الهجرة النبوية إلى المدينة

منذ 2020-08-18

بينما ينظر البعض إلى الهجرة كذكريات عطرة تتجدّد كل عام، يرى الحكماء وأصحاب العقول الراجحة في هذا الحدث نصراً يُضاف إلى رصيد الجماعة المؤمنة، وهروباً من حياة الظلم والاستعباد، إلى الحياة الحرّة الكريمة...

بينما ينظر البعض إلى الهجرة كذكريات عطرة تتجدّد كل عام، يرى الحكماء وأصحاب العقول الراجحة في هذا الحدث نصراً يُضاف إلى رصيد الجماعة المؤمنة، وهروباً من حياة الظلم والاستعباد، إلى الحياة الحرّة الكريمة، وبداية مرحلةٍ جديدة من الصراع بين الإسلام والكفر، والحق والباطل، حتى صار تاريخاً للمسلمين يؤرّخون به أحداثهم.

 

 

وللوقوف على أهمّية الحدث، واستشعار أبعاده، يجدر بنا أن نعود إلى الوراء بضعة عشر قرناً من الزمان، وتحديداً في العام الثالث عشر من البعثة، حين نجحت جموع المؤمنين في الخروج من مكة، واستطاعت أن تتغلّب على المصاعب والعقبات التي زرعتها قريشٌ للحيلولة دون وصولهم إلى أرض يثرب، ليجدوا إخوانهم الأنصار قد استقبلوهم ببشاشة وجهٍ ورحابة صدر، وفتحوا لهم قلوبهم قبل بيوتهم، مما كان له أعظم الأثر في نفوسهم، ولم يبق في مكّة سوى نفرٍ قليل من المؤمنين ما بين مستضعفٍ ومفتونٍ ومأسورٍ.

 

وهنا أحسّت قريشٌ بالمخاطر التي تنتظرهم، وأدركت أنها لن تستطيع  تدارك الموقف وإعادة الأمور إلى نصابها إلا بالوقوف بأيّ وسيلة دون إتمام هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم  -.

 

ونتيجةً لذلك، كانت المؤامرات تدور في الخفاء للقضاء على النبي - صلى الله عليه وسلم  -، ففي يوم الخميس من شهر صفر اجتمع المشركون في دار الندوة وتشاوروا في الطريقة المُثلى لتحقيق مقصودهم، فمن قائلٍ بضرورةِ قتله عليه الصلاة والسلام والتخلّص منه، وآخر بحبسه وإحكام وثاقه، وثالثٍ بنفيه وطرده، حتى اتفقت الآراء على قتله، ولكن بطريقة تَعْجَز بنو هاشم معها عن أخذ الثأر، وذلك بأن تختار قريش صفوة فتيانها من جميع القبائل فيقوموا على النبي - صلى الله عليه وسلم  - قومة رجلٍ واحد ويقتلوه، ليتفرّق دمه بين القبائل، وفي هذه الحالة لن تستطيع بنو هاشم أن تقاتل سائر الناس، ولن يبقى أمامها سوى خيارٍ واحد هو قبول الدية، وصدق الله عزوجل إذ يقول: {وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين}  [الأنفال : 30].

 

 

ولم تكن قريش لتعلم أن الله سبحانه وتعالى أذن لنبيه بالهجرة إلى المدينة، فبينما هم يبرمون خطّتهم ويحيكون مؤامرتهم كان النبي - صلى الله عليه وسلم  - قد استعدّ للسفر، وانطلق إلى بيت أبي بكر رضي الله عنه في وقت الظهيرة متخفّياً على غير عادته، ليخبره بأمر الخروج.

 

 

وخشي أبو بكر رضي الله عنه أن يُحرم شرف هذه الرحلة المباركة، فاستأذن النبي - صلى الله عليه وسلم  - في صحبته فأذن له، فبكى رضي الله عنه من شدّة الفرح، وكان قد جهّز راحلتين استعداداً للهجرة، فلما أعلمه النبي - صلى الله عليه وسلم  -بقرب الرحيل قام من فوره واستأجر رجلاً مشركاً من بني الديل يُقال له عبد الله بن أُريقط، ودفع إليه الراحلتين ليرعاهما، واتفقا على اللقاء في غار ثورٍ بعد ثلاث ليالٍ، في حين قامت عائشة وأختها أسماء رضي الله عنهما بتجهيز المتاع والمؤن، ووضعا السفرة في وعاء، وشقّت أسماء نطاقها نصفين لتربط السُفرة بنصفه وقربة الماء بالنصف الآخر، فسمّيت من يومها بذات النطاقين.

 

 

وتسارعت الأحداث، وحانت اللحظة المرتقبة، وانطلق النبي - صلى الله عليه وسلم  -متخفّياً إلى بيت أبي بكر رضي الله عنه، وكان الميعاد بينهما ليلاً، فخرجا من فتحةٍ خلفيةٍ في البيت، وفي الوقت ذاته أمر النبي - صلى الله عليه وسلم  - علي بن أبي طالب رضي الله عنه بأن يتخلّف عن السفر ليؤدي عنه ودائع الناس وأماناتهم، وأن يلبس بردته ويبيت في فراشه تلك الليلة ؛ من أجل إيهام قريشٍ.

ونجح النبي - صلى الله عليه وسلم  - وصاحبه في الفرار من بين أيديهم، ولم يكشتفوا الأمر إلا عندما أصبح الصباح وخرج عليهم عليٌ رضي الله عنه وهو لابسٌ بردة النبي - صلى الله عليه وسلم  -، فجُنّ جنونهم، وأحاطوا به يسألونه عن النبي - صلى الله عليه وسلم  - وهو يتظاهر بالدهشة وعدم معرفته بمكانه، وانطلقت قريشٌ مسرعةً إلى بيت أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه، لأنّهم يعلمون أنه صاحبه ورفيق دربه، ولابد أن يصلوا من خلاله إلى معلومة تقودهم إلى وجهته، إلا أنهم فوجئوا برحيله هو الآخر، فساءلوا أسماء عن والدها، فأبدت جهلها، فغضب أبو جهل لعنه الله ولطمها لطمة أسقطت الحليّ من أذنها.

 

وبدأت محاولات المطاردة للنبي - صلى الله عليه وسلم  -، فقاموا بمراقبة جميع منافذ مكّة مراقبة دقيقة، وأعلنوا بين أفراد القبائل جائزة ثمينة لمن يأتي به حيّاً أو ميّتاً، وأرسلوا كلّ من له خبرة بتتبّع الآثار، وانطلقت جموعهم شمالاً علّهم يقفوا له على أثر.

 

وخالف النبي - صلى الله عليه وسلم  - بذكائه وحنكته كل توقعاتهم، فلم يتجه صوب المدينة مباشرة، بل ذهب إلى جهة الجنوب حتى بلغ جبلاً وعراً يُقال له " جبل ثور "، يوجد في أعلاه غار يصعب الوصول إليه، ويمكنهم المكوث فيه إلى أن يهدأ الطلب.

 

وقادت الجهود قريشاً إلى غار ثورٍ، وصعدوا إلى باب الغار، وبات الخطر وشيكاً، وبلغت أصواتهم سمع أبي بكر فقال رضي الله عنه : " يا رسول الله، لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا "، فأجابه الرسول - صلى الله عليه وسلم  - إجابة الواثق المطمئنّ بموعود الله : «يا أبا بكر ، ما ظنّك باثنين الله ثالثهما» ؟ ، وصدق ظنّه بربه، فإن قريشاً استبعدت وجود النبي - صلى الله عليه وسلم  - في هذا المكان، و انصرفت تجرّ أذيال الخيبة.

وأقام النبي - صلى الله عليه وسلم  -في الغار ثلاث ليالٍ، وكان عبدالله بن أبي بكر رضي الله عنهما يأتي كل يوم ليبلغهما أخبار قريش، و عامر بن فهيرة يأتي بالأغنام ليشربا من لبنها، ويخفي آثار عبدالله بن أبي بكر ، حتى جاء عبدالله بن أريقط في الموعد المنتظر، ومعه رواحل السفر.

وفي ليلة الإثنين من شهر ربيع الأوّل انطلق الركب إلى المدينة متّخذاً طريق الساحل، وظلوا يسيرون طيلة يومهم، و أبو بكر رضي الله عنه يمشي مرّة أمام النبي - صلى الله عليه وسلم  -، ومرّة خلفه، ومرّة عن يمينه، ومرّة عن يساره، خوفاً عليه من قريش، حتى توسّطت الشمس كبد السماء، فنزلوا عند صخرةٍ عظيمةٍ واستظلّوا بظلّها، وبسط أبو بكر رضي الله عنه المكان للنبي - صلى الله عليه وسلم  - وسوّاه بيده لينام، وبينما هم كذلك إذ أقبل غلام يسوق غنمه قاصداً تلك الصخرة، فلما اقترب قال له أبوبكر رضي الله عنه : لمن أنت يا غلام ؟، فقال : لرجل من أهل مكة، فقال له : أفي غنمك لبن ؟، فقال : نعم، فحلب للنبي - صلى الله عليه وسلم  -في إناء،  فشرب منه حتى ارتوى.

 

وفي هذه الأثناء استطاع أحد المشركين أن يلمح النبي - صلى الله عليه وسلم  - من بعيد، فانطلق مسرعاً إلى سراقة بن مالك وقال له : يا سراقة ، إني قد رأيت أناساً بالساحل، وإني لأظنّهم  محمداً وأصحابه، فعرف سراقة أنهم هُم، ولكنّه أراد أن يُقنع الرجل بأنّه واهم حتى يفوز بالجائزة وحده، ولبث سراقة في المجلس ساعة حتى لا يثير انتباه من معه، ثم تسلّل من بينهم وأخذ فرسه ورمحه وانطلق مسرعاً، فلما دنا منهم عثرت به فرسه حتى سقط، فتشاءم من سقوطه، وعاد مرة أخرى وامتطى فرسه وانطلق، فسقط مرة ثانيةً وتعاظم شؤمه، لكن رغبته في الفوز بالجائزة أنسته هواجسه ومخاوفه، ولما اقترب من النبي - صلى الله عليه وسلم  - غاصت قدما فرسه في الأرض إلى الركبتين، وتصاعد الدخان من بينهما، فعلم أنهم محفوظون بحفظ الله، فطلب منهم الأمان وعاهدهم أن يخفي عنهم، وكتب له النبي - صلى الله عليه وسلم  - كتاب أمان ووعده بسواريْ كسرى، وأوفى سراقة بوعده فكان لا يلقى أحداً يبحث عن النبي - صلى الله عليه وسلم  -إلا أمره بالرجوع، وكتم خبرهم حتى وصلوا إلى المدينة.

وفي طريقهم إلى المدينة نزل الرسول - صلى الله عليه وسلم  -وصاحبه بخيمة أم معبد ، فسألاها إن كان عندها شيء من طعامٍ ونحوه، فاعتذرت بعدم وجود  شيء سوى شاة هزيلة لا تدرّ اللبن، فأخذ النبي - صلى الله عليه وسلم  -الشاة فمسح ضرعها بيده ودعا الله أن يبارك فيها، ثم حلب في إناء، وشرب منه الجميع، وكانت هذه المعجزة سبباً في إسلامها هي وزوجها.

 

وانتهت هذه الرحلة بما فيها من مصاعب وأحداثٍ، ليصل النبي - صلى الله عليه وسلم  -إلى أرض المدينة، يستقبله فيها أصحابه الذين سبقوه بالهجرة، وإخوانه الذين أعدّوا العدة لضيافته في بلدهم، وتلك وقفة أخرى.

  • 3
  • 0
  • 3,038

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً