، وخوف أساطين الإنجليز من تسرعه وطيشه، ولذا أوصوا مجلس الوزراء بوضع وثيقة تفصيلية له؛ كي لا يحيد عنها فيورط لندن، وهي خطة وسط بين إهمال الشباب المندفع؛ فنخسر طاقتهم المتدفقة، وحدة أذهانهم، وبين تمكينهم المطلق فيهلكوا الحرث والنسل بالسفه أو النزق، ويستعجلوا المراحل بالقفز والإحراق، مما يعجل بالانزلاق نحو الهاوية.

واجه كيرزن مسألتين حين تسلم مهامه، أولاهما: مسألة الكويت، التي لم تكن موضع اهتمام الإنجليز من قبل، ولا تذكر وثائق الهند عنها شيئاً كثيراً قبل نهاية القرن التاسع عشر، مع أنها احتضنت شركة الهند بعد خلافها القصير مع البصرة عام (1795م)، وتطوع شيخها لمساعدة الإنجليز في حربهم الظالمة على القواسم عام (1809م)، وهو تطوع غير محمود، ولا مشكور. وعندما ذكر بيللي الكويت عام (1863م)، أشار إلى أن أفراد الأسرة الحاكمة يعمرون طويلاً، ويتزوج رجالها حتى وهم في الثمانين، ويعيشون بعدها أربعين عاماً! وتواتر الثناء على مهارة بحارة الكويت، وجودة مينائها.

وأول اهتمام حقيقي للإنجليز بالكويت كان من القسطنطينية وليس من الهند، حين كتب المستشار القانوني للسفارة البريطانية لدى تركيا بأن مبارك قتل أخويه، وتولى الحكم بالاتفاق مع المقيم البريطاني في الخليج كما يزعم! وكان شيوخ الكويت قبل مبارك يقاومون أي تغلغل بريطاني في بلدتهم، كي لا يقابلها تمدد تركي، وبالتالي تضيع مصالحهم حين تكون ديارهم مسرحاً للكبار، وقمين بالسياسي أن ينأى ببلاده عن كونها خشبة مسرح، أو حلبة صراع، أو مضمار سباق، أو ميدان استعراض للقوة.

ومع أن عبد الله بن صباح بن جابر كان سفيراً من الباب العالي ليقنع قاسم آل ثاني بقبول حامية تركية في قطر، إلا أن الكويت لم يكن بها قوات تركية ضخمة، مع أنها تعلن التبعية للدولة العثمانية، وترفع علمها، حتى طلب مبارك من الإنجليز عام (1897م) فرض الحماية البريطانية على الكويت أسوة بالبحرين، وأشارت مصادر أخرى فيما أذكر، إلى أن شيخ البحرين أقنع ابن عمه شيخ الكويت بطلب الحماية.

ووقعت بريطانيا اتفاقية الحماية مع الكويت، وكانت سرية أول أمرها، ولم يكن للإنجليز نية لحيازة الكويت، بيد أنهم أرادوا منع أي نفوذ تركي، أو روسي، أو ألماني، أو فرنسي في هذه المنطقة. وقرروا صرف مبلغ لشيخ الكويت، على أن يتسلمه من شيخ البحرين؛ حتى لا يفتضح أمره، ويسجل المبلغ في موازنة الهند ضمن المصروفات السرية.

وتعهدت بريطانيا لمبارك بحماية مزارع نخيل أسرته في الفاو، واحتوى أرشيف وزارة الهند على ستة عشر ملفاً خالصاً عن بساتين تمور آل صباح في العراق. وفيما بعد تعاظم الاهتمام البريطاني بالكويت؛ لقطع الطريق على خط حديد برلين-بغداد، إلا إن جرت أقداره بما يحقق مصالح الإنجليز. وليس بخافٍ أن هذه العلاقة المتصاعدة، تُحرج شيوخ الكويت أمام مواطنيهم أهل الحمية الدينية، والنخوة العربية، والقرب المعنوي من دولة الخلافة.

والمسألة الثانية التي عالجها كيرزن هي مسألة بندر جصة، وملخصها أن فرنسا استثمرت بلادة المقيم الإنجليزي في مسقط، فأوقعت بينه وبين السلطان، وحصلت على أذونات وعقود بالإبحار، والاتجار بالسلاح وغيره، ثم تقدموا خطوة للأمام برفع العلم الفرنسي على السفن حماية لها من التفتيش، وهو ما أحنق الإنجليز. واستطاع كيرزن إقناع السلطان بإلغاء هذه الاتفاقيات، وقصقصة أجنحة فرنسا في عمان، ومن الطريف أن السفينة البريطانية أطلقت (21) طلقة لتبجيل السلطان، بينما يصفه كيرزن في تقاريره بالبلادة وانعدام الجدوى، وكم في الوثائق من فضائح.

عنوان الفصل الثاني: السلام البريطاني والمسألة المزمنة(1899-1904م)، ويرى كيرزن-وهو الخبير بالمنطقة- أن فارس دولة لا يربط بين سكانها رابط واحد من عنصر، أو ملة، أو ولاء، وأنه لولا وقوعها بين نفوذي روسيا وبريطانيا لما قامت لها قائمة. ويعتقد بوجوب تحديد المصالح البريطانية في فارس، وتحقيقها بالتفاهم مع الروس أو رغماً عنهم، ويدمغ كيرزن السياسة الروسية بأنها تربت بيد، وتصفع بالأخرى.

ويرى كيرزن بأن طموح روسيا لا يشبعه الشيء اليسير، وأن كل لقمة تمضغها تزيد نهمها للبحث عن غيرها، حتى تسيطر على آسيا كلها، مما يؤثر على مصالح بريطانيا، ويوجب عليها عزل جنوب فارس عن أي تدخل روسي. والتقط شيوخ الخليج هذه السياسة البريطانية، وتلكأوا في العلاقة مع الروس؛ حتى أن مبارك الصباح رفض نوطاً حكومياً روسياً شكراً له على بعض مواقفه، وما أسرع التابع في إرضاء المتبوع دون بصيرة، أو دون مراعاة لمصالح التابع وبلاده على الأقل، وكان الدهاء السياسي يقتضي جعل الروس وبقية القوى، ورقة مساومة في وجه الإنجليز.

وفي مساءلة برلمانية لوزير الخارجية البريطاني لانسدون في 15 مايو 1903م، عبَّر غير ما نائب عن توجسه من المساعي الروسية الحثيثة على تخوم الهند، وفي فارس، وبعض موانئ ومشيخات الخليج، حتى أن أحدهم قال: لو تمكنت روسيا من القسطنطينية فلن أهتم كاهتمامي فيما لو تمكنت من ميناء جيد في الخليج العربي! وعدَّ بعض الكتاب هذا الأمر إن حدث بمثابة إعلان حرب على بريطانيا. وإذا كانت الركائز الأساسية واضحة، والمصالح العليا بينة، فسيعلم رجال الدولة أي تصرف يمثل خطراً، وأي تصرف يجوز تمريره؛ حتى لا تكون مواقفهم خرقاء، وتصريحاتهم بلهاء.

وردَّد النواب إضافة إلى أروقة الصحافة حجج اللورد كيرزن حرفاً حرفاً؛ نظراً لعلاقته الوثيقة ببعض النواب، وبكبريات الصحف والكتاب، وهكذا يكون السياسي المخضرم ناجحاً في التجييش الإعلامي، ومسعر حرب في حملاته، كي لا يكون رجاله وقنواته كلاًّ عليه، لا يجلبون إليه خيراً ولا نصراً، وربما كانوا إلى المضرة والعار أقرب.

وبعد موافقة مجلس الوزراء البريطاني، زار كيرزن الخليج العربي في رحلة لا تنسى، ابتداءً من نوفمبر 1903م، بعد أن اشترط عليه المجلس ألا يزج بنفسه في إبرام اتفاقيات جديدة، وألا يتدخل في الشؤون التي تخص الوزير البريطاني في طهران، وهو شرط لافت للنظر، فما علاقة وزير الإنجليز في طهران بمشيخات عربية على ساحل الخليج؟! والتصرف لافت أيضاً لكبح جماح المسؤول المندفع.

وحشد كيرزن لرحلته كل ما يستطيع؛ ليظهر الأبهة والعظمة والقوة لحكومته، فلديها سطوة البطش إذا غضبت، والقدرة على الحماية إذا رغبت، ومن يجد شكاً في نفسه فما عليه إلا أن يجرِّب، وبذلك خضع الحكام له، حتى أن سلطان عمان يرى نفسه تابعاً لا مستقلاً كما يقول كيرزن الذي قال عن شيوخ الساحل، بأنهم تناسوا “قرصنة” أسلافهم_ وهو جهاد وليس قرصنة-. وفي الانترنت صورة أليمة، لعربي يحمل علجاً على ظهره بعد نزوله من سفينة راسية في الساحل، ويقال بأن العسكري المحمول هو كيرزن.

وفي 21 من نوفمبر أقيم مؤتمر حضره شيوخ الساحل، وألقى كيرزن فيهم خطبة وصفها بأنها زبدة تاريخ بريطانيا، وملخصها المليء بالمنة والتهديد، أن أمن الخليج منجز بريطاني، وترسيخ خصوصية الإنجليز بحكم المعاهدات، وأن المقيم البريطاني هو الحاكم الفعلي، وأن اهتمام بريطانيا ينصب على الساحل دون الظهير البري، وعجباً لهم حين استمعوا له، وهو يقول ما معناه مصلحتنا هي الأساس؛ كيف استمروا في الخضوع له؟

ثم ذهب كيرزن للكويت، واستقبل بحفاوة بالغة، حتى أن مبارك صبغ شعره بالسواد ابتهاجاً، وكانت عربة مبارك وكيرزن محاطة براكبي الخيول والجمال، وتشق طريقها وسط صرخات الحرب من الرجال، وأصوات مزعجة-حسب تقييم أذني كيرزن- تصدر من أفواه النساء تعبِّر عن الفرحة، وهي الزغاريد التي استهجنها اللورد، وكم يستهجن الغربيون عادات غيرهم عنصرية واستعلاء!

وأكدَّ مبارك أنه لا يمد حبل الصلة مع العثمانيين، ولا مع أي دولة أخرى، فنال إعجاب كيرزن، ووصفه بأنه أكثر الشخصيات التي قابلها في الخليج فحولة، وبأنه حاد الذكاء، واسع الدهاء. ولم يتمكن كيرزن من زيارة فارس، وقفل للهند ليكمل فترة نيابته التي اتسمت بالاستقلال قدر المستطاع عن لندن، والتناطح الكثير معها؛ بسبب سمات شخصيته. ومع أنه لم يبلغ فارس؛ إلا أنه حجز روسيا عنها بزيادة القوارب العسكرية في الخليج، وتكثيف الخدمات القنصلية، وإصلاح خدمات البريد، وتقديم الإعانات والقروض، وتنشيط تجارة الهند مع فارس.

ويحمل الفصل الثالث عنواناً كالنتيجة وهو انحسار النشاط الدولي في الخليج العربي 1904-1914م، حيث انشغلت روسيا بخلافها مع اليابان، وأي خلاف يطول؛ سيفوت على أطرافه كثيراً من المصالح. ولم يعد لفرنسا مطامع في الخليج، علماً أن مصالحها كانت في البحث عن نقطة وثوب على مناطق أخرى، أو مساومة الإنجليز على مواضع نفوذهم في أفريقيا.

وكان الامتداد الاقتصادي لألمانيا-وهو يجر النفوذ السياسي المسنود بالقوة العسكرية- هو الذي يؤرق بريطانيا وحكومة الهند، ولذا ضحت بريطانيا بما وقعته مع شيخ الكويت حين لوح لها الأتراك بعقد اتفاقية بخصوص المنطقة، وهو الاتفاق الأنجلو عثماني المبرم عام 1913م، الذي ثبت لبريطانيا وضعها الراهن في حراسة الخليج، ومحاربة الجهاد البحري-يسمونه القرصنة- ومنع تجارة السلاح، وكما أن الإنجليز نسفوا باتفاقهم هذا عهدهم مع شيخ الكويت، فقد صموا آذانهم، وأعموا عيونهم، عن الانبعاث السعودي في نجد؛ تقديماً للمصالح مع العثمانيين.

وكانت مصلحة بريطانيا مقدمة لديها في كل صغيرة وكبيرة تخص الخليج، وهذا أمر طبيعي غير مستغرب، وجهدت لندن لحجب كل ما يخص الخليج عن المؤتمرات العالمية، والتضييق على التجارة الروسية والفرنسية والألمانية، وعلى خطوطها الحديدية، ولأجل ذلك أسرفت بريطانيا في عقد معاهدات معلنة وسرية، وجعلت أمدها طويلاً يشمل الشيخ الذي وقعها، ويورِّثها لمن يحكم من بعده.

ولم تكن بريطانيا تزمع وهي توقع هذه المعاهدات أن تلتزم بها إلا في حدود ما يحقق مصالحها، وفي هذه الفترة ظهر في مسقط والخليج ثم العراق السياسي المخضرم بيرسي كوكس، الذي يشابه بأعماله وترسيمه، المذكورين بشرٍّ ولعنة: سايكس وبيكو! وفي هذه الحقبة اهتمت بريطانيا لشأن قطر؛ كي تبعدها عن الأتراك، وتعمق مشكلاتها مع أبو ظبي حول العديد، ومع البحرين بخصوص الزبارة، وتجعلها عازلة لنجد عن البحر.

وخلاصة الاتفاقيات البريطانية، أن جعلت الكويت عثمانية الأبوة، مباركية الإدارة، بريطانية التوجه، وصيرت قطر دولة عازلة معروفة الحدود؛ ومقصورة على ذرية قاسم آل ثاني، ولا شأن للبحرين بها. كما أن البحرين مستقلة عن تركيا، ولا علاقة لتركيا بها. وغدت هذه الاتفاقيات مثار جدل بين بريطانيا والنفوذ السعودي المتعاظم، والمستند إلى تاريخ تبعية هذه المناطق للدولة السعودية الأولى أو الثانية.

الخليج العربي والحرب العالمية الأولى هو عنوان الفصل الرابع، وفيه استعراض بدايات العلاقات الهندو سعودية حتى عام 1915م، ومع أن الملك عبد العزيز نشأ قريباً من مبارك الصباح، إلا أنه كان أقدر منه في اللعب بورقة تصارع القوى العالمية في المنطقة، واستثمار اختلاف الأحوال الدولية، والإفادة من النظام التهادني في البحر؛ لمنع أي تدخل تركي بحري يعيق مخططات عبد العزيز التي عبر عنها للكابتن بيرودكس وكيل المقيم في البحرين، ولبها طرد الأتراك من سواحل الإحساء، على أن تمنع بريطانيا تركيا من مهاجمته بحراً.

وكان عبد العزيز حريصاً ألا يثير مخاوف الإنجليز، ولذا حين أبلغه كوكس بأن زيارته المزمعة لساحل عمان ليست من الصداقة في شيء، قرر عبد العزيز إلغاء هذه الزيارة من فوره؛ لأن هذه المناطق مرتبطة بمعاهدات مع بريطانيا، ولها فيها مصالح متجذرة، فضلاً عما يشغله في داخل نجد، وكسب بذلك بقاء الحبل ممتداً مع بريطانيا وإن لم يضمنوا له شيئاً.

وتوجس شيوخ الساحل من ظهور ابن سعود خطراً محيطاً بهم، خاصة حين تذكروا جيوش أجداده التي ضمت مناطقهم للدرعية والرياض، فاستنجد شيخا دبي وأبو ظبي بالإنجليز، ولاذ شيخ قطر بالحامية التركية، وركن شيخ الكويت إلى الصداقة مع البيت السعودي، وموقف الإنجليز منهما، وقد أحسن الملك تقدير الموقف، وتعامل معه بدهاء سبقه ولازمه وأعقبه التوفيق الإلهي العجيب، حتى أصبح ابن سعود ظاهرة سياسية لا يستطيع أحد إنكارها.

وحاولت بريطانيا عن طريق مبعوثيها كشكسبير، ثم رسائلها الوصول إلى تفاهم مع عبد العزيز، بيد أنه نظراً لوعيه السياسي المبكر، رفض أي اتفاق مبني على المراسلات، وأصر على المفاوضات والمحادثات، ثم تحفظ على الصيغ البريطانية للاتفاق وطالب بتعديلها، وأعاد صياغتها وفق ما يراه الأنسب له، لينتهي السجال إلى اتفاق دارين بين عبد العزيز وكوكس في 26 ديسمبر عام 1915م، ويعد هذا أول اتفاق بريطاني يتجاوز الساحل إلى البر، وأول محاولة بريطانية للتدخل في الحدود العربية البرية التي لم ترسم بعد. وتمكن ابن سعود بذلك من جعل حزام الهند البحري سداً يمنع وصول أي قوة دولية إليه، فكأنه جعل بذكائه الإنجليز حماة لموانئه؛ ليتفرغ هو للداخل، وأفاد من اندلاع الحرب العالمية الأولى؛ لينهي حكم خصومه آل رشيد في حائل.

وازدادت عناية بريطانيا بالعراق، لدرجة أن مكتبها هناك بقيادة الخاتون جروترد بل التابعة لكوكس مباشرة، كانت تراقب الشأن العراقي عن كثب، وتكتب التقارير عن الحركات الدينية فيه، وحول الأوضاع القبلية، ودراسة الشخصيات المهمة ومعرفة اتجاهاتهم، وتتحسس العلاقة مع ابن سعود وابن رشيد. وحث الإنجليز الهنود للتوسع التجاري والزراعي في أرض العراق الخصبة، الوفير ماؤها، والغنية بالمواد الخام، وجعلها سوقاً استهلاكية لبضائع بريطانيا، مع الحذر من التشابك بين الهنود السنة والعراقيين الشيعة. وسعى ممثلو بريطانيا جادين في البحث عن أسرة كردية تصلح لحكم العراق، ولم يظفروا بشيء!

عنوان الفصل الخامس أثر الطيران والنفط في السلام البريطاني في الخليج العربي 1918-1947، حيث تقلص الاهتمام البريطاني بالخليج من أجل الهند، حتى انتهى مع الحرب العالمية الثانية، وأضحى اهتماماً بالخليج لذاته. فموقع الخليج يفصل بين قارات عدة، ويصل بين مناطق متباعدة، ويكاد أن يكون أهم منطقة مائية داخلية في العالم.

ومن خلال الطيران تمكن الإنجليز من التدخل في البر، وبات هذا التدخل لازماً حين ظهر النفط تحت رمال الخليج وقريباً من سواحله. فاجتهدت بريطانيا باختيار الأماكن المناسبة لمطاراتها، وواصلت ترسيم الحدود، وكتابة عقود الامتيازات مع الشيوخ الذين لا خيار لهم سوى ختمها، حتى لو أبدوا معارضة أو تحفظاً. ومن حسن حظ بريطانيا أن كوكس كان رجل المرحلة بخبرته، ودهائه، ومعرفته البصيرة العميقة بالمنطقة، وحكامها، وعاداتها، وتاريخها، وهو ما تفوق به الإنجليز على الأمريكيين وغيرهم-رأيت كتاباً حديثاً عن هذا الرجل طبعته الدار العربية للعلوم ناشرون-.

وألزمت بريطانيا الشيوخ بمنع أي طائرة أجنبية من التحليق في أجوائهم أو الهبوط على أراضيهم، وانتزعت من غالبهم الموافقة على مسح مناطقهم لتحديد الأكثر ملائمة لمواقع المطارات، وحرص الإنجليز على حياطة المنطقة الثرية النفطية ومنع التدخلات فيها، بيد أنهم مع الحرب، وما خلفته من إنهاك لقواهم، اضطروا للتخلي عن تفردهم شيئاً فشيئاً، إلى أن سلموا المنطقة للمتعهد الأمريكي النشط، والمتلهف للسيطرة الاقتصادية، والسياسية والعسكرية.

ومع وجود تنافس بين بريطانيا وأمريكا في غير ما مجال، إلا أن الإنجليز منحوا الأمريكان تسهيلات عدة، وغضوا الطرف عن توغلهم وتجاوزهم الخطوط المتفق عليها. وعبر مسؤول بريطاني كبير عن استحالة قيام حرب بين الناطقين بالإنجليزية، فالتفاهم هو سيد الموقف، وليت شعري أيقول ناطق بالعربية مثل قول الإنجليزي الفصيح المبين؟! كما أن أمريكا بإرثها الخالي من تاريخ استعماري كانت أقل خطراً من بريطانيا الاستعمارية، ولذا استدرجها عبد العزيز لتكون حاجزاً له دون مطامع بريطانيا وخططها. وفي عام 1947م قبرت حكومة الهند تماماً، وسلمت مفاتيح الخليج لواشنطن.

ويختتم الكتاب بالفصل السادس عن الوجود الدولي في سياج الأمن الهندي، حيث تزايدت القوى الدولية في الخليج، ودلفت إليه أمريكا، وروسيا، واليابان، وغيرها، ومع نهاية الحرب العالمية الثانية تعاظم الحضور الأمريكي وزال غيره، أو انكمش بدرجة كبيرة.

وارتبط هذا الوجود بالتجارة، ومن اللافت أن التمور كانت تصدَّر من مسقط لأمريكا، وتروج منتجات اليابان في الخليج لرخص أثمانها مع أنها رديئة الصنع؛ وسبحان مغير الأحوال. ومن خبر هذه الفترة ارتباط الاستعمار بالتنصير في الخليج-لعبد المالك التميمي كتاب عن هذا الموضوع-، حتى أن المرء ليصعب عليه التفريق بين خطاب السياسي كيرزن، والمنصر زويمر.

وحاولت بريطانيا ومن جاء بعدها، تقطيع أواصر العلاقة الخليجية مع العرب والمسلمين، ومقاومة المشاعر الدينية، والقومية العربية، كي تصفو لهم المنطقة بخيراتها. وبالمقابل حرص الملك عبد العزيز على استقدام خبراء هنود من المسلمين السنة، في شؤون المال والاقتصاد والنفط والجيش، وقد اتفق المندوبان الأمريكي والبريطاني على تكوين جيش سعودي يحفظ الأمن الداخلي فقط، لأنهم لا يريدون جيشاً قوياً يتبع زعيماً صاحب تطلعات.

ومع التوافق البريطاني الأمريكي، إلا أن لهما مصالحهما المتزاحمة في هذه الكيانات الناشئة الغنية بالنفط، وحتى روسيا أطلت على المنطقة برأسها تجارياً، وتدثرت بالدفاع عن بلاد المسلمين ضد العدوان الإنجليزي؛ احتساباً منها للأجر في الجهاد المقدس! وشيئاً فشيئاً أيقن زعماء المنطقة أن المستقبل لأمريكا، فأقبلوا عليها مخلِّفين وراءهم بريطانيا كالعجوز الخبير المنهك جداً.

ولم ترحل بريطانيا حتى تركت بصمات واضحة باقية في ترسيم حدود المنطقة البرية والبحرية، وتقسيم جزرها، فقد خطَّ كوكس على رمال الجزيرة أول خطوط الحدود عام 1922م، وغضت بريطانيا طرفها عن الشاه ليبتلع عربستان عام 1925م، وينهي حكم صديق الإنجليز خزعل، وجعلت من شطِّ العرب حاجزاً بين أراض عربية، وشقَّت الخليج العربي إلى قسمين أحدهما فارسي.

ومكنت فارس من جزر تابعة لعمان والشارقة وأبو ظبي والكويت، وخلقت مناطق للنزاع بين قطر والبحرين، وبين قطر وأبو ظبي، وبين السعودية والكويت، وفي البريمي بين السعودية وأبو ظبي، وبين فارس والمشيخات العربية، وأصبحت فارس التي كانت لا تسيطر على أي جزيرة في الخليج حين قدم إليه الإنجليز، تمتلك أكثر جزر خليج العرب! وكانت جزر بو موسى والطنبين آخر هدية أنجلو أمريكية من الأرض العربية لصالح إيران عام 1971م، ولا ندري أفي الجعبة الأمريكية الفارسية المزيد من “الهدايا” أم لا؟

والذي يظهر من هذه الدراسة أن بريطانيا عرفت أهدافها بالضبط، وسعت لتحقيقها بأي وسيلة، وكانت مصالحها مقدمة حتى على الاتفاقيات المبرمة، واتخذت رجالاً يؤمنون بأهداف بلادهم، ويحرثون الأرض، ويمخرون البحر لأجلها؛ كما فعل كيرزن وكوكس وغيرهما. واستخدمت بريطانيا الادعاءات طريقاً لتزييف الوعي والافتراء على أمتنا، فهي تقاوم القرصنة، وهو اسم قبيح لجهاد شرعي مقدس، ثم تحارب تجارة الرقيق في الأفراد، مع أنها حين وفدت استرقت المنطقة بخيراتها ومنافذها وكثير من أكابرها، ويبدو أن العبث بالوعي تقدمة للعبث بالبلاد والثروات والعباد، وأننا لم نستفد من درس الماضي بعد.

فهل يأتي على بلاد المسلمين وقت تحدد فيه مصالحها الاستراتيجية التي تتناغم من ثقافتها، وتؤمن بها شعوبها، لتتكامل مع الحكومات في تحقيقها، كي تكون الديار في مأمن، ونمو، وقوة، ويصبح الناس في رغد آمنين، وبالعدل مطمئنين، وبالتوافق مع حكامهم وقادتهم مستمرين، وقد جعلوا في آذانهم وقراً يحول دون سماع مفتريات الشرق والغرب على حضارتنا، وتاريخنا، ومجتمعاتنا، وكبارنا، وثقافتنا بجميع مكوناتها؟

أحمد بن عبد المحسن العسَّاف-الرياض

مدونة أحمد بن عبد المحسن العسَّاف

  • 0
  • 0
  • 3,057

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً