فوائد من الرسالة التبوكية للعلامة ابن القيم (2-2)

منذ 2019-10-24

ما على العبد أضرُّ من عشرائه وأبناء جنسه, فإن نظره قاصر, وهمتُه واقفة عند التشبه بهم, ومباهاتهم والسلوك أيّة سلكوا, حتى لو دخلوا جحر ضب لأحبَّ أن يدخل معهم.

أقسام الخلائق بالنسبة لدعوة النبي علية الصلاة والسلام وما بعثه الله به من الهدى:

ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أقسام الخلائق بالنسبة إلى دعوته وما بعثه الله به من الهدى, في قوله صلى الله عليه وسلم: ( «مثلُ ما بعثني الله به من الهدى والعلم: كمثل غيثٍ أصاب أرضاً, فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء, فأنبتت الكلأ والعُشب الكثير, وكان منها أجادب أمسكت الأرض, فسقى الماء وزرعوا, وأصاب طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تُمسكُ ماءً ولا تُنبتُ كلأً, فلذلك مثلُ من فقه في دين الله, ونفعه ما بعثني الله به, ومثل من لم يرفع بذلك رأساً, ولم يقبل هُدى الله الذي أرسلت به» )

فشبه صلى الله عليه وسلم العلم الذي جاء به بالغيث, لأن كلاًّ منهما سبب الحياة, فالغيث سبب حياة الأبدان, والعلم سبب حياة القلوب.

وشبَّه القلوب القابلة للعلم بالأرض القابلة للغيث, كما شبه سبحانه القلوب بالأودية في قوله تعالى: { أنزل من السماء ماءً فسالت أودية بِقدرِها}  [الرعد:17]

وكما أن الأرضين ثلاثة بالنسبة إلى قبول الغيث:

إحداها: أرض زكية قابلة للشرب والنبات, فإذا أصابها الغيث ارتوت ثم أنبتت من زوج بهيج.

فهذا مثل القلب الزكي الذكي, فهو يقبل العلم بذكائه, ويُثمرُ فيه وجوه الحكم ودين الحق بزكائه, فهو قابل للعلم, مُثمر لموجبه وفقهه وأسرار معادنه.

والثانية: أرض صلبة قابلة لثبوت الماء فيها وحفظه, فهذه ينتفع الناس بورودها والسقي منها والازدراع.

وهذا مثل القلب الحافظ للعلم, الذي يحفظه كما سمعه, ولا تصرف له فيه ولا استنباط, بل له الحفظ المجرد, فهو يؤدي كما سمع, وهو من القسم الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم:  «فرُبَّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه, ورُبَّ حامل فقه غير فقيه»

والأرض الثالثة: أرض قاع, وهو المستوى الذي لا يقبل النبات, ولا يُمسك الماء, فلو أصابها من المطر ما أصابها لم تنتفع بشيء منها.

فهذا مثل القلب الذي لا يقبل العلم ولا الفقه والدراية فيه, وإنما هو بمنزلة الأرض البوار التي لا تُنبتُ ولا تحفظ الماء, وهو مثل الفقير الذي لا مال له, ولا يُحسنُ يمسك مالاً.

فالأول عالم معلم, داعٍ إلى الله على بصيرة, فهذا من ورثة الرسل.

والثاني حافظ مُؤدٍّ لما سمعه, فهذا يحمل إلى غيره ما يتجر به المحمول إليه ويستثمر.

والثالث لا هذا ولا هذا, فهو الذي لم يقبل هُدى الله, ولا رفع به رأساً.

فاستوعب هذا الحديث أقسام الخلق في الدعوة النبوية, ومنازلهم, منها قسمان سعيدان, وقسم شقي.

فعلى العاقل الناصح لنفسه أن ينظر من أي الأقسام هو, ولا يغتر بالعادة ويُخلد إلى البطالة.

فإن كان من قسم سعيد انتقل منه إلى ما هو فوقه, وبذل جهده, والله ولي التوفيق والنجاح.

وإن كان من قسم شقي انتقل منه إلى منه إلى القسم السعيد في زمن الإمكان, قبل أن يقول:   {يا ليتني اتخذتُ مع الرسول سبيلاً }  [الفرقان:27]

من أعظم التعاون على البر والتقوى التعاون على سفر الهجرة إلى الله ورسوله:

من أعظم التعاون على البر والتقوى التعاون على سفر الهجرة إلى الله ورسوله, باليد واللسان والقلب, مساعدةً ونصيحةً, وتعليماً, وإرشاداً, ومودةً.

ومن كان هكذا مع عباد الله كان الله بكل خير إليه أسرع, وأقبل اللهُ إليه بقلوب عباده, وفتح على قلبه أبواب العلم, ويسَّره لليسرى, ومن كان بالضد فبالضد,  {وما ربك بظلامٍ للعبيد}   [فصلت:46]

زاد هذا السفر وطريقه ومركبه:

فإن قلت: فقد أشرت إلى سفر عظيم,...فما زاد هذا السفر وما طريقه وما مركبه؟

قلت: زاده العلم المورث عن خاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم, ولا زاد له سواه.

وأما طريقه: فهو بذل الجهد, واستفراغ الوسع, فلن يُنال بالمُنى, ولا يُدرك بالهوينا.

وأما مركبه: فصدقُ اللجأ إلى الله, والانقطاع إليه بكليته, وتحقيق الافتقار إليه من كل وجه, والضراعة إليه, وصدق التوكل عليه, والاستعانة به.

ورأس مال الأمر وعموده في ذلك إنما هو: دوام التفكر وتدبر آيات القرآن, بحيث يستولي على الفكر, ويشغل القلب, فإذا صارت معاني القرآن مكان الخواطر من قلبه وهي الغالبة عليه, بحيث يصير إليها مفزعة وملجؤه, تمكن حينئذ الإيمان من قلبه, وجلس على كرسيه.

ومن أراد هذا السفر فعليه بمرافقة الأموات الذين هم في العالم أحياء, فإنه يبلغ بمرافقتهم إلى مقصده, وليحذر من مرافقة الأحياء الذين في الناس أموت, فإنهم يقطعون عليه طريقه...قال بعض من سلف: شتان بين أقوام موتي تحيا القلوب بذكرهم, وبين أقوامٍ أحياءٍ تموت القلوب بمخالطتهم.

فوائد متفرقة:

* البرُّ كلمة لجميع أنواع الخير والكمال المطلوب من العبد.

* للإيمان فرحة وحلاوة ولذاذة في القلب, من لم يجدها فهو فاقد للإيمان أو ناقصه.

* قال طلق بن حبيب: " إذا وقعت الفتنة فادفعوها بالتقوى" قالوا: وما التقوى ؟ قال: أن تعمل بطاعة الله على نور من الله, ترجو ثواب الله, وأن تترك معصية الله على نور الله, تخاف عقاب الله.

* المقصود من اجتماع الناس وتعاشرهم التعاون على البر والتقوى, فيعين كلُّ واحد صاحبه على ذلك علماً وعملاً.

* الهديةُ النافعةُ كلمة من الحكمة يهديها الرجل إلى أخيه المسلم.

* ما على العبد أضرُّ من عشرائه وأبناء جنسه, فإن نظره قاصر, وهمتُه واقفة عند التشبه بهم, ومباهاتهم والسلوك أيّة سلكوا, حتى لو دخلوا جحر ضب لأحبَّ أن يدخل معهم.

* ثلاث كلمات كان يكتب بها بعض السلف إلى بعض, فلو نقشها العبد في لوح قلبه يقرؤها على عدد الأنفاس لكان ذلك بعض ما يستحقه, وهي: " من أصلح سريرته أصلح الله علانيته, ومن أصلح ما بينه وبين الله أصلح الله ما بينه وبين الناس, ومن عمل لآخرته كفاه الله مؤنة دنياه.

                               كتبه / فهد بن عبدالعزيز بن عبدالله الشويرخ

  • 6
  • 1
  • 3,036

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً