الهزيمة النفسية في تنامي التطبيع مع الصهاينة

منذ 2019-05-07

الجدير بالذكر أن حديثنا هذا لا يعني أن الأمة قد غيرت جلدها من قضيتها المقدسة، فما تزال هناك مؤشرات قوية تدل على عمق حب فلسطين لا سيما في فئة الشباب

حت ضغط الأزمات ومع توالي الإخفاقات عادة ما يسوء خلق الذات فتخرج أسوأ ما فيها من طباع وسلوكات، هذا أمر يحدث للأفراد ويحدث كذلك للمجتمعات.

فكلما زادت خيباتها وارتفع منسوب احتقانها، كلما فقدت توازنها، حيث تصاب بشتى التشوهات الفكرية والسياسية، فتهجم عليها أمراض مجتمعية عديدة من عنف يأكل أفرادها إلى أنانيات تطغى على العلاقات داخل تلك التجمعات البشرية لتتقلص مساحة الرسالية فيها إلى أدنى مستوياتها، فلا قضية تعلو على قضية إشباع المصالح الفردية بمختلف الأساليب حتى غير المشروعة منها، وهو الحال الذي بلغته أمتنا خصوصا في الآونة الأخيرة مع كثافة المتغيرات التي طرأت عليها بفعل التحولات العالمية الكبرى.

من الطبيعي إذا في ظل هذه الأوضاع أن تصاب الأمة بالضبابية في الرؤية وأن تتفشى داخلها الروح الانهزامية، فتعجز عن تحديد مصيرها والتمييز بين حلفائها وأعدائها، الشيء الذي استغله البعض لضرب مختلف ثوابتها، ولعل أبرز ثابت بات في مرمى قصف هذه المجموعات هو القضية الفلسطينية.

فلم يسبق أن تعرضت فلسطين لهذا المستوى من التحريض ضدها، ولم يسبق أن قاد هذا العداء أجهزة رسمية عربية ومؤسسات إعلامية ضخمة بالشكل الذي يتم حاليا. نعم كانت داخل الأمة أقلية تعادي القضية الفلسطينية، لكنها لم تجاهر بموقفها الصريح منها، حيث كانت تمرره عبر دعم خيارات تضرب مصلحة الفلسطينيين تحت غطاء الحرص عليهم وتجنيبهم مواجهة غير مأمونة العواقب، وهو النهج الذي كانت تتبناه عدد من الأنظمة العربية والنخب المرتبطة بها في تبريرها لبعض الممارسات التطبيعية التي كانت تمارسها في دهاليزها السرية.

كما أن الهجوم على الفلسطينيين في أسوأ حالاته كان يطال بعض فصائلهم، ولم يتعرض إلى أصل القضية والطعن في ثوابتها والاعتراف بأحقية المحتل الصهيوني في الأرض الفلسطينية ولم يصل حد تبني الرواية الصهيونية كاملة.

هذا التجرؤ على القضية الفلسطينية لم يأت من فراغ، فالوضع الراهن قد أحدث ثقوبا في جسد مجتمعاتنا وقدم أرضية ملائمة لنفث تلك السموم في مجتمعات مهزومة من الداخل، الشيء الذي مكن من اختراقات لا يجب الاستهانة بها.

ذلك أن الهزيمة النفسية التي أصابت الأمة أفرادا وجماعات، قد ضربت هويتها المركزية في الصميم، ما نجم عنها تعزيز هويات فرعية أربكت انسجام الأمة وأثرت في لحمتها، والتي حولت الصراع من صراع مع قوى خارجية تتربص بالأمة وثرواتها وتستهدف مقدساتها، إلى صراعات داخلية طاحنة حتى أضحت "إسرائيل" عند الكثيرين أرحم من بعضنا البعض وهو ما قدم، بقصد أو بدونه، مبررا أخلاقيا لإمكانية التعاطي مع العدو الصهيوني بعد سحب صفة الشر المطلق عنه التي كان يوصف بها من قبل.

النتيجة أن هذا انعكس على القضية الفلسطينية خصوصا في البيئة التي ظهرت فيها تلك النزعات الشوفينية، فتحول أي دعم قدمه البعض لها في وقت من الأوقات إلى منٍّ وأذى، وعلى الإنسان الفلسطيني أن يظل مكسورا لهم لقاء ذلك حتى لو أمعنوا في إيذائه أضعاف ما دعموه، هذا إن افترضنا أنهم قدموا له شيئا من الأساس، وتحول عند بعض الطوائف والتكتلات العرقية إلى انتقام من الأمة بمعاكستهم لقضيتها المركزية عبر ربطهم للعلاقات مع الجانب الصهيوني نكاية فيها، كما أنه وفي ظل هذا التصحر القيمي الفظيع وفي بيئة ألفت الإذعان التام ل"أولي أمرها" انساقت قطاعات واسعة من نخبتها مع دعاية حكامها الجديدة بخصوص القضية الفلسطينية واجتهدت في تبريرها حتى لو أسقطها ذلك في السفور والابتذال.

الأمر لم يمس مناهضي القضية الفلسطينية فقط، فحتى من يفترض بهم أنهم في خندق مواجهة الكيان الصهيوني لم يعد صفهم بذات المناعة التي كان عليها من قبل، فتحول الرفض المبدئي لمسألة التطبيع من مسألة محسومة غير قابلة للنقاش إلى مسألة خاضعة لمنطق التبرير، خصوصا حين تصدر بعض الممارسات التطبيعية من جهات مقربة لهم ما جعلهم يجرحون ويضعفون موقفهم بسبب انتقائيتهم تلك.

بالإضافة إلى ذلك فإن فكرة التواصل مع الصهاينة قد أصبحت دارجة في مواقع التواصل الاجتماعي، ويكفي في هذا السياق تتبع المئات من الشباب العربي المعجبين بصفحات عدد من المسؤولين الصهاينة. لا نتحدث عن المنسحقين الذين باتوا يعبرون عبرها عن دونيتهم تجاه المحتل فقط، بل حتى أولئك الذين يتفاعلون مع تلك الصفحات بحجة أنهم ينتقدون ويفضحون مزاعم الصهاينة، في الحقيقة هم واقعون في إعجاب خفي بعدوهم ويحاولون إثارة انتباهه لهم وانتزاع نوع من الاهتمام بهم من طرفه.

الجدير بالذكر أن حديثنا هذا لا يعني أن الأمة قد غيرت جلدها من قضيتها المقدسة، فما تزال هناك مؤشرات قوية تدل على عمق حب فلسطين لا سيما في فئة الشباب، وما مكانتها لدى جمهور الألتراس في عدد من البلدان العربية إلا واحدة من الشواهد العديدة، غير أنها مع ذلك تبقى أمام تحديات ينبغي أن تؤخذ بجدية بالغة حتى لا يستمر سرطان التطبيع في التمدد، مما يزيد في متاعب الفلسطينيين ويفاقم من معاناتهم خصوصا ونحن على أعتاب تمرير واحدة من أسوء المخططات الخبيثة الرامية إلى تصفية القضية من الجذور.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المركز الفلسطيني للإعلام

  • 0
  • 0
  • 1,868

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً