الهجرة دروس حركية في القيادة والجندية

مثنى الزيدي

فلم تكن الهجرةُ النبوية الشريفة حدثًا عابرًا في تاريخ الدَّعوة نحتفل به كُلَّ عام، ولم تكن حدثًا شخصيًّا يتعلق بحياة الحبيب - صلَّى الله عليه وسلَّم - بل كانت حدثًا غيَّر مجرى التاريخ،

  • التصنيفات: السيرة النبوية - الإسلام والعلم -

الحمد لله مُبدِّد الظلمات، ومُحيي الأرض بِبَعثة سيد السادات، وقائد القادات، وبطل الرجال، ورجل الأبطال، سيدنا محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهداه.

 

أمَّا بعدُ:

فلم تكن الهجرةُ النبوية الشريفة حدثًا عابرًا في تاريخ الدَّعوة نحتفل به كُلَّ عام، ولم تكن حدثًا شخصيًّا يتعلق بحياة الحبيب - صلَّى الله عليه وسلَّم - بل كانت حدثًا غيَّر مجرى التاريخ، ولذلك كان تجدُّد الوقفة مع الهجرة النبوية كل عام؛ للعظة والاعتبار، وللاهتداء والاقتداء، وبهدف التذكير بخط سير الدَّعوة، وعرض لواقعنا على أهدافها وغاياتها.

 

أولاً: حكمة بالغة:

إنَّ دعوةَ الله التي تسعى لإقامة خلافة الله في الأرض، ما لَم تكن مُتحركة من أرض ثابتة؛ حيث القيادةُ، والأنصار، والمنهج القويم المنفذ، فإنَّ أهدافَها ومبادِئَها يصعُب الوصولُ إليها، وإيجادُها في أرضِ الواقع، ولذلك كان ولا بُدَّ أنْ يكونَ للعصبة المسلمة من مَوطنٍ وموقع تتأسس فيه وتتربَّى عليه، وتستطيع أنْ تُمارس من خلاله عمليةَ التغيير، فكان هدفُ الرسولِ - صلَّى الله عليه وسلَّم - من الهجرة تكثير الأنصارِ، وإيجاد رأيٍ عامٍّ مساند للدَّعوة، واستكمال بناء هيكلِ الدعوة التنظيميِّ، والسعي لتوطين الدَّعوة وتأسيسها، ولتكوين الجماعة المسلمة والعصبة المؤمنة، التي تُقيم شرعَ الله وخلافته في الأرض، وقد علمنا من الهجرة أنَّ دوافِعَها لم تكن رَغَبًا ولا رَهَبًا، بل كانت الهجرةُ بَحثًا عن أرض جديدة؛ لنشر الدينِ الجديد، ولإقامة نظام عالمي جديد، يعيش في رحابه المسلمون، ويَتفيَّؤون ظِلاَله، وينعمون بعدله، وبما يَحفظ للدعوة كِيانَها ونَماءها، رغم العوائق والعقبات، التي تريد إعاقتَها عن القيام بدَوْرِها، وأداء رسالتها، وتوجيه وتطوير أدائها في العمل؛ لرفْعِ راية الإسلام، وإعلاء شأنِ المسلمين على هدي منها.

 

ثانيًا: قيادة راشدة:

كانت الهجرة وستظل أروعَ الأمثلةِ عَبْرَ التاريخ على القيادةِ الرَّاشدة الحكيمة، التي وضعت لعلماء الإدارة الكثيرَ من أصول علمهم، فكانتْ قيادة الحبيب - صلَّى الله عليه وسلَّم - جامعة لفنون ومَهارات القيادة والإدارة الفعَّالة، ومن ذلك:

أ‌- وضوح الهدف:

فهي قيادةٌ تعرف ماذا تريد؟ وتعرف ما وجهتها وما غايتها؟ وما الأهداف التي تسعى لتحقيقها في أرضِ الواقع؟ أهداف واضحة وسهلة التطبيق ومتدرجة، ولعلَّ الحركة الإسلامية أدركت ذلك، حينما حدَّدت بوضوحٍ أهدافَها، ورَسَمت سياستَها وخططها وَفْقَ تلك الأهداف، بدءًا من بناء الفرد المسلم، فالبيت المسلم، فالمجتمع المسلم.

 

ب‌- استشراف المستقبل:

فمنذ لحظة الدَّعوة الأولى، والقيادة تدرك أنَّ مكة لن تكون مقرًّا للدعوة، فكان استشرافُها للمستقبل، وإعداد (سيناريوهات) عدة: اختيار الحبشة أولاً لهجرة المسلمين، ثم الطائف، ثم المدينة، فكانت الهجرة صُورة من صور استشراف المستقبل الدعوي.

 

ت‌- الإيجابية الواقعية:

ونعني بها دراسة البيئة، وتوظيف المعلومات في اتِّخاذ القرار المناسب، وحسن التعامُل مع المتغيرات، وقد تَمثلت في تعامل القيادة مع الواقع بإيجابية، بدلاً من الاستسلام والسلبية.

 

ث- فقه التعامل مع الفرص والتهديدات:

القيادة الفعَّالة هي التي تحسن الاستفادة من الفرص المتاحة، وتحسن تفادي التهديدات القائمة، والاستفادة من طاقات ودعم ومساندة الغير في نُصرة الدَّعوة، ومن ذلك فرصة الهجرة في وقت تهديد القتل من قِبَل قريش، والاستفادة من طاقات ودعم سراقة.

 

ج- الحِرْص على طاقة الأتباع وحياتهم:

فتأخيرُ هجرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والأمر بخروج الأفراد سرًّا وفُرادى؛ حتى لا يعلمَ أحدٌ هدفَهم، فينقضُّوا عليهم جميعًا - فيه تأمينٌ لخروجهم، وعدم الإلقاء بهم في التهلُكة، بما يَحفظهم وطاقتهم؛ كي لا تتبددَ في غير موضعها؛ مُحافظةً على حياة وطاقات وإمكانات الجنود.

 

د- التأخير الإبداعي:

فليس كلُّ تأخير يكون سلبيًّا، فقد كان تأخُّر هجرةِ الحبيب بعد أصحابه من هذا النوعِ الإبداعي، والذي فيه حافز جيد لإنجاز المهام؛ لِمَا فيه من تروِّي القيادة، والبحث عن الظرف والوقت المناسِبَيْنِ، ولِمَا فيه من حُسن ترتيبٍ للأولويات، وقد تكون العجلة سببًا لانتكاسات كثيرة في العمل الإسلامي.

 

ذ- الأخْذ بالسنن والأسباب:

ضرب الرسول القائد أروعَ الأمثال في الأخْذ بالأسباب، واتِّخاذ أفضل الأسباب مع الاعتماد على الله مسبب الأسباب أولاً.

 

ر- دِقَّة التنظيم:

وقد تمثَّل الأمرُ في حياة القائد كلها، وفي الهجرة بخاصة، فلم يترك الأمورَ تسير بعفوية أو عشوائِيَّة، بل تتم من خلال تنظيم الأعمال، وتناسُقِها وحُسْنِ ترتيبها وتدرجها.

 

ز- العبقرية وحسن التخطيط:

متمثلة في تحديد الأهداف، والوسائل والإمكانيَّات، ووضع (سيناريوهات) عدة، ومراعاة الظروف المواكبة، فالمكان المؤقت غار ثور، وموعد الانطلاق بعد ثلاثة أيام، ووقت الخروج حين الظهيرة واشتداد الحر، وخط السير الطريق الساحلي.

 

س- فن إدارة الآخرين:

وحسن توظيف الطاقات، وانتقاء الأفراد بصورة مثالية، سواء كانتْ في القيادة أم الجندية، فتيان وشباب وشيوخ، رجال ونساء، مسلم وغير مسلم، فالشيوخ يُوفِّرون الدعمَ الماديَّ للمساندة والصُّحبة، والشباب والفتيان يقومون بالأعمالِ الفِدائِيَّة والاستخباراتِيَّة، أمَّا المرأة تقوم بدَوْرِها المناسب لطبيعتها، فالقائد محمد، والمساعد أبو بكر، والفدائي علي، والتموين أسماء، والاستخبارات عبدالله، والتغطية وتعمية العدو عامر، ودَليل الرحلة عبدالله بن أريقط.

 

ش- أخلاقِيَّات قياديَّة أخرى:

حل المشكلات بطرُق ابتكارية، كالهُدوء في التعامُل مع المشكلات، واستشارة المحيطين، والوضوح في التعامُلات والقرارات، ثم التبشير لا التخويف مهما كانت العَقَبات، وعدم تعجُّل النصر، إضافة إلى توافر الحس الأمني والسرية، والتورية عند الضرورة، وتواضع القيادة.

 

دروس تربويَّة وحركيَّة:

كانت الهجرةُ عامِرَةً بالكثير من الدُّروس التربوية والحركية، ولم يكن في السيرةِ حدَثٌ عامر بتلك الدروس سوى الهجرة، ففيها دروس عظيمة، وآمال واسعة عميقة لأصحاب الدعوات وحملة الرِّسالات، فما أحوجَنا إليها، ومن هذه الدروس:

1- الانتماء لله ولدينه ورسالته، والانتصار لدعوته، يَجب أن يقدَّم على كلِّ ولاء وانتماء.

2- التوكُّل على الله - تعالى - وحدَه في الأمور كافَّة، مع الأخذ بالأسباب، فالاثنان دليلان على قوة الإيمان.

3- مهما اشتد وعَظُمَ مكر أعداء الدين، فلن يبلغَ إطفاء نور هذا الدين.

4- السعي للتمكين في الأرض، بإقامة دولةِ الإسلام، هو الهدَف الأسمى لدعوةِ الله، ولا يتم إلا بالابتلاء.

 

نسأل الله - تعالى - أن يوفقنا لمرْضاته، وأن يُعينَنا على طاعته واتباعه؛ إنَّه سميع مجيب للدعوات، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين.