كورونا تتحدى أوروبا
التحذير أطلقه رئيس الوزراء الإيطالي جوسيبي كونتي الأسبوع الماضي، عندما أكد على أن الاتحاد الأوروبي "قد يفقد سبب وجوده" في حال ارتكابه "أخطاء فادحة" في مكافحة فيروس كورونا، وتنبأ بحالة كساد غير متوقعة قد تغرق أوروبا.
- التصنيفات: أحداث عالمية وقضايا سياسية -
هذا التحذير أطلقه رئيس الوزراء الإيطالي جوسيبي كونتي الأسبوع الماضي، عندما أكد على أن الاتحاد الأوروبي "قد يفقد سبب وجوده" في حال ارتكابه "أخطاء فادحة" في مكافحة فيروس كورونا، وتنبأ بحالة كساد غير متوقعة قد تغرق أوروبا.
ولم يكن موقف إيطاليا هو الموقف الأوروبي الوحيد، فقد نقل دبلوماسي لوكالة انباء أنباء رويترز تحذيرا مماثلا عن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي وجهه لزعماء الاتحاد الأوروبي منذ يومين، وملخصه أن تفشي فيروس كورونا يهدد الدعائم الأساسية للتكتل الأوروبي مثل منطقة الحدود المفتوحة، إذا لم تبد دول التكتل تضامنا في هذه الأزمة.
ووفقا لرويترز، فقد قال ماكرون لباقي قادة التكتل وعددهم 26 خلال مؤتمر صحفي عبر الهاتف: "المشروع الأوروبي معرض للخطر... التهديد الذي نواجهه هو القضاء على منطقة الشنغن".
ومنطقة الشنغن أو الشنجن، هي منطقة الحدود المفتوحة بين الدول الأوروبية التي وقعت على اتفاقية الشنغن في 14 يونيو عام 1985م، حيث تم الاتفاق على إلغاء جواز السفر بين هذه الدول وعمل تأشيرة موحدة لجميع دول الاتفاق، وإلغاء كافة أشكال مراقبة الحدود وجعلها مفتوحةً لسكان هذه الدول بهدف تسهيل التبادل التجاري والسياحة بينها.
ولكن ماذا فعل كورونا بأوروبا؟
أولا/ الخسائر البشرية:
تقول الاحصائيات العالمية أن الإصابات المسجلة بفيروس كورونا في أوروبا تبلغ ما يقرب من 60% من إجمالي الإصابات العالمية، أما الوفيات فتمثل 70% من إجمالي الوفيات، ووفق آخر بيانات أوردتها وكالة فرانس برس عصر السبت 28 مارس، فإن عدد الوفيات في أوروبا بلغ أكثر من عشرين ألف وفاة بفيروس كورونا.
وتحتل خمسة دول أوروبية هي إيطاليا وإسبانيا وألمانيا وفرنسا وسويسرا، مراكز في قائمة أكثر عشر دول انتشر فيها الوباء، كما أن مجموع الوفيات في إيطاليا وإسبانيا يتجاوز نصف الوفيات المسجلة بالفيروس في العالم.
ثانيا/الخسائر الاقتصادية
تقول رئيسة قسم التجارة الدولية والسلع التابعة للأونكتاد باميلا كوك، إن من بين الاقتصادات الأكثر تضررا في العالم نتيجة تفشي فيروس كورونا هو الاتحاد الأوروبي، حيث قدرت هذه الخسائر بنحو 15.5 مليار دولار وذلك في الأسبوع الأول من مارس.
وعند مقارنة هذا الرقم بخسائر دول مثل أمريكا في نفس الفترة، نجد أن الخسائر المقدرة بسبب كورونا تبلغ ما يقرب من 5.8 مليار دولار واليابان 5.2 مليار دولار، أي أن خسائر أوروبا تقترب من ثلاثة أضعاف القوى الاقتصادية العالمية الأخرى.
الخسائر الاستراتيجية
ولكن الأمر لم يقتصر عند حد الخسائر البشرية أو الاقتصادية، ذلك أن عدداً من الممارسات والقرارات التي اتخذتها عدة دول أوروبية ألقت بظلالٍ من الشك على مدى جدوى استمرار هذا التكتل، ففي سابقة خطيرة صادرت جمهورية التشيك شحنة من المساعدات الطبية والأقنعة الواقية كانت قادمة من الصين في طريقها إلى إيطاليا، حيث تقول حكومة التشيك إن الأمر وقع بالخطأ خلال ملاحقة عدد من الأفراد الذين يتاجرون في المعدات الطبية في هذا الوقت الحرج، وتعهدت برد الشحنة لإيطاليا، وهو ما لم يحدث حتى الآن.
أما ألمانيا أحد أكبر قوتين في أوروبا، فقد قررت حظر تصدير مستلزمات الوقاية الطبية للخارج، وأعلنت لجنة إدارة الأزمات التابعة للحكومة أن وزارة الصحة الاتحادية ستتولى تدبير هذه المستلزمات على نحو مركزي بالنسبة للعيادات الطبية والمستشفيات والسلطات الاتحادية، وسيُجرى استثناء ذلك فقط تحت شروط ضيقة، مثل التصدير في إطار حملات إغاثة دولية.
لكن الأمر الأكثر إثارة هو الموقف الايطالي، إذ شنت الصحف الإيطالية هجوماً عنيفاً على الاتحاد الأوروبي، غداة قرار بإرجاء اعتماد تدابير قوية في مواجهة التداعيات الاقتصادية لتفشي وباء كورونا المستجد، في حين هدد رئيس الوزراء الإيطالي جوسيبي كونتي خلال القمة التي نظمت عبر الفيديو، بعدم التوقيع على الإعلان المشترك في حال لم يعتمد الاتحاد تدابير قوية "مرفقة بأدوات مالية مبتكرة وملائمة بالفعل لحرب يتوجب علينا خوضها سوياً".
وكشف كونتي، أنه خلال اجتماع المجلس الأوروبي الخميس حصلت مواجهات "شديدة وصريحة" مع المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، لأن بلاده تعيش أزمة أسفرت عن عدد كبير من الضحايا، وتسببت في ركود اقتصادي شديد.
وأضاف أنه قال خلال الجلسة "أمثّل بلدا يعاني كثيرا، ولا يمكن أن أسمح لنفسي بالمماطلة.
واعتبر رئيس الوزراء الإيطالي أن حكومته -وأيضا حكومات دول أخرى أعضاء الاتحاد الأوروبي- باتت مُرغمة على اتخاذ "خيارات مأساوية".
وتابع "ينبغي علينا تجنّب أن نتخذ في أوروبا خيارات مأساوية. إذا لم تُثبت أوروبا أنها على مستوى هذا التحدي غير المسبوق، فإن التكتل الأوروبي بكامله قد يفقد في نظر مواطنينا سبب وجوده".
وقال كونتي أيضا، إنه أثناء جلسة المجلس الأوروبي أوضح للذين يريدون تطبيقا طويل المدى للآلية الأوروبية للاستقرار، أنه لا حاجة لاستنفاد الإمكانات، فهذه الآلية أُنشئت لإنقاذ الدول الأعضاء التي تواجه توترات مالية مرتبطة بمواجهتها صدمات ذات وقع غير متكافئ، أما فيروس كورونا فيتسبب في صدمة وطأتها متماثلة، وسيغرق الأنظمة الاقتصادية والاجتماعية في حالة كساد بطريقة متزامنة وغير متوقعة.
ورأى كونتي في ذلك شيئا مختلفا تماما عن الأزمة المالية التي حدثت عام 2008، وقال إننا أمام لحظة حرجة من التاريخ الأوروبي.
وكانت ألمانيا ودول شمال أوروبية أخرى قد رفضت مناشدة تسع دول، من بينها إيطاليا الأكثر تضرراً، من أجل الاقتراض الجماعي من خلال "سندات كورونا" للمساعدة في تخفيف الضربة الاقتصادية للوباء.
واختارت صحيفة "فاتو كوتيديانو" الايطالية عنوان "كونتي يقول لأوروبا ميتة أن تذهب إلى الجحيم"، كما عنونت "لا ريبوبليكا" ذات الخط السياسي المؤيد للاتحاد الأوروبي تقليدياً، "أوروبا قبيحة".
وبدورها، اعتبرت صحيفة "كورييري ديلا سيرا" أنّه "في حال افتقد الاتحاد الأوروبي إلى اتفاق، فإنّ هذا يعني أنّ المشروع الأوروبي نفسه قد انتهى".
ودخلت البرتغال أيضا على خط النزاعات، فقد انتقد رئيس الوزراء البرتغالي أنطونيو كوستا ما أسماه "التفاهة المتكررة" للحكومة الهولندية، التي تعد عادة واحدة من أقوى المدافعين عن الانضباط في ميزانية الاتحاد الأوروبي، وقال: "هذا الحديث بغيض في إطار الاتحاد الأوروبي، هذه هي الكلمة بالتحديد: بغيض".
ولبيان حجم الانشقاق الأوروبي الناتج عن نفشي فيروس كورونا، يمكننا رصد أربعة مشاهد ذات دلالات كبيرة تشهد على عمق الأزمة التي تمر بها أوروبا:
الأول كان مشهد المدرعات والعربات الروسية التي تجوب شوارع إيطاليا حاملة على متنها مساعدات وأطقم طبية.
أما المشهد الثاني فهو مشهد الأطباء الكوبيين، الذين وصلوا إلى إيطاليا أيضاً والترحيب الهائل الذي قوبل به أطباء الدولة التي تفرض أمريكا عليها حظراً منذ عقود.
والمشهد الثالث هو مشهد تقبيل الرئيس الصربي لعلم الصين، اعترافاً منه بدعمها ومساندتها لبلاده.
والرابع هو مشهد إنزال مواطن إيطالي لعلم الاتحاد الأوروبي ورفع علم الصين بدلاً منه.
وبالرغم من مشاهد الرعب والانتكاسة الأوروبية بسبب فيروس كورونا يتبقى المشهد في دولة بيلاروسيا أو روسيا البيضاء المشهد الأوروبي أو ربما العالمي المتفرد، إذ أعلنت هذه الدولة تجاهل فيروس كورونا ويقول رئيسها "لا حاجة لاتخاذ أي تدابير وقائية ضد انتشار فيروس كورونا ...هذه الأمور واردة وأهم شيء هو عدم الذعر!".
ولم تغلق بيلاروسيا دور السينما ولا المسارح، كما لم تحظر أي احتفالات جماعية.
ولم تلغ مباريات كرة القدم، ولا تزال مباريات الدوري الممتاز في بيلاروسيا تنعقد وتُبثّ عبر التليفزيون.
ويقول رئيسها "إن المحاريث كفيلة بعلاج فيروس كورونا" يقصد العمل الجاد في المزارع، وقد أصدر أوامره لجهاز المخابرات في البلاد بـ "تعقّب الأوغاد" الذين ينشرون الذعر بين الجماهير.
الملفت أن زعيم المعارضة في هذا البلد، الذي طالما اتخذ مواقف معاكسة لهذا الرئيس إلا أنه عند هذا الموقف أيد الرئيس وقال إنه مُحقّ، لأنه يعتقد أن إعلان الحجر الصحي في أنحاء البلاد كفيل بالقضاء على اقتصادها، ويصف زعيم المعارضة ما فيه العالم بأنه حالة من "الجنون العام"، ويعتقد أن الموقف البيلاروسي وعدم القيام بأي شيء حيال هذا الفيروس هو العقل.
إن أخطر ما تواجهه أوروبا في هذه الأزمة، هو أنه بدلا من اعتبار تنمية الشعور بهوية أوروبية مشتركة بين الدول الأوروبية مسعى استراتيجي للاتحاد الأوروبي، لأنه هو الخيار الوحيد لبقاء الاتحاد، أصبح الحديث عن الهويات القومية أو الوطنية لكل دولة على حدة، وبدأ كل شعب يعود إلى سياسة انغلاق داخل حدوده، وهذه مسألة نفسية في الأساس وترتبط بالمصلحة الضيقة التي لا ترى أبعد من حدودها وشعبها وقوميتها.