من كنوز الهجرة: صحبة الأخيار
محمد سيد حسين عبد الواحد
لتعلموا أيها المؤمنون أن أى مجتمع تسود فيه روح المحبة والصداقة الصالحة الناصحة لا يَضْعُف ولا يُقْهَر ولو كاد له أهل السماء والأرض..
- التصنيفات: السيرة النبوية -
بعد ما يقارب خمسة عشر قرناً من الزمان مرت على الهجرة لا تزال أحداث هجرة نبينا صلى الله عليه وسلم تمدنا بخيرها وبرها وتغذى إيماننا فى قلوبنا بما حوت من دروس وكنوز تنفع وتصلح ديننا ودنيانا إن عملنا بها..
ما قرأ أحد أحداث هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وما تدبرها انسان إلا رزق بعون الله تعالى فهما جديداً ينفعه فى عاجل أمره أو آجله تبقى سيرة نبينا صلى الله عليه وسلم مهما مرت عليها الأزمان معيناً لا ينضب وكنزاً لا يفنى..
واليوم موعدنا لنسلط الضوء على درس مستفاد من حديث الهجرة درس نافع شافع يقول:
(لا تجالس إلا العقلاء فهم القوم لا يشقى جليسهم ولا تصاحب إلا الأوفياء ولا تأتمن على سرك إلا الثقات الأمناء فهم الزينة في الرخاء، والعدة عند البلاء)
قال النبى صلى الله عليه وسلم « ( لا تصاحب إلا مؤمناً ولا يأكل طعامك إلا تقى ) وقال صلى الله عليه وسلم ( المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل )»
وقال عمر رضى الله عنه ما أعطي عبد بعد الإسلام نعمةً خيراً من أخ صالح إذا نسي ذكره وإذا ذكر أعانه فمن وجد منكم من أخيه وداً فليتمسك به فإنه قلما يجد ذلك.
وقبل كل هذا أمر الله عز وجل بصحبة الأخيار فقال { {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} }
الصاحب العاقل الخلوق الوفى الأمين ينفع ولا يضر يبنيك ولا يهدمك يصلحك ولا يفسدك يغبطك ولا يحسدك ويعطيك من نصحه ومن وقته وماله وجهده ولا يبخل عليك بنصح ولا جهد ولا مال الصاحب العاقل أمين على أسرارك وعلى دينك وعرضك ومالك ولا يخونك فى قليل ولا كثير..
أوصى بعض الصالحين ولده لما حضرته الوفاة، فقال: يا بني! إذا أردت صحبة إنسان فاصحب من إذا خدمته صانك، وإن صحبته زانك، واصحب من إذا مددت يدك للخير مدها، وإن رأى منك حسنة عدَّها، وإن رأى منك سيئة سدَّها وسترها .
قلت: وهجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم رسخت هذا المعنى فى النفوس حين اختار الله تبارك وتعالى لصحبة رسوله صلى الله عليه وسلم فى طريق هجرته خير الناس وأحب الناس وأوفاهم اليه..
فى حادثة الهجرة النبوية من مكة الى المدينة المنورة كان رسول الله بحاجة الى رفيق للطريق رفيق راجح العقل خبير بالأسفار صادق المودة والمحبة يؤنسه ويهون عليه الطريق ويفتديه بنفسه ولا يسلمه ولا يخذله مهما حصل ...
شغل رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الصديق وتنمى على الله أن يكون الرفيق فى الطريق أبا بكر رضى الله عنه وأرضاه ..
ذكر أصحاب السير
أن أبا بكر تجهز ليخرج مهاجراً فى سبيل الله فساقته أقدامه ليستأذن رسول الله فى الخروج فتمنى عليه رسول الله أن يتأنى ولا يعجل فى الخروج وقال يا أبا بكر لا تعجل لعل الله أن يجعل لك فى الهجرة صاحباً....
فهم أبو بكر أن رسول الله يرجو أن يرافقه أبو بكر فى هجرته عاش الصديق أبو بكر على هذا الأمل أياماً وشهوراً وجهز نفسه ليوم التكريم هذا ولم يخَْفَ عليه الخطر الذى سيلقاه
جعل أبو بكر يتوقع ويتخيل ما سيكون ويتبسم والتبسم فى أوقات الخطر أمرٌ لا يجيده إلا العظماء..
رجع الصديق أبو بكر إلى داره فجهز راحلتين كانتا عنده وعلفهما .. له راحلة والثانية لرسول الله صلى الله عليه وسلم
ولما أذن الله لرسوله فى الخروج قدم النبى الى دار أبى بكر يبشره فقال الصديق أهى الصحبة يا رسول الله قال نعم الصحبة يا أبا بكر قالت عائشة فوالله ما شعرت قط قبل ذلك اليوم أن أحداً يبكى من الفرح حتى رأيت أبا بكر يبكى يومئذ من شدة الفرح..
وقع الإصطفاء والإختيار من الله تعالى على أعقل وأوفى وأكرم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر ..
لكن لماذا أبو بكر من بين الناس ؟؟
لأن أبا بكر هو أول الناس إسلاماً وأشدهم حباً وقرباً وتصديقاً وإيماناً بكل ما جاء به رسول الله ما دُعي أحداً إلى الإسلام إلا تردد وتلعثم إلا أبا بكر فإنه أسلم ولم يتلعثم لو وزن إيمان الأمة بإيمان أبى بكر لرجح إيمان أبى بكر .
مزايا أبوبكر وسوابقه فى العمل لدين الله تعالى رشحته لهذه المكرمة وكان الصديق أهلاً لها آمن وصدقه برسول الله حين كذبه الناس وواساه بماله حين حرمه الناس وافتداه وخدمه بنفسه وولده وخدمه وماله وغنمه وفعال أبى بكر وفعال أولاده أثناء الهجرة خير شاهد على ذلك..
ابوبكر دفع الراحلتين الى الدليل وجعل يده فى يد رسول الله وسارا فى طريقهما الى الغار جعل أبى بكر يمشى أمام الرسول تارة فيُسأل لماذا تمشى فى الأمام فيقول أخشى عليك الرصد يا رسول الله ثم يمشى الصديق خلف رسول الله فيُسأل لماذا رجعت فى الخلف يا أبا بكر فيقول أخشى عليك الرصد يا رسول الله فى يجنح الصديق ذات اليمين ثم الى الشمال كل ذلك ويُسأل فيقول أخشى عليك يا رسول الله فيقول النبى صلى الله عليه وسلم أو إن كان شر وسوء أتفدينى بنفسك يا أبا بكر ؟؟ فيقول الصديق إى والذى بعثك بالحق يا رسول الله ...
إمام المتقين فداك روحـــى * وأرواح الأئمة والدعاة
رسول العالمين فداك عرضى * وأعراض الأحبة والتقاة
ويا تاج التقى تفديك نفســى * ونفس أولوا الرئاسة والولاة
فعرضك عرضنا ورؤاك فينا * بمنزلة الشهادة والصلاة
ولو سُفكت دمانا ما قضينـا * وفائك والحقوق الواجبات.
وعثاء السفر وعناء الطريق وشدة الحر والمخاطر والأهوال نال منها أبو بكر مثل ما نال رسول الله لكن أبا بكر لم يفكر فى تعبه ولا نصبه وفكر فقط فى راحة وسلامة رسول الله يبتغى بهذا وجه الله والدار الآخرة..
سأله رسول الله فقال أو إن كان سوء أو شر يا أبا بكر أتحب أن تكون فدائى يقول إى والذى بعثك بالحق يا رسول الله.
# أورد أبو نعيم فى حلية الأولياء
أن رسول الله ليلة الهجرة حين رأى من رفيقه ما رأى قال اللهم اجعل أبا بكر معي في درجتي في الجنة فأوحى الله تعالى إليه قد استجاب الله تعالى لك.
أبو بكر وهو خبير بالأسفار جعل يقصد مواضع الظل من الجبال والأشجار ويقصد المراعى فيحلب من البانها ويبرده وينظفه ويطرد عنه الأذى ويسوى بيده الأرض ويفرش لرسول الله حتى ينام فإذا قام قدم أبو بكر له اللبن ليشرب رسول الله قال أبو بكر فيشرب رسول الله حتى أرتوى والمعنى لا يهدأ بال أبى بكر ولا يرتاح إلا بهذا
# أما عبد الله بن أبى بكر
فإنه لم يدخر وسعا فى العمل لدين الله جعل عبد الله يجالس الناس ويجمع الأخبار ويخاطر بنفسه حين يسعى الى الغار ينقل الأحوال الى الصاحبين فى الغار..
# وأما أسماء ذات النطاقين بنت الصديق
فإنها خاطرت بحياتها حين شقت نطاقها وحملت فيه الطعام كل ليلة الى الصاحبين فى الغار ووقفت موقف الأبطال حين سألها أبو جهل عن أبيها وصاحبه فكتمت سر رسول الله وأبيها ولم تتكلم وتحملت صفعة من يمينه
واستعملت زكائها حين جائها جدها يقول فجعكم أبوكم بنفسه وماله فجعلت يد جدها على بعض أحجار وقالت ترك لنا هذا فقال لا بأس إن كان قد ترك لكم هذا فقد أحسن وفى هذا بلاغ لكم .. سترت أسماء أباها وسكَّنت قلب جدها ولم تكذب لأن أباها ترك لهم تلك الأحجار وترك معها إيماناً لا تزلزله الجبال..
# وأما خادم الصديق عامر بن فهيرة فجعل يرعى الغنم يمشى بها ليوارى بها آثار أقدام عبد الله وأسماء ويبقى عند الصاحبين حتى يشربا من ألبانها ويأكلا من لحومها
# وأما مال أبى بكر فقد أخذه كله يتاجر به مع الله تعالى ولم يُبق منه شيئا ولسان حاله أبقيت لأولادى الله ورسوله كلل الله جهد أبى بكر وعمله لدين الله بالنجاح..
وفى تلك المواقف المشرفة وفى غيرها نزلت آيات تتلى الى أن يرث الله الأرض ومن عليها
( {وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى وَلَسَوْفَ يَرْضَى } ) نزلت هذه الآيات فى الصاحب الوفى الأمين الصدوق أبو بكر رضى الله عنه..
لتعلموا أيها المؤمنون أن أى مجتمع تسود فيه روح المحبة والصداقة الصالحة الناصحة لا يَضْعُف ولا يُقْهَر ولو كاد له أهل السماء والأرض..
نسأل الله تعالى أن يرزقنا صحبة العقلاء وعيشة السعداء وحياة الأتقياء وميتة الشهداء ومرافقة الأنبياء إنه على كل شيء قدير وبالإجابة جدير..