(51) جهاد الصديق لأهل الردة
علي بن محمد الصلابي
الردة التي قامت بها القبائل بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم لها أسباب، منها: الصدمة بموت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورقة الدين والسقم في فهم نصوصه، والحنين إلى الجاهلية ومقارفة موبقاتها، والتفلت من النظام والخروج على السلطة الشرعية..
- التصنيفات: قصص الصحابة - سير الصحابة -
أولاً: الردة اصطلاحًا، وبعض الآيات التي حذرت من الردة:
1- الردة اصطلاحًا:
عرف النووي الردة بأنها: قطع الإسلام بنية أو قول كفر أو فعل، سواء قاله استهزاء أو عنادا أو اعتقادا، فمن نفى الصانع أو الرسل أو كذّب رسولاً أو حلل محرما بالإجماع كالزنا وعكسه، أو نفى وجوب مجمع عليه أو عكسه، أو عزم على الكفر أو تردد فيه كفر.
وعرفها عليش المالكي بأنها: كفر المسلم بقول صريح أو لفظ يقتضيه أو بفعل يتضمنه.
وعرف ابنُ حزم الظاهري (المرتدَ) بأنه: كل من صح عنه أنه كان مسلما متبرئا من كل دين حاشا دين الإسلام، ثم ثبت عنه أنه ارتد عن الإسلام وخرج إلى دين كتابي أو غير كتابي أو إلى غير دين.
وعرفه عثمان الحنبلي: بأنه لغة: الراجع، قال تعالى: {وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ} [المائدة: 21]، وشرعا: من أتى بما يوجب الكفر بعد إسلامه.
ومعنى هذا أن المرتد هو كل من أنكر معلوما من الدين بالضرورة كالصلاة والزكاة والنبوة وموالاة المؤمنين، أو أتى بقول أو فعل لا يحتمل تأويلاً غير الكفر.
2- بعض الآيات التي أشارت إلى المرتدين:
أطلق الله -سبحانه وتعالى- على المرتدين عن دينه عبارات تشير إلى هذا المرتكس الوبيل الذي تحولوا إليه، منها الردة على الأعقاب أو على الأدبار والانقلاب بالخسران وطمس الوجوه، ورد الأيدي في الأفواه والارتياب والتردد واسوداد الوجوه ، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} [آل عمران: 149]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُم مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولا} [النساء: 47]، وجاء في تفسير ابن كثير: وطمسها أن تعمى وقوله: فنردها على أدبارها أي: تجعل لأحدهم عينين من قفاه، وهذا أبلغ في العقوبة والنكال، وهذا مثل ضربه الله لهم في صرفهم عن الحق وردهم إلى الباطل ورجوعهم عن المحجة البيضاء إلى سبيل الضلالة يهرعون ويمشون القهقري على أدبارهم.
وقال تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} [آل عمران: 106].
نقل القرطبي فيها جملة آراء منها رأي قتادة أنها في المرتدين، كما نقل حديثا لأبي هريرة وقال عنه: يستشهد به بأن الآية في الردة وهو: «يرد على الحوض يوم القيامة رهط من أصحابي فيجلون عن الحوض فأقول: يا رب أصحابي! فيقول: إنك لا علم لك ما أحدثوا بعدك، إنهم ارتدوا على أدبارهم القهقري». وفي رواية أخرى لهذا الحديث عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يجاء برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات اليمين فأقول: أصحابي، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول كما قال العبد الصالح: وكنت عليهم شهيدًا ما دمت فيهم، فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم، فيقال: إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم».
ثانيًا: أسباب الردة وأصنافها:
إن الردة التي قامت بها القبائل بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم لها أسباب، منها: الصدمة بموت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورقة الدين والسقم في فهم نصوصه، والحنين إلى الجاهلية ومقارفة موبقاتها، والتفلت من النظام والخروج على السلطة الشرعية، والعصبية القبلية والطمع في الملك، والتكسب بالدين والشح بالمال، والتحاسد، والمؤثرات الأجنبية كدور اليهود والنصارى والمجوس، وسنتحدث عن كل سبب بإذن الله تعالى.
وأما أصنافها: فمنهم من ترك الإسلام جملة وتفصيلاً وعاد إلى الوثنية وعبادة الأصنام، ومنهم من ادعى النبوة، ومنهم من دعا إلى ترك الصلاة، ومنهم من بقي يعترف بالإسلام ويقيم الصلاة ولكنه امتنع عن أداء زكاته، ومنهم من شمت بموت الرسول وعاد أدراجه يمارس عاداته الجاهلية، ومنهم من تحير وتردد وانتظر على من تكون الدبرة، وكل ذلك وضحه علماء الفقه والسير.
قال الخطابي: إن أهل الردة كانوا صنفين: صنفا ارتدوا عن الدين ونابذوا الملة وعادوا إلى الكفر، وهذه الفرقة طائفتان: إحداهما أصحاب مسيلمة من بني حنيفة وغيرهم الذين صدقوه على دعواه في النبوة، وأصحاب الأسود العنسي ومن كان من مستجيبيه من أهل اليمن وغيرهم، وهذه الفرقة بأسرها منكرة لنبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم مدعية النبوة لغيره، والطائفة الأخرى ارتدوا عن الدين وأنكروا الشرائع وتركوا الصلاة والزكاة وغيرها من أمور الدين وعادوا إلى ما كانوا عليه في الجاهلية، والصنف الآخر هم الذين فرقوا بين الصلاة والزكاة فأقروا بالصلاة وأنكروا فرض الزكاة ووجوب أدائها إلى الإمام ... وقد كان ضمن هؤلاء المانعين للزكاة من كان يسمح (بها) ولا يمنعها إلا أن رؤساءهم صدوهم عن ذلك، وقبضوا أيديهم على ذلك.
وقريب من هذا التقسيم لأصناف المرتدين تقسيم القاضي عياض غير أنهم عنده ثلاثة: صنف عادوا إلى عبادة الأوثان، وصنف تبعوا مسيلمة والأسود العنسي، وكل منهما ادعى النبوة، وصنف ثالث استمروا على الإسلام ولكنهم جحدوا الزكاة، وتأولوا بأنها خاصة بزمن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقسم الدكتور عبد الرحمن بن صالح المحمود المرتدين إلى أربعة أصناف: صنف عادوا إلى عبادة الأوثان والأصنام، وصنف اتبعوا المتنبئين الكذبة الأسود العنسي ومسيلمة وسجاح، وصنف أنكروا وجوب الزكاة وجحدوها، وصنف لم ينكروا وجوبها ولكنهم أبوا أن يدفعوها إلى أبي بكر .
ثالثًا: الردة أواخر عصر النبوة:
بدأت هذه الردة منذ العام التاسع للهجرة المسمى بعام الوفود، وهو العام الذي أسلمت فيه الجزيرة العربية قيادها للرسول صلى الله عليه وسلم ممثلة بزعمائها الذين قدموا عليه من أصقاعها المختلفة، وكانت حركة الردة في هذه الأثناء لما تستعلن بشكل واسع، حتى إذا كان أواخر العام العاشر الهجري وهو عام حجة الوداع التي حجها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونزل به وجعه الذي مات فيه وتسامع بذلك الناس، بدأ الجمر يتململ من تحت الرماد، وأخذت الأفاعي تطل برؤوسها من جحورها، وتجرأ الذين في قلوبهم مرض على الخروج، فوثب الأسود العنسي باليمن، ومسيلمة الكذاب باليمامة، وطليحة الأسدي في بلاد قومه، ولما كان أخطر متمردين على الإسلام وهما الأسود العنسي ومسيلمة وأنهما مصممان كما يبدو على المضي في طريق ردتهما قدما دون أن يفكرا في الرجوع، وأنهما مشايعان بقوى غفيرة وإمكانيات وفيرة فقد أرى الله نبيه صلى الله عليه وسلم من أمرهما ما تقر به عينه، ومن ثم ما تقر به عيون أمته من بعده، فقد قال يوما وهو يخطب الناس على منبره: «أيها الناس، إني قد أريت ليلة القدر ثم أنسيتها، ورأيت أن في ذراعي سوارين من ذهب فكرهتهما فنفختهما فطارا، فأولتهما هذين الكذابين: صاحب اليمن وصاحب اليمامة».
وقد فسر أهل العلم بالتعبير هذه الرؤيا على هذه الصورة فقالوا: إن نفخه صلى الله عليه وسلم لهما يدل على أنهما يقتلان بريحه لأنه لا يغزوهما بنفسه، وإن وصفه لهما بأنهما من ذهب دلالة على كذبهما لأن شأنهما زخرف وتمويه، كما دل لفظ السوارين على أنهما ملكان؛ لأن الأساورة هم الملوك، ودلا بكونهما يحيطان باليدين أن أمرهما يشتد على المسلمين فترة لكون السوار مضيقا على الذراع.
وعبر الدكتور علي العتوم بقوله:«... بأن طيرانهما بالنفخ دلالة على ضعف كيدهما مهما تضاخم، فشأنهما زبد لا بد أن يؤول إلى جفاء ما دام هذا الكيد مستمدًا من الشيطان فهو واهن لا محالة، إذ أقل هجمة مركزة في سبيل الله تحيلهما أثرًا بعد عين، وكونهما من ذهب دلالة على أنهما يقصدان من عملهما الدنيا؛ لأن الذهب رمز لحطامها الذي يسعى المغترون بها خلفه، وأنها سوارن إشارة إلى محاولتهما الإحاطة بكيان المسلمين عن طريق الإحاطة بهم من كل جانب، تماما كما يحيط السوار بالمعصم».
رابعًا: موقف الصديق من المرتدين:
لما كانت الردة قام أبو بكر رضي الله عنه في الناس خطيبا فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: الحمد لله الذي هدى فكفى، وأعطى فأعفى. إن الله بعث محمدًا صلى الله عليه وسلم والعلم شريد، والإسلام غريب طريد، قد رث حبله وخَلَق ثوبه وضل أهله منه، ومقت الله أهل الكتاب فلا يعطيهم خيرًا لخير عندهم، ولا يصرف عنهم شرًّا لشر عندهم، وقد غيروا كتابهم وألحقوا فيه ما ليس منه، والعرب الآمنون يحسبون أنهم في منعة من الله لا يعبدونه ولا يدعونه، فأجهدهم عيشًا وأظلهم دينًا, في ظلف من الأرض مع ما فيه من السحاب، فختمهم الله بمحمد وجعلهم الأمة الوسطى، ونصرهم بمن اتبعهم، ونصرهم على غيرهم، حتى قبض الله نبيه فركب منهم الشيطان مركبه الذي أنزل عليه، وأخذ بأيديهم، وبغى هلكتهم: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَّضُرَّ اللهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ} " [آل عمران: 144].
إن من حولكم من العرب قد منعوا شاتهم وبعيرهم، ولم يكونوا في دينهم –وإن رجعوا إليه- أزهد منهم يومهم هذا، ولم تكونوا في دينكم أقوى منكم يومكم هذا على ما قد تقدم من بركة نبيكم، وقد وكلكم إلى المولى الكافي الذي وجده ضالاً فهداه وعائلاً فأغناه: {وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُمْ مِّنْهَ} [آل عمران: 103].
والله لا أدع أن أقاتل على أمر الله حتى ينجز الله وعده ويوفي لنا عهده، ويقتل من قتل منا شهيدًا من أهل الجنة، ويبقى من بقي منها خليفته وذريته في أرضه، قضاء الله الحق، وقوله الذي لا خلف له: {وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ} [النور: 55].
وقد أشار بعض الصحابة -ومنهم عمر- على الصديق بأن يترك مانعي الزكاة ويتألفهم حتى يتمكن الإيمان من قلوبهم، ثم هم بعد ذلك يزكون، فامتنع الصديق عن ذلك فلم يتردد لحظة واحدة بعد ظهور الصواب له، وعدم التردد كان سمة بارزة من سمات أبي بكر –هذا الخليفة العظيم- في حياته كلها، ولقد اقتنع المسلمون بصحة رأيه ورجعوا إلى قوله واستصوبوه.
لقد كان أبو بكر رضي الله عنه أبعد الصحابة نظرًا وأحقهم فهما وأربطهم جنانا وفي هذه الطامة العظيمة، والمفاجأة المذهلة، ومن هنا أتى قول سعيد بن المسيب -رحمه الله-: وكان أفقههم -يعني الصحابة- وأمثلهم رأيا.
إن أبا بكر كان أنفذ بصيرة من جميع من حوله؛ لأنه فهم بإيمانه الذي فاق إيمانهم جميعا أن الزكاة لا تنفصل عن الشهادتين، فمن أقر لله بالوحدانية لا بد أن يقر له بما يفرض من حق في ماله، الذي هو مال الله أصلاً وأن لا إله إلا الله بغير زكاة لا وزن لها في حياة الشعوب، وأن السيف يشرع دفاعا عن أدائها تماما كما يشرع دفاعا عن لا إله إلا الله، تماما هذه كتلك. هذا هو الإسلام وغير هذا ليس من الإسلام. فقد توعد الله أولئك الذين يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض، قال تعالى: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة: 85].
كان موقف أبي بكر رضي الله عنه الذي لا هوادة فيه ولا مساومة فيه ولا تنازل موقفًا ملهمًا من الله، يرجع الفضل الأكبر -بعد الله تعالى- في سلامة هذا الدين وبقائه على نقائه وصفائه وأصالته، وقد أقر الجميع وشهد التاريخ بأن أبا بكر قد وقف في مواجهة الردة الطاغية ومحاولة نقض عرى الإسلام عروة عروة، موقفَ الأنبياء والرسل في عصورهم، وهذه خلافة النبوة التي أدى أبو بكر حقها، واستحق بها ثناء المسلمين ودعاءهم إلى أن يرث الله
الأرض وأهلها .
خامسًا: خطة الصديق لحماية المدينة:
انصرفت وفود القبائل المانعة للزكاة من المدينة بعدما رأت عزم الصديق وحزمه وقد خرجت بأمرين:
أن قضية منع الزكاة لا تقبل المفاوضة، وأن حكم الإسلام فيها واضح، ولذلك لا أمل في تنازل خليفة المسلمين عن عزمه ورأيه، وخاصة بعدما أيده المسلمون وثبتوا على رأيه بعد وضوح الرؤية وظهور الدليل.
أنه لا بد من اغتنام فرصة ضعف المسلمين -كما يظنون- وقلة عددهم لهجوم كاسح على المدينة يسقط الحكم الإسلامي فيها ويقضى على هذا الدين .
قرأ الصديق في وجوه القوم ما فيها من الغدر، ورأى فيها الخسة وتفرس فيها اللؤم، فقال لأصحابه: إن الأرض كافرة وقد رأى وفدهم منكم قلة، وإنكم لا تدرون أليلاً تؤتون أم نهارا! وأدناهم منكم على بريد، وقد كان القوم يأملون أن نقبل منهم ونوادعهم، وقد أبينا عليهم ونبذنا إليهم عهدهم فاستعدوا وأعدوا. ووضع الصديق خطته على الوجه التالي:
أ- ألزم أهل المدينة بالمبيت في المسجد؛ حتى يكونوا على أكمل استعداد للدفاع.
ب- نظم الحرس الذين يقومون على أنقاب المدينة ويبيتون حولها، حتى يدفعوا أي غارة قادمة.
ج- عين على الحرس أمراءهم: علي بن أبي طالب، والزبير بن العوام،
وطلحة بن عبيد الله، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف، وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهم.
د- وبعث أبو بكر رضي الله عنه إلى من كان حوله من القبائل التي ثبتت على الإسلام من أسلم وغفار ومزينة وأشجع وجهينة وكعب يأمرهم بجهاد أهل الردة فاستجابوا له حتى امتلأت المدينة بهم، وكانت معهم الخيل والجمال التي وضعوها تحت تصرف الصديق، ومما يدل على كثرة رجال هذه القبائل وكبر حجم دعمها للصديق أن جهينة وحدها قدمت إلى الصديق في أربعمائة من رجالها ومعهم الظهر والخيل، وساق عمرو بن مرة الجهني مائة بعير لإعانة المسلمين، فوزعها أبو بكر في الناس.
هـ- ومن ابتعد عن المرتدين وأبطأ خطره حاربه بالكتب يبعث بها إلى الولاة المسلمين في أقاليمهم، كما كان رسول الله يفعل، يحرضهم على النهوض لقتال المرتدين ويأمر الناس للقيام معهم في هذا الأمر، ومن أمثلة ذلك رسالته لأهل اليمن حيث المرتدة من جنود الأسود العنسي التي قال فيها: «أما بعد، فأعينوا الأبناء على من ناوأهم وحوطوهم واسمعوا من فيروز، وجدوا معه؛ فإني قد وليته». وقد أثمرت هذه الرسالة وقام المسلمون من أبناء الفرس بزعامة فيروز يعاونهم إخوانهم من العرب بشن غارة شعواء على العصاة المارقين حتى رد الله كيدهم إلى نحورهم، وعادت اليمن بالتدرج إلى جادة الحق.
و- وأما من قرب منهم من المدينة واشتد خطره كبني عبس وذبيان فإنه لم ير بدًّا من محاربتهم على الرغم من الظروف القاسية التي كانت تعيشها مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان أن آوي الذراري والعيال إلى الحصون والشعاب محافظة عليهم من غدر المرتدين، واستعد للنزال بنفسه ورجاله.
سادسًا: فشل أهل الردة في غزو المدينة:
بعد ثلاثة أيام من رجوع وفود المرتدين طرقت بعض قبائل أسد وغطفان وعبس وذبيان وبكر المدينةَ ليلاً وخلفوا بعضهم بذي حُسَي ليكونوا لهم ردءا، وانتبه حرس الأنقاب لذلك، وأرسلوا للصديق بالخبر، فأرسل إليهم أنِ الزموا أماكنكم ففعلوا، وخرج في أهل المسجد على النواضح إليهم، فانفش العدو فأتبعهم المسلمون على إبلهم، حتى بلغوا ذا حُسَى فخرج عليهم الردء بأنحاء قد نفخوها وجعلوا فيها الحبال ثم دهدهوها بأرجلهم في وجوه الإبل فتدهده كل نحي فى طوله، فنفرت إبل المسلمين وهم عليها –ولا تنفر الإبل من شيء نفارها من الأنحاء- فعاجت بهم ما يملكونها حتى دخلت بهم المدينة فلم يُصرع مسلم ولم يُصب. وقال عبد الله الليثي: وكانت بنو عبد مناة من المرتدة –وهم بنو ذبيان- في ذلك الأمر بذي القصة وبذي حسى:
أطعنا رسول الله ما كان بيننا، فيا لعباد الله ما لأبي بكر، أيورثها بكرا إذا مات بعدهوتلك لعمر الله قاصمة الظهر ،فهلا رددتم وفدنا بزمانه، وهلا خشيتم حس راغية البك، وإن التي سالُوكُمُ فمنعتُمُ، لكالتمر أو أحلى إليَّ من التمر
فظن القوم بالمسلمين الوهن، وبعثوا إلى أهل ذي القصة بالخبر، فقدموا عليهم اعتمادًا في الذين أخبرهم وهم لا يشعرون لأمر الله -عز وجل- الذي أراده وأحب أن يبلغه فيهم، فبات أبو بكر ليلته يتهيأ فعبَّى الناس، ثم خرج على تعبية من أعجاز ليلته يمشي، وعلى ميمنته النعمان بن مقرن وعلى ميسرته عبد الله بن مقرن، وعلى الساقة سويد بن مقرن معه الركاب، فما طلع الفجر إلا وهم والعدو في صعيد واحد، فما سمعوا للمسلمين همسا ولا حسا حتى وضعوا فيهم السيوف فاقتتلوا أعجاز ليلتهم، فما ذر قرن الشمس حتى ولوهم الأدبار، وغلبوهم على عامة ظهرهم، وقتل حبال –أخو طليحة الأسدي- وأتبعهم أبو بكر حتى نزل بذي القصة -وكان أول الفتح – ووضع بها النعمان بن مُقَرن في عدد، ورجع إلى المدينة فذل بها المشركون، فوثب بنو ذبيان وعبس على من فيهم من المسلمين فقتلوهم كل قتلة، وفعل من وراءهم فعلهم، وعز المسلمون بوقعة أبي بكر، وحلف أبو بكر ليقتلن في المشركين كل قتلة، وليقتلن في كل قبيلة بمن قتلوا من المسلمين وزيادة.
وصمم الصديق رضي الله عنه على أن ينتقم للمسلمين الشهداء، وأن يؤدب هؤلاء الحاقدين، ونفذ قسمه وازداد المسلمون في بقية القبائل ثباتا على دينهم، وازداد المشركون ذلاً وضعفا وهوانا، وبدأت صدقات القبائل تفد على المدينة فطرقت المدينة صدقات نفر: صفوان ثم الزبرقان، ثم عدي، صفوان في أول الليل والثاني في وسطه، والثالث في آخره، وفي ليلة واحدة أثرت المدينة بأموال زكاة ستة أحياء من العرب، وكان كلما طلع على المدينة أحد جباة الزكاة قال الناس: «نذير» فيقول أبو بكر: «بل بشير»، وإذا بالقادم يحمل معه صدقات قومه فيقول الناس لأبي بكر: طالما بشرتنا بالخير، وخلال هذه البشائر التي تحمل معها بعض العزاء وشيئا من الثراء، عاد أسامة بن زيد بجيشه ظافرًا، وصنع كل ما كان الرسول قد أمره به وما أوصاه به أبو بكر الصديق ، فاستخلفه أبو بكر على المدينة وقال له ولجنده: أريحوا وأريحوا ظهركم، ثم خرج في الذين خرجوا إلى ذي القصة والذين كانوا على الأنقاب على ذلك الظهر، فقال له المسلمون: ننشدك الله يا خليفة رسول الله أن تُعرض نفسك! فإنك إن تصب لم يكن للناس نظام، ومقامك أشد على العدو، فابعث رجلاً فإن أصيب أمرت آخر فقال: لا والله لا أفعل، ولأواسينكم بنفسي.
لقد ظهر معدن الصديق النفيس في محنة الردة على أجلى صورة للقائد المؤمن الذي يفتدي قومه بنفسه، فالقائد في فهم المسلمين قدوة في أعماله، فكان من آثاره هذه السياسة الصديقية أن تقوى المسلمون وتشجعوا لحرب عدوهم واستجابوا لتطبيق الأوامر الصادرة إليهم من القيادة، لقد خرج الصديق في تعبيته إلى ذي حس وذي القصة, والنعمان وعبد الله وسويد على ما كانوا عليه، حتى نزل على أهل الرَّبذة بالأبرق فهزم الله الحارث وعوفا وأخذ الحطيئة أسيرًا، فطارت عبس وبنو بكر، وأقام أبو بكر على الأبرق أياما وقد غلب بنو ذبيان على البلاد. وقال: حرام على ذبيان أن يتملكوا هذه البلاد إذ غنمناها الله وأجلاها، فما غلب أهل الردة ودخلوا في الباب الذي خرجوا منه، وسامح الناس جاءت بنو ثعلبة، وهي كانت منازلهم لينـزلوها فمنعوا منها فأتوه في المدينة فقالوا:
علام نمنع من نزول بلادنا؟! فقال: كذبتم، ليست لكم ببلاد ولكنها مَوهبى ونَقَذى، ولم يُعتبهم، وحمى الأبرق لخيول المسلمين، وأرعى سائر بلاد الربذة الناس على بني ثعلبة، ثم حماها كلها لصدقات المسلمين لقتال كان وقع بين الناس وأصحاب الصدقات، وقال في يوم الأبرق زياد بن حنظلة:
ويوم بالأبارق قد شهدنـا *** على ذبيان يلتهـب التهابا
أتيناهـم بداهيـة نَسُـوفٍ *** مع الصديق إذ ترك العتابا
وهكذا يتعلم المسلمون من سيرة الصديق بأنه لم يكن يرغب بنفسه عن نفوس أتباعه بأي أمر من أمور الدنيا، وما اضطربت أمور المسلمين منذ زمن إلا لأنهم كانوا يعدون الرئاسة وسيلة للجاه وبابا لجلب المغانم ودرء المغارم، وإيثار للعافية والاكتفاء بالكلمات تزجي من وراء أجهزة الإعلام أو من غرف العمليات، بعيدًا عن المشاركة مشاركة حقيقة في قضايا الأمة المختلفة.
إن خروج الصديق رضي الله عنه للجهاد ثلاث مرات متتالية يعتبر تضحية كبيرة وفدائية عالية، فقد ناشده المسلمون أن يبقى في المدينة ويبعث قائدًا على الجيش فلم يقبل؛ بل قال: لا والله لا أفعل ولأواسينكم بنفسي. وهذا يدل على تواضعه الجم واهتمامه الكبير بمصلحة الأمة، وتجرده من حظ النفس، وقد أصبح بذلك قدوة صالحة لغيره، فلا شك أن خروجه للجهاد ثلاث مرات متتاليات وهو الشيخ الذي بلغ الستين من عمره، قد أعطى بقية الصحابة دفعات قوية من النشاط والحيوية .
وقد جاء في إحدى هذه الروايات أن ضرار بن الأزور حينما أخبر أبا بكر الصديق بخبر تجمع طليحة الأسدي قال: فما رأيت أحدًا -ليس رسول الله – أملأ بحرب شعواء من أبي بكر، فجعلنا نخبره ولكأنما نخبر بما له ولا عليه.
وهذا وصف بليغ لما كان يتصف به أبو بكر من اليقين الراسخ والثقة التامة بوعد الله تعالى لأوليائه بالنصر على الأعداء والتمكين في الأرض، فأبو بكر لم يَفُق الصحابة بكبير عمل، وإنما فاقهم بحيازة الدرجات العلى من اليقين، رضي الله عنهم أجمعين.
وقد روى أنه لما قيل له: لقد نزل بك ما لو نزل بالجبال لهاضها وبالبحار لغاضها، وما نراك ضعفت. فقال: ما دخل قلبي رعب بعد ليلة الغار، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى حزني قال: لا عليك يا أبا بكر، فإن الله قد تكفل لهذا الأمر بالتمام، فكان له رضي الله عنه مع الشجاعة الطبيعية شجاعة دينية وقوة يقينية في الله عز وجل وثقة بأن الله ينصره والمؤمنين، وهذه الشجاعة لا تحصل إلا لمن كان قوى القلب، وتزيد بزيادة الإيمان وتنقص بنقص ذلك، فقد كان الصديق أقوى قلبًا من جميع الصحابة لا يقاربه في ذلك أحد منهم.
* * *