اغتنم اللحظة واقطع حبال التسويف
أبو حاتم سعيد القاضي
يُرْوَى عن الحسن البصري رحمه الله قال: "ما أطالَ عبدٌ الأملَ إلا أساءَ العملَ".
- التصنيفات: مساوئ الأخلاق -
كان الإمام البخاري رحمه الله يذهب للنومِ فتعرِضُ له الخاطرةُ من العلم فيقومُ يكتُبُها ثم يرجِعُ ينامُ، ربما فعل هذا في ليلهٍ بضعَ عشرة مرةً، يقومُ فيوقِد السِّراجِ، فيكتب ثم ينام. إنه لا يؤجل هذه الخاطرة الثمينةَ للغد؛ لعلَّه إذا جاء الغد وما كتبَها لا يجدُها.
كان ابن الجوزي رحمه الله تعرِضُ له خواطرُ من العلمِ فلا يكتُبُها ويُمَنِّي نفسَه أن ربما يتذكَّرُها ويكتُبها فيما بعد، لكنه وجد في هذا خسارةً عظيمةً، فعزَم على تقييدِ كلِّ خاطرةٍ تجُولُ في عقلِه في كتابٍ له دون تأجيلٍ أو تسويفٍ، قال رحمه الله: "لما كانت الخواطر تجول في تصفُّحِ أشياءَ تعرِضُ لها، ثم تُعرِضُ عنها فتذهَبُ، كان من أولَى الأمورِ حفظُ ما يخطُرُ، لكي لا يُنسَى، وكم قد خطرَ لي شيءٌ، فأتشاغَلُ عن إثباتِه فيذهبُ، فأتأسَّف عليه؛ فجعلْت هذا الكتاب قيدًا لصيدِ الخاطرِ".
إنَّ من أخطرِ الأبوابِ التي يدخلُ منها الشيطانُ إلى العبدِ طولُ الأملِ، والأمانيّ الخدَّاعة التي تجعلُ صاحِبَها في غفلةٍ شديدةٍ عن الآخرةِ، واغترارٍ بزينةِ الحياةِ الدنيا.
يُرْوَى عن الحسن البصري رحمه الله قال: "ما أطالَ عبدٌ الأملَ إلا أساءَ العملَ".
ويُقالُ: "أربعة من الشقاء: جمودُ العينِ، وقسوةُ القلبِ، وطولُ الأملِ، والحرصُ على الدنيا".
وقيل: "الأمانيُّ بحرٌ لا ساحلَ له يركبُه مفاليسُ أهلِ الدُّنيا".
وفي الحديث الحسن بطرقه قال صلى الله عليه وسلم : "صلاحُ أوَّلِ هذه الأمَّةِ بالزَّهادةِ واليقِينِ، وهلاكُهَا بالبُخْلِ والأمَلِ".
إن طول الأمل يضيعُ عليك الوقتَ في الاشتغالِ بما ينفَعُكَ ويُفِيدُكَ، وقِصَرُ الأملِ يجعلُك تأخُذُ الاستعدادَ والأُهْبَةَ لأمْرِكَ حتي لا تُؤْخَذَ علي غفْلةٍ.
قال عبد الحق الإشبيلي رحمه الله: "الأمل يكسلُ عن العملِ، ويُورِثُ التراخي والتواني، ويُعقِبُ التَّشاغلَ والتقاعُسَ، ويُخلِدُ إلى الأرضِ، ويُميلُ إلى الهوى، وهذا أمرٌ قد شُوهدَ بالعَيانِ فلا يحتاجُ إلى بيانٍ، ولا يُطلَبُ صاحبُه ببرهانٍ. كَمَا أَن قصره يبْعَث على الْعَمَل وَيحمِلُ على المُبادرة ويحثُّ على المسابقةِ".
لا تسترسِلْ في أحلامِك، وتطمَحُ إلى المثاليَّةِ التي لا وجودَ لها في الواقعِ، فتؤجِّلَ ما تستطيعُ فعلَه الآن رغبةً في الوصول إلى أعلى درجةٍ من المثاليةِ في الغدِ، بل ابدأ الآن وابذُلْ وسْعَكَ وسوف تُحقِّقُ أحلامَك مع مرورِ الأيام، أنا إذا جلستَ مكانك، واعتمدْتَ على ما يأتي به الغدُ فلن تخطُوَ خطوةً للأمام.
أيها السَّكرانُ بالآمالِ قد حان الرَّحيلُ
فانتَبِه من رقدَةِ الغفلةِ فالعمرُ قليلُ
واطرَحْ سوف وحتى فهما داءٌ دخيلُ
كم مرةٍ قلتَ: غدا أتوب؟ لقد قلتها كثيرا، وها هي سنواتٌ مضَتْ، ولا زِلْتَ على معاصيك وذنوبِك، يا تُرى إلى متى ستظَلُّ تقولُ: غدًا؟ وهل إذا جاء الغَدُ ستكون من أهلِ الحياة أو من أهلِ القبورِ؟ كم من شخصٍ قال: غدًا أتوبُ، فنام ولم يستيقِظ.
يا مَن يُعِدُّ غدًا لتوبتِهِ أَعَلى يقينٍ من بُلوغِ غدِ
المرءُ في زلَلٍ على أملٍ ومَنيَّةُ الإنسانِ بالرَّصَدِ
أيامُ عمُرِك كُلُّها عدَدٌ ولعلَّ يومَكَ آخرُ العددِ
{ {يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى * يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} } [الفجر: 23 - 24]، لقد ندم يومَ القيامةِ على ما مضى من عمُرِه، لقد قضى أيامَه في معصية ربِّه، حتى أدركتْه المنيَّة وما تاب من ذنبِه، أفنى زهرَة حياته يقول: "غدًا سوفَ أتوب".
دعِ الأماني، واقطعِ التسويفَ، ولا تقل: غدًا أتوبُ، بل تُبِ الآن، ولا تدَعِ الذنوبَ تتراكَم على قلبِك، فيثقُلُ حِملُك، ويضعُفُ إيمانُك، إنَّ كلَّ ذنبٍ تؤجِّلُ التوبةَ منه عبءٌ عليك.
تؤمّلُ أنك يومً تتوبْ
وتشكو الذنوبَ وأنتَ الذنوبْ
وفي كل يومٍ تبوء بذنبٍ
وعيبٍ يُضاف لباقي العيوبْ
تؤمّل أنك تحيا طويلا
وشمسك مالت وحان الغروبْ
ابدأِ الآن واقطَعْ حبالَ التسويفِ، ضَعْ قدمَك على بداية الطريقِ وستجِدُ التوفيقَ بإذن الله تعالى، يقولون: رحلةُ الألفِ ميلٍ تبدأ ُبخطوةٍ واحدةٍ، عليك البداية الصادقةُ، وعلى الله التمام، أما إذا ظلَلْتَ تُسوِّف وتؤجِّل فسوف يضيعُ الوقتُ، وينقضِي العمر، ولا تزالُ في مكانك، فلا تقُل غدًا أتوبُ، أو غدًا أجودُ؛ فإنه إذا مضَى زمانٌ لا يعودُ.
"غدا سوف أتوبُ، غدا سوف أقومُ الليل، سوف أحفظُ القرآنَ، سأحافظُ على الصلاةِ" كم مرة رددْتَ هذه الكلمات، لينتهِيَ بك الحال وما فعلْتَ شئيا، ومرَّتْ أيامٌ بل ربما سنونَ ولا زلت تُردِّدُ نفسَ الكلمات
قال ابن المعتز:
جدَّ الزمانُ وأنتَ تلعبُ والعمرُ لا في شيءٍ يذهبُ
كمْ كم تقول غداً أتوبُ غداً والموتُ أقربُ
ويقولون: "إنَّ أكثرَ صياحِ أهلِ النارِ من التسويفِ".
تخيل لو قالوا لك: غدا تموت، ماذا أنت فاعلٌ؟ هل تتوبُ من ذنوبِك اليومَ؟ هل تجتهِدُ في عبادةِ ربِّك؟ هل تزيدُ من صلاتِك وصيامِك؟
قال عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله: لو قيلَ لحمادِ بن سلمةَ: إنك تموتُ غدًا، ما قدَرَ أن يزيدَ في العملِ شيئًا. قال الذهبي رحمه الله: كانتْ أوقاتُه معمورةٌ بالتَّعبُّدِ والأورادِ.
وعن أبي عوانة رحمه الله قال: لو قيلَ لمنصورِ بن زَاذان: إنَّك تموتُ غدًا، ما كان عندَه مزيدُ.
لا أحد يضمَن أن يعيشَ للغد، فقد يأتي عليك الغد وأنت من أهل القبور، فكيف سيكون حالك إذا جاءك الموت وقد ضيعْتَ عمرك في الأماني والأحلام، فأتيت ربَّك وقد أثقلتْك الذنوبُ، وأتعبتْك المعاصي؟
عن الحسن البصري رحمه قال: "إيّاكَ والتسويفَ، فإنّك بيومِك، ولستَ بغدك، فإنْ يكن غدٌ لك، فكنْ في غدٍ كما كنتَ في اليوم، وإنْ لم يكن لك غدٌ، فلنْ تندمَ على ما فرَّطتَ في اليومِ".
يقولون: "التسويفُ رؤوسُ أموالِ المفاليس".
إنما التسويف أماني وأحلام لا قيمة لها في الواقع إلا إذا لازمَها عزيمةٌ وإصرارٌ، وجِدٌّ واجتهادٌ. إنه عدوُّ الإنسان الذي يريدُ الصَّلاح والارتقاء، إنه سلاحٌ يصرف به الشيطان الناسَ عن الخير، ويقعُد بهم في زَوايا الخُمول والفشلِ.
قال الغزالي رحمه الله: "ما مثالُ المُسوِّفُ إلا مثالُ من احتاجَ إلى قلْعِ شجرةٍ، فرآها قويةً لا تنقلِعُ إلا بمشقَّةٍ شديدةٍ، فقال أؤخِّرُها سنةً، ثم أعودُ إليها وهو يعلم أن الشجرةَ كلما بقِيت ازدادَ رسوخُها، وهو كلما طالَ عمره ازدادَ ضعفُه، فلا حماقةَ في الدنيا أعظمُ من حماقتِه، إذ عجَزَ مع قوَّتِه عن مقاومةِ ضعيفٍ فأخذ ينتظرُ الغلبةَ عليه إذا ضعف هو في نفسه وقوي الضعيف".
إن أسوأ ما في التسويف والتأجيل اتخاذ ذلك عادة لك، إنها عادةٌ سلبيةٌ لا تؤدِّي إلا إلى مزيدٍ من الصعوباتِ والمشكلاتِ، وتعقيدِ الأمورِ أكثر. قال الكاتب الأمريكي (أولين ميلر): "إن أردت أن تجعل مهمة سهلة، تبدو أصعب، فقط قم بتأجيلها لبعض الوقت".
فتذكر أن عمرك سوف يضيع هباء منثورا إذا سلمت نفسك لهذا الداء الفتاك التأجيل والتسويف، لن تتقدم خطوة إلى الأمام إلا إذا قطعت حبال التسويف، وبدأت في تحقيق أهدافك وأحلامك من هذه اللحظة.
ابدأ في إعادة ترتيبِ أولوياتك، وجدولةِ حياتِك، واجعل لكل عملٍ وقتَ بدايةٍ ووقتَ نهايةٍ، ولا تترك أعمالَك مفتوحةَ الوقتِ، فمعرفةُ أن لهذا العملِ وقتَ نهايةٍ يكون حافزًا قويًّا لتنجزه في أقرب وقت.
حدد هدفك، وانطلق نحوه بعزيمة وإصرار، واقطع حبال التسويف والتأجيل فإنها تضيع أحلامك وأهدافك.
حاسب نفسك في نهاية كل يوم، واعرف أسباب التقصير والخلل، وتعلم من أخطاء يومك ليكون الغد مشرقا.
قد يكون التأجيل والتسويف صوابا إذا كان لهدف وغاية، قد يكون صوابا إذا كانت له نتائج إيجابية، قد يكون صوابا إذا لم يكن عائقا عن إنجاز المهام واتخاذ القرارات في الوقت المحدد، قد يكون في بعض الأحيان صوابا، لكنه في كثير من الأحيان خطأ، ويؤدي لخسارة.
في ديوان الشافعي رحمه الله قال:
تزوَّد من التقوى فإنك لا تدري إذا جنَّ ليلٌ هل تعيشُ إلى الفجرِ
فكم من سليمٍ ماتَ من غير علَّةٍ وكم من سقيمٍ عاشَ حينًا من الدهرِ
وكم من عروسٍ زيَّنوها لزوجِها وقد نُسِجَتْ أكفانُها وهي لا تدرِي