الصبر في زمن الابتلاء

منذ 2020-07-12

الحمد لله وعد الصابرين على الابتلاء بقوله: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}.

الصبر في زمن الابتلاء

الحمد لله وعد الصابرين على الابتلاء بقوله: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}  [1] وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله القائل «مَا يَزَالُ البَلَاءُ بِالمُؤْمِنِ وَالمُؤْمِنَةِ فِي نَفْسِهِ وَوَلَدِهِ وَمَالِهِ حَتَّى يَلْقَى اللَّهَ وَمَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ»[2] صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم ومن تبعه تسليماً كثيراً...

 

أمّا بعد:

فاتقوا الله عباد الله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [3] لقد ترجم الصحابة رضي الله عنهم آيات الصبر التي بلغت نحواً من تسعين آية في القران الكريم إلى واقع عملي، وبنظرةٍ سريعة نأخذ أنموذجاً منهم في صبره وقت بلاء الأوبئة والطواعين، فهذا أبو عبيدة رضي الله عنه أمين هذه الأمة - ومن أحباب رسول الله صلى الله عليه وسلم كما ذكرت ذلك عائشة رضي الله عنها - إذ لمّا أُمِرَ الناس في التفرق بالجبال صبر أبو عبيدة رضي الله عنه وبقي قائماً على شؤون الباقين والمصابين حيث قال معلِّلاً سبب ثباته: إِنِّي فِي جُنْدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لَا أَجِدُ بِنَفْسِي رَغْبَةً عَنْهُمْ»[4].

 

وروى ابن المبارك عن الحارث بن عميرة أنه قَالَ: قَالَ أَخَذَ بِيَدِي مُعَاذُ بنُ جَبَلٍ فَأَرْسَلَهُ إِلَى أَبِي عُبَيْدَةَ فَسَأَلَهُ كَيْفَ هُوَ! وَقَدْ طُعِنَّا فَأَرَاهُ أَبُو عُبَيْدَةَ طَعْنَةً خَرَجَتْ فِي كَفِّهِ فَتَكَاثَرَ شَأْنُهَا فِي نَفْسِ الحَارِثِ وَفَرَقَ مِنْهَا حِيْنَ رَآهَا فَأَقْسَمَ أَبُو عُبَيْدَةَ بِاللهِ مَا يُحِبُّ أَنَّ لَهُ مَكَانَهَا حُمْرَ النَّعَمِ"[5] اهـ. وما ذاك إلا لصبره وقوة إيمانه بقضاء الله وقدره..

 

وروى الطبري بإسناده: لما اشتعل الوجع (الطاعون) قام أبو عبيدة في الناس خطيباً فقال: "أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ هذا الوجع رحمة بكم، ودعوة نبيّكم، وموت الصالحين قبلكم.."[6].

 

وعن سعيد المقبري قال: لما أصيب أبو عبيدة قالوا لمعاذ بن جبل: «صلِّ بالناس»، فصلى معاذ بهم، ثم خطب فقال: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ تُوبُوا إِلَى اللَّهِ مِنْ ذُنُوبِكُمْ تَوْبَةً نَصُوحًا، فَإِنَّ عَبْدَ اللَّهِ لَا يَلْقَى اللَّهَ تَائِبًا مِنْ ذَنْبِهِ إِلَّا كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يَغْفِرَ لَهُ» ثُمَّ قَالَ: «إِنَّكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ فُجِعْتُمْ بِرَجُلٍ وَاللَّهِ مَا أَزْعُمُ أَنِّي رَأَيْتُ مِنْ عَبَّادِ اللَّهِ عَبْدًا قَطُّ أَقَلَّ غَمْزًا وَلَا أَبَرَّ صَدْرًا، وَلَا أَبْعَدَ غَائِلَةً، وَلَا أَشَدَّ حُبًّا لِلْعَاقِبَةِ، وَلَا أَنْصَحَ لِلْعَامَّةِ مِنْهُ فَتَرَحَّمُوا عَلَيْهِ رَحِمَهُ اللَّهُ.."[7] وذلك هو أبو عبيدة بن الجراح، فترحموا عليه رضي الله عنه.

 

لقد قضى في طاعون عمواس عددٌ كبير من الناس بلغ نحواً من ثلاثين ألفاً وأصيب به مئات الآلاف منهم خيار صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم كأبي عبيدة عامر بن أبي الجراح ومعاذ بن جبل، ويزيد بن أبي سفيان، وشرحبيل بن حسنة، وبلال بن رباح، والفضل بن العباس، وأبو مالك الأشعري، وضرار بن الأزور، وغيرهم رضي الله عنهم.. وقد ترجموا آيات الصبر والثبات حتى إنّ معاذَ بن جبل رضي الله تعالى عنه قال :سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : «سَتُهَاجِرُونَ إِلَى الشَّامِ فَيُفْتَحُ لَكُمْ وَيَكُونُ فِيكُمْ دَاءٌ كَالدُّمَّلِ أَوْ كَالْحَرَّةِ يَأْخُذُ بِمَرَاقِّ الرَّجُلِ يَسْتَشْهِدُ اللَّهُ بِهِ أَنْفُسَهُمْ ، وَيُزَكِّي بِهِ أَعْمَالَهُمْ اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ سَمِعَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَعْطِهِ هُوَ وَأَهْلَ بَيْتِهِ الْحَظَّ الْأَوْفَرَ مِنْهُ ، فَأَصَابَهُمُ الطَّاعُونُ فَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ أَحَدٌ فَطُعِنَ فِي أُصْبُعِهِ السَّبَّابَةِ ، فَكَانَ يَقُولُ : مَا يَسُرُّنِي أَنَّ لِي بِهَا حُمْرَ النَّعَمِ» [8].

 

نعم أيها الأحبة المسلم لا يطلب الابتلاء ولا المرض بل يتعوذ منه، كما تعوذ النبي صلى الله عليه وسلم من البرص والجنون والجذام وسيئ الأسقام[9]، وعليه أن يبذل كافة الأسباب الشرعية والكونية والمادية التي تقيه بإذن الله من الإصابة بهذا الوباء أو ذاك، كما اجتهد عمر رضي الله عنه في عدم دخول الشام لما أصيبت، وكما اجتهد عمرو بن العاص رضي الله عنه في تفرقة الناس في الجبال.. لكنّ المؤمن إذا أصيب فعليه الرضا بقضاء الله وقدره فذلك يُعَدُّ رحمةً له وخيراً قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ، صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ»، رواه مسلم[10]. أقول قولي هذا وأستغفر الله..

 

الخطبة الثانية:

الحمد لله استجاب لأيوب عليه السلام لما ناداه، {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [11]) وكشف ما به مِن ضُرٍّ وآتاه أهله ومثلهم معهم رَحْمَةً مِّنْه وذكرى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له لا يطيل الشدائد على المؤمنين إذ يبشرهم فيقول  {إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا}، وأشهد أنّ محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعه وسلم تسليماً كثيراً..

 

ثم أمّا بعد:

إذا حقق المؤمنون التقوى وصبروا، وتابوا، ولجؤوا، وتضرعوا إلى الله، وأكثروا من الاستغفار، وتفاءلوا، وتوكلوا على ربهم، وبذلوا الأسباب الشرعية مع المادية، رفع الله عنهم البلاء والوباء، بل جعله الله رحمةً لهم كما جعل الطاعون رحمةً للصحابة رضي الله عنهم، أمّا إذا ركنوا للماديات وتعلقوا بأسباب البشر فقط، وكلهم الله لما تعلقوا به فـــ «مَنْ تَعَلَّقَ شَيْئًا وُكِلَ إِلَيْهِ» [12] كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم ..ثم لنعلم أيها الأحبة أننا في شهر حرام يعظم فيه الأجر ويعظم في الوزر، فلنُرِ اللهَ منّا توبةً صادقة وعملاً صالحاً ولنحذر المعاصيَ فليس بيننا وبين الله نسب.. {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [13].

 

عباد الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [14]

 


[1] [الزمر: 10].

[2] صحيح؛ أخرجه الترمذي (2399)، وصححه الألباني في "صحيح الجامع"(5815).

[3] [آل عمران: 200]..

[4] انظر: تاريخ الطبري = تاريخ الرسل والملوك، وصلة تاريخ الطبري (4/ 61)، الكامل في التاريخ لابن الأثير(2/377).

[5] أخرجه ابن المبارك في "الزهد" (883)، والحاكم (3/ 263)، والطبراني في "الكبير" (364)، وانظر سير أعلام النبلاء (3/17)، ط دار الحديث، قال محققها: حسن لغيره.

[6] تاريخ الطبري = تاريخ الرسل والملوك ط العلمية (2/ 488)

[7] أخرجه الحاكم في "المستدرك على الصحيحين"(5148)، وسكت عنه الذهبي في تلخيصه (5148).

[8] أخرجه أحمد(22088)، وقال محققوا المسند: "المرفوع منه صحيح لغيره، وهذا إسناد ضعيف لانقطاعه".

[9] عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ البَرَصِ، وَالْجُنُونِ، وَالْجُذَامِ، وَمِنْ سَيِّئِ الْأَسْقَامِ» صحيح؛ أخرجه أبو داود(1554)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن أبي داود.

[10] صحيح مسلم (2999).

[11] [الأنبياء: 83].

[12] حسن؛ أخرجه الترمذي (2072)، وحسنه الألباني في "غاية المرام"(297)

[13] [التوبة: 36].

[14] [الأحزاب: 56].

_______________________
د. صغير بن محمد الصغير

  • 2
  • 0
  • 3,164

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً