طالبُ العلم في زمن «الكورونا»!
مشاري بن سعد الشثري
مقالة حول استثمار الوقت في زمن انتشار وباء كورونا وحظر الخروج من البيوت واتساع أوقات الفراغ.
- التصنيفات: طلب العلم -
(1)
تمرُّ على طالب العلم أزمنةٌ ذهبيَّةٌ لتحصيله المعرفي، يتهيَّأ له فيها من سعة الوقت وانصراف الشواغل ما يكون عونًا له على الخَطْوِ واسعًا في طريق تحصيله .. هذه الأزمنة هي ما يبرهن على صدق طلبِه إنْ هو استغلَّها، ومتى ما فرَّطَ في هذه الأزمنة المهداة كان ذلك طعنًا في عدالة جدِّيته.
عليه في هذه الأزمنة: أن يسعى في تكثيفِ تحصيله، وسدادِ ديونه العلمية، أن يقلِّب دفتر المهام، ويقيِّدُ ما عسى أن ينجزه من مشاريعَ وأعمال، ثم يبسطَ سجادة قراءته، ويبدأ في تسجيل أرباحه العلمية دون فتور.
وفي هذه الأيام نعيشُ مرحلةً عصيبةً بفُشُوِّ هذا الوباء «كورونا» -كفى الله المسلمين شرَّه-، حتى اضطرَّ واحدُنا للزوم بيته، وتجرَّع الناسُ مرارةَ هذا الاضطرار، وامتُحِنَ صبرُهم في دقائقه الأولى فنَفِدَ أو كاد .. وأما الموفَّقُ فهو من يقرأ في صفحات هذه المِحْنة نصوصَ المِنَح، ويبحث في فجواتها عن مسالكَ ينفُذُ من خلالها إلى مدارج الرقي والرفعة، وينشغل بتحصيل العلوم، ناويًا بذلك التقرُّبَ إلى الله تعالى ومدافعةَ البلاء بصالح العمل، والعلمُ من أشرفِ ذلك وأرفعِه.
وقد قال الخليل بن أحمد (170هـ): (إني لأغلق عليَّ بابي، فما يجاوزُه همِّي)[1]. ولذلك بلغ أنْ كان الخليلَ .. ونحنُ، فقد أُعِنَّا بأنْ غُلِّقَتْ أبوابنا، فلنُرِ أنفسَنا من منجَزَاتنا خيرا.
(2)
قال أحمد أمين (1373هـ):
(قليلٌ من الزمن يُخصَّص كلَّ يومٍ لشيءٍ معيَّنٍ قد يغيِّرُ مجرى الحياة، ويجعلُكَ أقومَ مما تتصوّر وأرقى مما تتخيَّل)[2].
وقال مارون عبود (1381هـ):
(إنَّ ساعةً تُنتَزَعُ كلَّ يومٍ من ساعات اللَّهْوِ وتُستَعمَلُ فيما يفيد تُمكِّنُ كلَّ امرئٍ ذي مقدرةٍ عقليَّةٍ أن يتضلَّعَ من علمٍ بتمامه)[3].
وفي زمن «الكورونا»، بوُسْعِ طالب المعرفة أن يخَصِّصَ الكثير لا القليل، ساعاتٍ لا مجرَّد ساعة .. وإذا واظب في هذه الأيام على ذلك الكثير وتلك الساعات كان خليقًا بحصد الكثير من المنجَزَات، وما عليه ليتمكَّن من ذلك إلا التحلِّي بحِلْية الصَّبر، وللصبرِ -كما يقول ابن الجوزي- حَلاوةٌ تبين في العواقب.
ولأنَّ هذه المرحلة عابرةٌ لا قارَّة، استثناءٌ لا أصل، محدودةٌ لا ممدودة = فمِنَ الرأيِ لطالب العلم أن يخصص لها مشروعًا ينقطعُ له ويقبلُ عليه، مشروعًا علميًّا متكاملًا يحقِّق به طالبُ العلم منجَزًا في أحد مجالات العلم والمعرفة.
هذا المشروع من شأنه أن يكون قصيرَ المدى، ولكنه عظيمُ الفائدة والعائدة، له مبدأٌ ومنتهًى، يُحقِّقُ به المرءُ مُنجَزًا معرفيًّا مكتملَ الأركان، أيًّا ما كان ذلك المشروع، قراءةً أو حفظًا أو تأليفًا أو غير ذلك.
وخاصَّةُ هذه الفَلَتات المرحليَّة العابرة أنها تجعل للمشروع العلمي موقعًا مكينًا من ذهنيَّة طالب العلم، لتماسكه بسبب قرب إنجازه واتضاح حدوده، كما أن ذلك يُروِّضُه على فضيلة الانقطاع للعلم وجمع الهم عليه.
(3)
قال أبو هلال العسكريُّ (400هـ):
(اجتهدْ في تحصيل العلم لياليَ قلائلَ، ثمَّ تذوقْ حلاوة الكرامة مُدَّةَ عمرك، وتمتَّع بلذَّة الشرف فيه بقيَّة أيامك، واستَبْقِ لنفسِك الذِّكرَ به بعد وفاتك)[4].
لتكنْ وصيَّةُ أبي هلالٍ هذه نصب عينَيْك هذه الأيام، ثم إن ها هنا أمورًا من الحَسَنِ استصحابُها وأنت ترسم خارطة مشروعك في زمن الكورونا:
الأول: لا تشتِّت مشروعك هذه الأيام بكثرة التنقُّلات، ولا بكثرة المشاورات، بل حدِّدْ لك غايةً وانطلق إليها، «فإذا عزمتَ فتوكَّل على الله»، لا تلتفت، فالمشروعُ لِيَنجحَ بحاجةٍ إلى مزيدِ تركيزٍ وتكثيفٍ للنظر في مساحات معينة دون تشعُّثِ همٍّ وانتقالِ خاطر.
الثاني: أعِدَّ مجلسَ مشروعك بعناية، أسرِفْ في إعداده وترتيبه وتطييبه، فإن لذلك أثرًا بالغًا في تهيئة النفس للإنجاز والتحصيل.
الثالث: اجعل لمجلس مشروعك حُرْمَةً لا تُنتَهَك، لا تزاحمْه بغيره، حدِّد له أوقاتًا لا يشاركه فيها غيره، وأوَّلُ ذلك أن تخلِّص مجلسك من وسائلِ التواصل الاجتماعي .. اُركُلْ -بلا رحمةٍ- هاتفَك بعيدًا عنك، ولا تخفْ، فلن يتواصل معك أحدٌ لتُسعِفَ العالم بلقاحٍ لا يعرفه سواك! ثم إن لك في هامش يومك سعةً في متابعة ما تشاء من وسائل التواصل، وأمَّا زمن فاعليَّة المشروع فاجعله خالصًا له.
الرابع: لتكنْ أيَّامُ مشروعك هذا كالشركاء المتشاكسين، يقايض بعضُها بعضًا .. لا تُجْرِ بين أيامك عقودَ تبرُّع، ولك في أجزاء يومِك الواحدِ ما يغنيك عن الاقتراض من بقية الأيام، إذا فاتك نصيب الفجر فأدِّه الظهر، أو العصرِ فأدِّه المغرب، اجعل لكل يومٍ من أيامك هدفًا خاصًّا تحقق به مرحلةً من مشروعك، وإياك والتأجيلَ، فإنما سَيلُ العثرات اجتماعُ نُقَطِ التأجيل.
(4)
كثيرةٌ هي المشاريع المعرفية التي تصلح أن تكون موطنَ اشتغال طالب العلم هذه الأيام، فمن ذلك مثلًا: (مصاحبةُ عَلَمٍ) من أعلام الكتَّاب، وذلك بأن تدفن نفسَك في أعطاف مصنفاته وما كُتِب حوله، سواء كان من المتقدمين أو المتأخرين، فتقرأ ما كُتِب في ترجمته، ثم تقرأ مصنفاته إن كانت قليلةً، أو تنتقيَ أبرزها إن كان من المكثرين، وتطالع أبرز الدراسات التي كُتِبَت عنه وعن نتاجه، فلا تخرج من هذه الأيام إلا وقد خَبَرْتَ ذلك العَلَم ونتاجَه العلمي، وربما كانت هذه المصاحبة فاتحةَ مشاريعٍ أخرى متصلة به، وصحبة الفحول -على ما قيل- تُفحِّلْ!
وكثيرٌ هم الأعلام الجديرون بمثل هذه المشاريع، سواء في العلوم الشرعية أو العربية أو غيرها، كالشافعي، والجاحظ، وابن قتيبة، وأبي حيان التوحيدي، وأبي العلاء المعري، وابن حزم، والغزالي، وابن تيمية، وابن الوزير، والسعدي، والمُعَلِّمِي .. وغيرهم كثير
ومن المشاريع: مصاحبةُ موسوعة معرفية .. ويحسُنُ ألَّا تكون الموسوعةُ فاحشَةَ الطول، لئلا يفتُرَ العزم في أثنائها، كما يحسُنُ أن تكون من الموسوعات التي لا تحتاج أزيدَ من قراءتها، لا أن تكون من الموسوعات المعرفية الثقيلة في مضمونها، وذلك حتى لا يضطرَّ القارئ إلى الوقوف كثيرًا عند مشكلاتها، وأنسبُ ما لذلك كتبُ التاريخ والتراجم والمجاميع الأدبية، فهي دانيةٌ سهلةُ المتناول.
هذا بالنسبة لعموم القُرَّاء، وأما المتخصِّصُ في أحد العلوم فله شأنٌ آخر، فإن له من القدرة على جَرْدِ مطولات فنِّه ما لا يتيسر لغيره، ومن مليح الأخبار في ذلك أن الحافظ برهان الدين سبط ابن العجمي بلغه أنَّ الشيخ بهاء الدين ابن عقيل حُكِيَ له عن قَيِّمِ مسجد النارنج بالقرافة أن الشيخ عز الدين بن عبد السلام كان يخرج إلى المسجد يوم الأربعاء ومعه «نهاية المطلب» للجويني، فيمكث بالمسجد يوم الأربعاء، ويوم الخميس، ويوم الجمعة إلى قبيل الصلاة، فينظر في هذا الوقت «النهاية»!
فهذه يومان وبعضُ يومٍ طالع فيها العز بن عبد السلام «نهاية المطلب» للجويني، إلَّا أنَّ هذا الخبر لم يقع من الشيخ بهاء الدين موقعَ القبول، فقال: (أنا أستبعد ذلك). وهذا الاستبعادُ منه يقوِّيه أنَّ كتابًا بضخامةِ نهاية المطلب -وهو مطبوعٌ في 19 مجلدًا إذا أسقطنا مجلَّدَي المقدمات والفهارس– مع عويصِ ألفاظه وتراكيبه، وكونهِ جامعًا فقهيًّا مشحونًا بكثير من المسائل والنقول والأقاويل = يصعب إنجازه في مثل هذا الوقت.
غيرَ أنَّ للسراج البلقيني رأيًا آخرَ، فقد بلغه استبعاد الشيخ بهاء الدين لهذا الخبر، فدفعه بقوله:
(ولا أستبعد! لأن الشيخ عز الدين لا يشكل عليه منها شيء، ولا يحتاج إلى أن يتأمَّل منها إلا شيئًا قليلًا، وأنا أنظر مجلدًا في يوم واحد).
فهنا بيَّن البلقيني أن العبرة ليست بكثرة المجلدات، بل بالعقلية التي تعالج تلك الكثرة، فعقلٌ كعقل العزِّ وقد ارتاض طويلًا بمذهبه الشافعي وخَبَرَ مداخله ومخارجه يكفيه اليسير من الزمن لطيِّ هذه المجلدات، لأنه لن يقف مع جمهور ما يلقاه منها طويلًا، إذْ قد سبقتْ إلى ذهنه واستقرَّتْ من ضبطٍ متقدِّمٍ ومعالجةٍ ناجزةٍ.
ثم إنَّ سبط ابن العجمي حمل هذا التعليقَ البلقينيَّ إلى شيخه سراج الدين ابنِ الملقِّن، فأيَّده بقوله: (أنا نظرت مجلدين من «الأحكام» للمحب الطبري في يوم واحد)[5].
فهذه ثلاثة شواهد دالةٌ على أن القارئ – لا المقروء – هو مبدأ الأمر ومنتهاه، وأن المتخصص بوسعه قراءة الكثير جدا في الزمن القليل، فالعزُّ يقرأ «النهاية» في 3 أيام، والبلقيني يقرأ مجلدًا منها في يوم واحد، وابن الملقن يقرأ في يوم واحد مجلدين من «الأحكام» للمحب الطبري، وما ذلك إلا لسبق خبرتهم وفضل تخصصهم.
ثمَّ إن من المفيد في مصاحبة موسوعةٍ ما أن يحدد القارئ لنفسه قضايا وموضوعات يجمع لها القارئ الشواهدَ والفوائدَ من تضاعيف تلك الموسوعة، وذلك بحسب مادَّة الموسوعة، كأن يجمع من موسوعةٍ في التراجم ما يتصل بوسائل التعلم والتعليم، أو تقييم الكتب، ونحو ذلك، وكم من كتابٍ أُلِّف من وَحْي أمثال هذه القراءات.
ولكلِّ قارئ همومُه الخاصة، والحاجة هي الباعثة على اختيار الموسوعات التي من شأنها القفز بصاحبها بعيدًا في مجالات المعرفة، وقد حدثني أحد أصحابي عن تجربةٍ له في ذلك، فقال:
(أثار بعضُ المعاصرين جملةً من الإشكالات حول موضوع البدعة، واستطال بعضهم بنصوص لابن تيمية يظن فيها سَنَدًا لشبهاته، فكان ذلك حافزا لي على مراجعة المشروع التيمي، فأخذت مجموع الفتاوى وقرأت مجلداته الخمسة والثلاثين في شهر تقريبًا).
وحدثني صاحبٌ آخرُ عن تجربته لما أراد الاطلاع على التاريخ الغربي المعاصر، فقال:
(أردت الإشراف على التاريخ الغربي المعاصر، فاقتنيت «موسوعة هوبز باوم» في التاريخ الغربي الحديث، وهي تقع في أربعة أجزاء في قرابة أربعة آلاف صفحة، فأنهيتها بفضل الله في أسبوعين).
(5)
ومن الأفكار: (مصاحبةُ فنٍّ) .. وذلك باعتماد كتابٍ مختصرٍ في أحد العلوم، بحيث يمكن أن يُدرَسَ في مدة وجيزة، فيقرأه الطالب بتمعُّنٍ وتدقيقٍ، ثم يطالع عليه شرحين أو ثلاثة من الشروح المختصرة، مع تقييد فوائدها والبحث عن مشكلاتها.
وهنا أتذكَّر العلامة عبد العزيز الميمني الراجكوتي (1398هـ)، وهو أحدُ أبرز أعلام الأدب واللغة في العصر الحديث، فقد درس أوَّلَ طلبه للعلم بعضَ علوم العربية، لكنه لم يحظَ بإتقانها، حتى جابهه أحدُ طلبة العلم بسؤال عن وَزْنِ كلمتين ومعناهما، فلم يُجِبْه واعترف له بجهله وقلة معرفته، فعيَّره السائل بأنه إذا لم يعرف هاتين الصيغتين فلا حاصلَ له في الترقِّي إلى الكتب الفخمة، فما كان منه إلا أن تفرَّغ لأحد الكتب المختصرة في الصَّرف، ولازمه مصاحبًا بعض شروحه، فكان من نتاج ذلك ما ترى خبرَه في كلامه .. قال رحمه الله:
(أنا أرى كلمتَه هذه نقطةَ الانتقال في حياتي العلميَّة، وذلك أنني بقيت في بعض زوايا المدرسة أفكر في شأني، وأنني غريب بـ «دِهْلِي» عن الأبوين والوطن، وقد أضعتُ ثلاثةَ أعوامٍ من دون أن أعرف الكلمة التي علَّمنيها الشيوخ، قد وثقت تمام الثقة أن لن يحصلَ لي من هؤلاء الشيوخ كبيرُ فائدةٍ، وأنَّي لن أستفيَد في المستقبل شيئًا إلَّا إذا ما جعلتُ شيخي نفسي، ولا أراجع أحدًا منهم، وأجعل حجي رايةً وأخطو إلى الإمام، ولن يتأتَّى ذلك إلا إذا ما فرغتُ عمَّا أنا في صدده من جميع النواحي، فأذكر أنني انتخبت «فصول كبرى» -كتابٌ في الصرف كالشافية– وجمعتُ نحوَ ثلاثة شروح، كنتُ آخذُ فصلًا أو بابًا من الفصول، وكنتُ أفكر في معناه وتفسيره غاية التفكير، ثم أراجع هذه الشروح الفارسية، فإذا ما قضيتُ حاجتي منها أراجع هذا الباب بعضه في «شافية» ابن الحاجب بالعربية، وربما أزيد في ذلك بمراجعة بعض شروح «الشافية» أيضًا، بحيث أنني كنت أرى نفسي عارفةً بهذا الباب خاصَّةً، فكنت بهذه الصورة أفرغ كلَّ يوم من باب من الأبواب، ولعل كتابنا «فصول كبرى» لا تزيد أبوابه ثلاثين، فكأني بهذه الصورة فرغتُ من جميع كتب الصرف في ثلاثين يومًا، ولا وقصَ ولا شطَطَ)[6].
فهذه (30) يومًا عدَّها الميمنيُّ نقطةَ الانتقال في حياته العلمية، وقدح بها شرارةَ الحذق في العربية، حتى كان بعدَ حينٍ من أعلامها.
ومن لطيف الأخبار المتصلة بذلك ما حدث لمحمود الطناحي (1419هـ)، وذلك أنه لما تحدث عن بواكير اشتغاله بالتحقيق ذكر أنه كان يعمل مع نفرٍ من المستشرقين، ومن أولئك د. هانس رويمر، أحدُ المستشرقين الألمان، فقد عمل معه في تحقيقه لكتاب «الدر الفاخر في سيرة الملك الناصر» لابن أيبك الدواداري من مؤرِّخي القرن الثامن .. قال الطناحي:
(في أثناء قراءتي معه للنص جاء هذا البيت:
مَلِكٌ مُنشِدُ القريضِ لديه *** يضعُ الثَّوبَ في يَدَيْ بَزَّازِ
فسألني ذلك المستشرق: من أي بحرٍ هذا البيت؟ فأطرقتُ إطراقةً بلهاء، تَبِعَتها ضحكةٌ أشدُّ منها بلاهةً. فقال لي المستشرق منكِرًا متعجِّبًا: طالبٌ بدار العلوم، متخرجٌ من الأزهر، لا يعرف العَرُوض؟ فكأنَّما ألقمني الرجل أحجارَ «إِمْبَابَةَ» كلِّها، وعدتُّ إلى بيتي خاسئًا حسيرًا، أجرُّ رجلي جرًّا من الزَّمَالِك، حيث يقع المعهد الألماني للآثار، إلى داري بالدَّرْبِ الأحمر خلفَ دار الكتب المصرية آنذاك، وما إن وصلتُ إلى بيتي مهدودًا مثقَلًا بعناء الخيبة والمشي الطويل حتى هُرِعْتُ إلى صندوق الكتب الدراسية القديمة، واستخرجتُ منه كتاب «المذكرات الوافية في عِلمَي العروض والقافية» لمؤلفه الشيخ عبدالفتاح شراقي رحمه الله، وهو ما كان مقرَّرًا علينا في الأزهر، وانكببتُ عليه لا أكادُ أديرُ وجهي عنه صباحَ مساءَ، وما هي إلَّا أسابيعُ قليلةٌ حتَّى لانت لي البحور، واستقرَّت أنغامُها في أذني، وامتلأ بها سمعي، ثم كان ما كان من رحلتي الطويلة مع تحقيق النصوص، ومن أدواته معرفةُ علم العَرُوض .. وهكذا من انقطع إلى شيءٍ أتقنه)[7].
أسابيعُ قليلةٌ ألانَتْ علمًا كاملًا للطناحي، وسرُّ ذلك تلك الحقيقةُ الجليلةُ التي ختم بها الطناحي خبرَه .. «من انقطع إلى شيءٍ أتقنه»!
(6)
ومن الأفكار: (مصاحبةُ موضوعٍ) .. بأن ينتقي المرء في موضوعٍ ما عدةَ كتب تكون من مهماته، فإذا عايش في هذه الأيام ذلك الموضوعَ وقرأ فيه عدةَ كتبٍ تفتحت له آفاقه واتضحت له خارطته وامتلك أبرز مفاتيحه.
وأذكر أني أَثَرتُ على أحد أصحابي بعضَ السؤالات المتعلقة بالمعاملات المالية المعاصرة والبحوث المكتوبة فيها، فكان يتكلم عن شاذِّها وفاذِّها باسترسال مذهل!
وفي أثناء محاورتي له بيَّن لي ما كشف الغطاء عن سبب تلك المعرفة السيَّالة، وذلك بقوله:
(تقدَّمتُ إلى دائرة عملي بطلب إجازة مدةَ أسبوعين، ثم صرتُ أذهب كل يوم إلى مكتبة الملك عبد العزيز من أول الصباح حتى العاشرة مساءً، فجردت كلَّ ما فيها من كتب المعاملات المالية المعاصرة، وكتبت عن كل كتابٍ تقريرًا).
ومن الأفكار: (مصاحبةُ مهارة) .. ومن شواهد ذلك أن عبد الوهاب المسيري انتقل بعد تخرُّجِه من مدرسة «دمنهور» الثانوية إلى «الإسكندرية»، ولما ذهب إلى قسم اللُّغة الإنجليزية وآدابها بكلية الآداب في «جامعة الإسكندرية» صُدِم بأن الجميع كان يتحدث باللُّغة الإنجليزية، وحتى المصريون الخُلَّص كانوا أجانب، إذ كانوا لا يعرفون العربية على حد قوله، ولكنه لم يقف مكتوف اليدين، بل قرر أن يدخل تحدِّيًا معرفيًّا يتجاوز فيه عقبة جهله باللُّغة الإنجليزية ليتمكن من المسير في هذا القسم بلا تعثُّر، قال متحدِّثًا عن نفسه:
(قررتُ التحرُّكَ بسرعةٍ لأكتشفَ الآليَّات الجديدة المطلوبة لتحقيق البقاء، وأهمها إجادة اللُّغة الإنجليزية، فحبستُ نفسي في غرفة لمدَّة شهرٍ كاملٍ، لا أسمع إلا الإذاعات المتحدثة بالإنجليزية، ولا أقرأ سوى الجرائد والمجلات الإنجليزية، وعُدتُّ بعد الفصل الدراسي الأول وقد تملكتُ ناصية اللُّغة بشكل أدهش أساتذتي!)[8].
فهذه (30) يومًا تمكَّن فيها المسيري من إجادة اللغة الإنجليزية .. ولكلٍّ منا تطلعاتٌ لحصد الكثير من المهارات، من تعلم للغةٍ، أو تحذُّقٍ على كتابةٍ، أو غير ذلك، والوسائل الحديثة ساقتْ إلينا الكثير من المواد المقروءة والمسموعة والمرئية التي تعيننا على ذلك.
(7)
هذه بعضُ أفكارٍ لمشاريع، أملاها الخاطر العابر، ومن سعادة طالب العلم أن مجالات المعرفة رَحْبَةٌ واسعة، والأفكار المتصلة بها لا حصر لها.
ومن لطيف الأفكار ما يتصل بكشف مظانِّ المعرفة والخبرة بمصادرها، والحاجة إلى ذلك مما يستوي فيه طلاب المعارف بمختلف تخصصاتهم، فإن الخبرة بمظان المعرفة ومصادرها أمرٌ لا بد أن يكون محلَّ اعتناء جميع المشتغلين بالعلم، فالعلمُ وإن لم تمكن الإحاطة بحقائقه وأطرافه، إلَّا أنَّ الوقوف على مظانِّه ممكنٌ وإن كان عسيرًا، وليس القصدُ من مظانِّه أن يدركَ طالبُ العلم الكتبَ الرئيسةَ في كلِّ علمٍ فحسب، فهذا مما يُنالُ بالورقة والورقتين، بل الشأن أن يَعلَمَ أينَ تُبحَثُ مشكلاتُ العلم ودقائقُه، ويَعلَمَ موقع كل كتاب من سلسلة مصادر العلم ومدى تأثره وتأثيره، وكيف يتعامل معها ويفيد منها، ويميِّز بين كتب الفن وأعلامه ومدارسه، فإن لذلك أثرًا في وزن مسائل العلم، وقد أوفى الطناحي (1419هـ) على الغاية يوم أن قال: (معرفةُ مظنَّة العلم نصفُ العلم)[9].
والمقصود هنا أن يسعى طالب المعرفة لأن يتعرَّف إلى مصادر المعرفة، ويتتبعها، ويعرف موضوعاتِها، ومخابئَ مظانِّها، وذلك يتحصَّلُ له بقراءة مقدمات الكتب وفهارسها ومقدمات محققيها، وينظر فيما كُتِبَ من مقالاتٍ تستعرض الكتب وتقدم مراجعاتٍ لها.
ومن الموسوعات المعينة على ذلك: «تراث الإنسانية»، ففيها ما يبهج طالب المعرفة ويثري خبرته بمظان العلم ومصادره.
(8)
كان أبو عبد الله البصري يُصنِّف والشدائدُ تنهَشُ حالَه، حيث لا طعامَ عنده ولا شراب، وقد دخل عليه أبو الحسن الأزرق يومًا وهو يصنف، فأراد ماءً عنده فلم يجده، وبحث عن طعام فلم يحصِّله، فقال لأبي عبد الله: (أتصنِّفُ ولا طعامَ ولا شرابَ عندك وأنتَ جائع!). فوضع أبو عبد الله قلمه والجزء الذي بين يديه وقال: (إذا تركت التعليق هل يحصل الطعام والشراب؟). قال: (لا). فقال أبو عبد الله: (فَلَأَنْ أعلق ولا يضيع وقتي أولى!).
وكتب عبد الرحمن بن محمد الزبيري (في أيام عطلته كثيرًا من كتب العلم، كـ «الروضة» و «المهمات»، وكان لضيق حاله عن شراء الورق يكتب في أوراق التقاليد والمراسيم وما أشبهها).
كما كتب نصر الدين الطوسي كتابه «رسالة أخلاق ناصري» لما كان محبوسًا عند القرامطة في قلعة «ألموت»، وصنف السرخسي الحنفي موسوعته الجليلية «المبسوط»، والمطبوعة في (30) مجلدًا وهو محبوسٌ في بئر، وكان يقيد ذلك في خواتيم بعض الأبواب، كقوله بعد فراغه من أبواب العبادات: (هذا آخر شرح العبادات بأوضح المعاني وأوجز العبارات، إملاء المحبوس عن الجُمَع والجماعات)[10].
والأخبار في هذه الباب كثيرة، فلم تقعد بهؤلاء الأكابر عن تحصيل الفضائل فاقةٌ ولا شدَّة، بل ربما كانت تلك الأحوالُ منطَلَقًا لكثيرٍ من أعمالهم ومشاريعهم .. وإذا نظرت في الموسوعات التراثية التي صنفها أعلامنا، ثم قلَّبتَ طرفك في واقع حياتهم وما عليه مجتمعاتُهم وجدت أن كثيرًا من تلك الموسوعات صُنِّفَت تحت ظلال الشدائد.
ولا تزال تطوف بخاطري تلك الجملة التي وَصف بها الشيخ عبد الله البسَّام (1423هـ) الشيخَ عبد الله بن حسن آل الشيخ (1378هـ) في أثناء ترجمته له .. أعني قولَه عنه:
(وفي الوقت الذي انشغل الناس فيه بالفتن والمحن شَغَلَ نفسه بتحصيل العلوم وإدراك الفضائل ومعالي الأمور)[11].
ما أعظمَها!
رغم بلائي بذاكرتي المثقوبة، إلا أنها لم تزل تحتفظ من ترجمة الشيخ بهذه الفضيلة العزيزة النادرة، هذه القدرة الفائقة على التحكُّم بالنفس وضبط اشتغالاتها.
العلمُ -يا صاحبي- عزيز، ومن عزِّته نفرتُه من الهموم المشاركِة، ولا سيَّما هموم الدنيا وسطوة الأحداث المحيطة، وكلَّما كان الطالبُ أملَكَ لهمِّه كان أحظى بالنبوغ في علمه، فلا بُدَّ له من حيازةِ همه وجَمْعِ خاطره، وفلاحُ طالب العلم مرهونٌ بمدى استطاعته على تقليصِ هموم دنياه والحدِّ من نفوذ محيطه عليه، وحين يطالع القارئُ السيرَ والتراجمَ بحثًا عن أحوال العلماء للاقتداء بنهجهم فلا يقفْ بصرُه عند حدود الأوصاف المثبتَة بالحروف، بل لِيتعَدَّ إلى ما وراءَ ذلك، إلى انصرافِهم عن الهموم المتشاكسة، والنَّأْيِ بأنفسهم عن الاستغراق في الأحداث المحيطة، فقد كانت بين أئمة العلم والهموم الدنيوية والأحداث المحيطة بهم مسافةٌ فاصلةٌ، تُطوى حينًا وتُمَدُّ أحيانًا، وما حصَّلوا تلك المسافة إلا لأنهم يملكون ذواتهم، وبذلك نالوا من العلم ما نالوا.
صاحبي .. لا تُهدِر وقتك بفُتات الأخبار فإنها لا تنقضي، ولا تُهْلِك زمنك بما عليه غالب الناس من سفاسف الاهتمامات، ويرحمُ الله التاجَّ السبكيَّ (771هـ) الَّذي أدرك ما ينبغي أن يُملَأَ به وقتُ طالب العلم، ويُجمَعَ عليه همُّه، فكتبَ بمدادٍ مِلْؤُهُ الضَّنُّ بهَمِّ طالب العلم أن يُصرَفَ عمَّا خُلِق له بعد أن أورد طرفًا من أخبار التتار وجنايتهم على أهل الإسلام:
(ومن النَّاس من أفرد التصانيف لأخبارهم، وَيَكْفِي الفَقِيهَ مَا أوردناه، فأوقاتُ طالبِ العلمِ أشرفُ أن تضيعَ في أخبارهم إلَّا للاعتبار بها)[12].
وأنتَ .. فخُذْ من خبر «الكورونا» ما تحفظ به نفسَك، واستثمرْ ما أُحِيط به هذا الوباء من عزلٍ وحجرٍ بما تنمِّي به عقلك وتُعلِي معرفتك، ودعْك مما ضيَّع به الناس أنفسَهم في أوقاتِ المحن، من الانشغال بما لا يعنيهم عما يعنيهم، ففاتهم بذلك خير الدنيا والآخرة.
[1] سير أعلام النبلاء (7: 431).
[2] فيض الخاطر (3 :85).
[3] حبر على ورق (172).
[4] الحث على طلب العلم والاجتهاد في جمعه (5).
[5] انظر هذا النقل وما تقدَّمه في «ذيل تذكرة الحفاظ» للحسيني (201-202).
[6] بحوث وتحقيقات للميمني (1: 19-20).
[7] في اللغة والأدب (1: 181-182).
[8] رحلتي الفكرية (130).
[9] في اللغة والأدب .. دراساتٌ وأبحاث (1: 288).
[10] انظر هذه الأخبار بإحالاتها في: «الحكمة العربية – دليل التراث العربي إلى العالمية» لـ د. محمد الشيخ (423 – 424).
[11] علماء نجد خلال ثمانية قرون (1: 231).
[12] طبقات الشافعية الكبرى (1: 342).