النفس الإنسانية (3)

منذ 2019-07-04

النصوص الكثيرة، كلها دالة على أن النفس الإنسانية جوهر، وأنها هي محل الخطاب الإلهي

قال تعالى مثلا: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [يوسف:53].

وقال سبحانه: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر:27 - 30]

وقال أيضا: {وَاتَّقُوا يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ} [البقرة:48]

وقال أيضا: {لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة: 233] وقال سبحانه: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} [البقرة:281] وقال أيضا: {فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} [آل عمرن:25]، وقال أيضا: {كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَة} [آل عمران: 185]
وقال أيضا: {يَوْمَ تَاتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} [النحل:111]

 وقال أيضا: {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [غافر:17] وقال أيضا: {وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ. لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق:21 - 22]  

وقال أيضا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر:18]

وقال أيضا: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا. فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا. قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} [الشمس:7 - 10].

فهذه النصوص الكثيرة، كلها دالة على أن النفس الإنسانية جوهر، وأنها هي محل الخطاب الإلهي، ومن هنا فالنفس هذه هي التي عُنِيَ الإسلام بتزيينها وتجميلها، ولذلك فرض الستر على المرأة؛ حتى لا تطغى سيماء الصورة على سيماء النفس، التي هي السيمياء الحقيقية، والتي هي أساس التميز في الإسلام.

فالسيمياء الجسمانية لدى المرأة ذات خصوص جمالي يؤدي وظيفة تناسلية بالقصد الأول ووظيفة شهوانية بالقصد الثاني.

فالقصد الأول قصد أصيل، فهو يخدم إحدى الضروريات الخمس في مقاصد الشريعة، على ما بينه علماء المقاصد، ألا وهي (ضرورة النسل) . فزُيِّنَت الأنثى خَلْقا وتكوينا؛ حتى ينجذب الرجل إليها؛ فيكون ضمان استمرار النسل، كما مر في قوله تعالى من سورة النساء {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء

وكما مر أيضا من سورة الأعراف:{وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَالِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَت دَّعَوَا اللهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ}. ذلك هو الأصل الوجودي لجمال المرأة، والقصد الأصلي منه. نعم له قصد تبعي أو تابع وهو التزيين الشهواني المباح.

وهو الوارد في قوله تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} [آل عمران:14] ).

فهذا التزيين طبيعي، أي بمعنى فطري. فالرجل مجبول على الانجذاب إلى الجمال الأنثوي، لكن لخدمة القصد الأصيل من النسل. وليس ذلك مقصودا لذاته؛ ولذلك جعل الله عقب الآية ما يلي: {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران:15] ) ومشكلة الإنسان اليوم -ذُكْرانا وإناثا- أنه قلب الموازين! فجعل المقصود التبعي أصليا، والأصلي تبعيا؛ فانقلبت بذلك حقائق الحياة عنده، من الإنسانية الراقية إلى البَهَمِيَّة الساقطة، ومن المتعة الروحية إلى اللذة الشهوانية!
ولذلك كان اللباس الإسلامي بالنسبة للرجال والنساء معا؛ قائما على خدمة هذه المقاصد الكلية العظيمة في الدين، وعلى احترام الوجود الإنساني، وعدم الإسفاف به، أو السقوط به إلى دركات العيش الحيواني الصرف! فسِتْرُ الصورة الجسمانية للأنثى -لما لها من خصوص تكويني- كان ليخدم قصده الأصلي ولا يتعداه إلى غيره إلا تبعا، في حدود جمالية المباح ..

ومن هنا قال الرسول صلى الله عليه وسلم: {إِنّ اللهَ لاَ يَنْظُرُ إِلَىَ صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ. وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَىَ قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ}. وعلى هذا المساق يفهم حديث النبي صلى الله عليه وسلم في زاهر بن حرام الأشجعي رضي الله عنه -وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبه، وكان رجلا بدويا ذميم الصورة!

- إذ قال له في قصة طريفة: «ولكن أنت عند الله غال». نعم! لقد كان عند الله كذلك؛ لما كان له من جمال النفس الذي غطى ذمامة الصورة، وأفاض عليها أنوار القبول، في الأرض وفي السماء!
إن لباس المرأة في الإسلام ليس أحكاما شكلية فحسب، على ما يعتقده بعضهم. كلا! إن اللباس مضمون جوهري يضرب في عمق الغيب! إنه بعد وجودي! يرتبط بالطبيعة الوجودية للمرأة من حيث هي إنسان.


لقد انطلق الخطاب القرآني للمرأة من مبدأ الخطاب الكلي للإنسان، منذ كان خطاب الوجود الأول للنفس الإنسانية! وذلك قول الله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [الأعراف:172] فكان هذا التكليف الكوني العجيب: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب:72].

لقد جاء هذا التكليف في سياق خطاب كوني، وُجِّهَ للسماوات والأرض وما بينهما، فتَصَدَّر الإنسان بما فطر عليه من مؤهلات؛ ليكون إمام العابدين لله الواحد القهار، وليكون سيد السائرين إليه تعالى في الأرض وفي السماء. وليس بعيدا عن هذا القصد أمر الله تعالى ملائكته بالسجود لآدم، أول الخليقة من النفس الإنسانية.

وهو يحمل في صلبه ذريته ذكرانا وإناثا.
ومن هنا خاطب المولى جل جلاله المرأة في القرآن باعتبارها (عاملا)، على سبيل التسوية المطلقة بين الرجل والمرأة في المسؤولية الوجودية من حمل الأمانة الكبرى، كما مر في قوله تعالى: { {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْض} [آل عمران:195].
وأما ما خالفت المرأة الرجل فيه من أحكام؛ فذلك راجع إلى الطبيعة التكاملية بين الذكورة والأنوثة، وليس إلى تنقيص خلقي تكويني في طبيعتها. فقد ينقص الرجل في شيء لتكمله المرأة، وقد تنقص المرأة في شيء ليكمله الرجل؛ سعيا لتكوين الحاجة الفطرية الطبيعية بينهما ورغبة في دوام الالتقاء وضمان استمرار الحياة.
إن تشريع اللباس الإسلامي إنما كان -مذ كان- في هذا السياق الكوني العظيم. فليس فيه إذن شكليات وهامشيات. إنه جوهر من جواهر الحياة، وعمق من أعماق الوجود الإنساني في الخطاب القرآني! إنه سيماء لحمل أمانة الاستخلاف في الأرض. قال عز وجل: {هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} (هود:61). ومن ثَمَّ كان ذلك أول قصد إبليس بالتدمير والتخريب في المجتمع الإنساني الأول! فاقرأ وتدبر هذه الآية العجيبة! قال تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا. وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ. يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ. إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف:26].
ذلك سر عجيب من أسرار اللباس في القرآن. فتدبر! 
والمرأة إذ تكشف عن أطرافها، ومفاتنها الجسمانية بتسيب شهواني؛ فإنما معناه أنها تبرز التمثال على حساب الطبيعة، وتمجد الفخار على حساب الروح! وتفر من تزيين حقيقة النفس إلى تزيين غلافها الخارجي فقط! فتخرج عن طبيعة الوجود البشري الذي قام على المفهوم النفسي في القرآن كما تبين، وتتنصل عن ماهيتها الوجودية ووظيفتها الكونية.
__________

فريد الأنصاري

عالم دين وأديب مغربي، حصل على الدكتوراه في الدراسات الإسلامية تخصص أصول الفقه.

  • 6
  • 0
  • 3,578

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً