من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه

منذ 2020-09-21

وحرص المرء على سلامةِ دينهِ وعرضهِ، وانشغالهِ بنفسه عن شؤونِ غيره، وتركهِ ما لا يعنيهِ، دليلٌ على رجاحةِ عقله، وكمال توفيقه؛ وَصَاحِبُهُ مِنْ أَطْيَبِ النَّاسِ عَيْشًا وأهنأهم نفساً، وأسلمهم َقَلْبًا..

من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

أوصيكم أيُّها النَّاسُ ونفسي بتقوى اللهِ، فاتقوا اللهَ وأطيعوهُ، واشكروهُ ولا تكفروهُ، واذكروهُ ولا تنسوهُ.. مَن نظرَ في عيبِ نفسِهِ شُغِلَ عن عَيبِ غيرهِ، ومن اسْتقلَ زَلـلَهُ استَكثرَ زَلَلَ غَيرِهِ، ومن سَلَّ سيفَ البغيِ قُتِلَ به، ومن ضاقَ خُلُقُه، ملَّهُ حتى أهلُهُ.. وعليكَ لأخيك المؤمِن مثلُ الذي لك عليهِ، وكَفاكَ أدباً لِنَفسِكَ ما تكرَهُهُ من غيركَ.. {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [الزمر: 7]..

معاشر المؤمنين الكرام: سأدخل إلى موضوعِ اليوم من خلالِ قصةٍ قصيرةٍ ظريفة، لكنها لا تخلو من حكمةٍ وفائدةٍ كبيرة، وردٍ مُفحِمٍ قوي.. فقد خرجَ أحد الخدم من أحد البيوت وكان يحمل معه صحنٌ مغطى، فمرَّ بأحد الفضوليين، فسأل الخادم، ما يوجد في هذا الصحن المغطى، فقال الخادم، لو أراد أصحابهُ أن تعرفَ لما غطوه.. من حُسنِ اسلام المرء تركه ما لا يعنيه..

من حُسنِ إسلامِ المرءِ تَركُهُ ما لا يَعنِيهِ: حديثٌ نبويٌ عظيمٌ؛ صححه الأمام الالباني رحمه الله.. معناه: من حُسنِ إسلامِ المرءِ تَركُهُ ما لا يُفيدُه في دنياهُ وآخرته..

من حُسنِ إسلامِ المرءِ تَركُهُ ما لا يَعنِيهِ: أساسٌ أخلاقيٌ متين، ومقياسٌ من مقاييس الأدب، ودليلٌ من أدلهِ الورع، ومظهرٌ من مظاهر التقوى.

من حُسنِ إسلامِ المرءِ تَركُهُ ما لا يَعنِيهِ:. قاعدةٌ سلوكيةٌ عَظيمةٌ، وخُلُقٌ جميلٌ تُحِبُّهُ النُّفُوسُ السوية، وسلوكٌ مُهذبٌ تميلُ إليهِ الفِطرُ السَّليمَةُ؛ يَرفعُهم عَنِ مراقبةِ النَّاس والتَّجسُسِ عليهم، والتَّلَصُّصِ على أخبارِهم، وَإِيذَاءِهم بالتطفُلِ على خُصُوصِياتِهم، وإِحرَاجِهم بالأسئلةِ الثَّقِيلةِ؛ فهم في راحةٍ، والنَّاسُ مِنْهُمْ فِي أْمَانٍ إِنَّ حَلُّوا وِإن رحَلُوا..

 

أجل يا عباد الله: من حُسنِ اسلامِ المرءِ عَدَمُ الاسترسالِ معَ ما لا يُفيدُ، وتَركُ الخوضِ فيما لا يَنفعُ، وعدمُ التكلُمِ فيمَا لا يُخصه..

من حُسنِ إسلامِ المرءِ تَركُهُ ما لا يَعنِيهِ.. هكذا يعلمنا دينُنا العظيم: أن نحرصَ على ما ينفعنا، وأن ندعَ ما يُريبنا إلى ما لا يُريبنا، وأن نحبَّ لإخواننا ما نحبه لأنفسنا..

من حُسن اسلام المرء عدم تتبع العثرات والعورات.. وترك الإلحاح بالسؤال.. متى ذهب فلان؟ ومن أين جاء علان؟ بكم اشترى ومن أين ومتى؟ وكيف حصل ذلك، من أين لك هذا... وغيرها من أسئلة الفضول والتطفل التي لا طائلَ من ورائها سوى حرقِ الاوقات وفتح أبواب الشر، وجرُّ المرءِ للخوض فيما لا يُحسنه ولا يُتقنه ولا يعلمه، مما هو ليسَ داخلاً في تخصُّصهِ ولا مسؤوليته.. والاستغراق في الحوادث وتفاصيلِ المستجِدات.. بينما لو صَرفَ هذه الأوقات والجهود في أمورٍ أخرى لكان خيراً له عشرات ومئات المرات..

 

ولا شك يا عباد الله: أن مِنْ طَبِيعَةِ النَّاسِ أَنَّهُمْ يَتَأَذَّوْنَ مِمَّنْ يَتَدَخَّلُ في شُؤُونَهُمُ الْخَاصَّةَ، ويتطفل على أخبارهم وتفاصِيلِ حياتهم، وَيَعْتَبِرُونَ ذَلِكَ تَعَدِّيًا وقحاً عَلَى خُصُوصِيَّاتِهِمْ؛ جاء في الحديث المُتَّفَقٌ عَلَيْهِ: "كُفُّ شَرَّكَ عَنِ النَّاسِ؛ فَإِنَّهَا صَدَقَةٌ مِنْكَ عَلَى نَفْسِك"... نعم يا عباد الله: فكَمْ جَلَبَ الِاشْتِغَالُ بمَا لَا يَعْنِي مِنْ مَصَائِبَ! وكم تسبب في وقوعِ المشاكلَ والمَتَاعِبَ! وَكَمْ عَادَ عَلَى صَاحِبِهِ بالنَقْصِ والمعايب، وَمَا فَتَحَ الانسانُ عَلَى نفسه أَبْوَابًا الإثمِ، وَمَا ظَلَمَ الْعَبْدُ نَفْسَهُ، بِمِثْلِ اشْتِغَالِهِ بِمَا لَا يَعْنِيهِ، وتَدخُلِه فيما لا يخصه.. فكم من خُصُوصِيَّاتٌ أُشِيعَتْ، وَكم من صُدُورٌ أُوغِرَتْ، وَكم من ضَغَائِنُ حَلَّتْ، وَأُسَرٌ تَمَزَّقَتْ ثُمَّ تَفَرَّقَتْ، بسبب الِاشْتِغَالَ بمَا لَا يَعْنِي..

الْمُتَدَخِّلُ فِيمَا لَا يَعْنِيهِ مِنْ أَقَلِّ النَّاسِ تَوْفِيقًا، وَمِنْ أَضْعَفِ الْعِبَادِ مُحَاسَبَةً لِنَّفْسِه، مهموم مغموم، يُلَاحَقُ الْخُصُوصِيَّاتِ، وَيَتبعُ الْأَخْبَارِ، ويَحْرِصُ عَلَى مَعْرِفَةِ تفاصيل حياةِ الآخرين، وَالْبَحْثِ فِي أَدَقِّ شؤنهِم.. وفي المثل المشهور: " من راقب الناس مات هماً "..

ثم إن الانشغال بشؤون الآخرين لا بد أن يقود إلى المشاكسات والمُلاسَنات، والدخول في دائرة الظنون والتكهُّنات، فيسيءَ أكثرَ مما يحسن، ويهدمُ أكثرَ مما يبني.. وفي الحديث الصحيح: «وهل يكبُّ الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم».. وفي صحيح البخاري: قال صلى الله عليه وسلم: «المسلم مَنْ سَلِمَ المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر مَنْ هجر ما حرم الله» .. وفي الحديث الصحيح ايضاً: قال صلى الله عليه وسلم:  «من تتبع عورة أخـيه المسلم تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف بيـته»..

 

وحرص المرء على سلامةِ دينهِ وعرضهِ، وانشغالهِ بنفسه عن شؤونِ غيره، وتركهِ ما لا يعنيهِ، دليلٌ على رجاحةِ عقله، وكمال توفيقه؛ وَصَاحِبُهُ مِنْ أَطْيَبِ النَّاسِ عَيْشًا وأهنأهم نفساً، وأسلمهم َقَلْبًا..

ولو تأمل العاقل جيداً لأدركَ بوضوحٍ أنَّهُ لا يهتمُ بالصغائِرِ إلا صِغارُ العقولِ والهِمم، ولا يُفتشُ في القاذورات إلا الجُعلان والخنافس..

فكم من راحةٍ يجنيها المرءُ لو تركَ التدخلَ في خُصوصِيات الناس وشؤونهم..

والمسلمُ حينَ يعي أهمية ترك ما لا يعنيه، ويؤمن بجميل ثمرات هذا الخلق الطيب، فلا بدَّ أنه سيحرص على أن يتخلق بهذا الخلق الجميل، قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا}  [الشمس: 9، 10].. وأما الطريق لتحصيل ذلك.. فيبدأ بأن يُقنعَ الانسانُ نفسهُ أنَّ السلامةَ لا يعدلها شيءٌ، وأنَّ انشغالَ الإنسانِ بما يَهمُّه وينفعهُ من أمور معاشهِ ومعادهِ هو الأجدرُ والأولى به، وهو الأسلمُ لدينة وعرضه، وأنَّ النفسَ إن لم تشغلها بالحقِّ شغلتك بضدهِ.. ثم يجاهدُ نفسهُ ويقومها، فإنما العلمُ بالتَّعلم، وإنما الحلمُ بالتَّحلُم، وكم من عادةٍ طيبةٍ وسلوكٍ جميلٍ صار طبعاً بالمجاهدة والتعود، قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}  [العنكبوت: 69]..

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً}  [الأحزاب: 70، 71]..

 

اتقوا الله عباد الله وكونوا مع الصادقين، وكونوا من {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر: 18]..

معاشر المؤمنين الكرام: آداب الخير كلها، بل مدارُ الدين كله كما قال بعضُ العلماء على أربعةِ أحاديث: الأول، قوله عليه الصلاة والسلام: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت»، والثاني قوله عليه الصلاة والسلام: «من حُسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه»، والثالث: تلك الوصية النبوية الغالية: «لا تغضب»، والرابع قولهُ عليه الصلاة والسلام: «لا يؤمن أحدكم، حتى يحبَّ لأخيهِ ما يحب لنفسه».

 

وكم نحن بحاجةٍ ماسة إلى أن نفهم جيداً قواعد الإسلام وأنظمته العامة.. فهذه القاعدة العظيمة: من حُسنِ اسلامِ المرءِ تركهُ ما لا يعنيه.. يفهمها بعض الناس فهماً خاطئاً.. فيظن أنَّ على المرء أن ينأى بنفسه عن الناس، ويتقوقع في بيته، ويهجرَ بني مجتمعه، فلا ينصحُ ولا يُصلِح.. وليس الأمر كذلك، فإن الإسلام دينٌ يربي المسلم على أن يكونَ فرداً إيجابياً نافعاً، ولبنةً صالحةً في مجتمعه، وإنما نهى الإسلام الإنسانَ أن يتدخل فيما لا يعنيه من شؤونِ الناس الخاصة، مما لا يُفيده في دنياه ولا أخراه، أو أن يتتبع عيوبَ الناس ونواقصَهم، لكن الإسلام العظيم يأمر المسلم أن يكون إنساناً صالحاً في نفسه، مُصلحاً لغيره، يحبُّ لأخيه ما يحبهُ لنفسه.. قائماً لهُ بواجب النصحِ والإرشادِ، فالدين النصيحة، ومن لم يهتم بأمور المسلمين فليس منهم، ومن غشنا فليس منا.. ومن رأى منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فمن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان.. إلا أنه لا بدَّ للناصح أن أن يكون مُخلصاً في نصيحته، رحيماً في تعليمه، حكمياً في أسلوبه، قاصداً نفع المنصوح وفائدته، دون تشهيرٍ أو إحراج، فإذا فعل ذلك فلا يُعد ذلك تدخلا فيما لا يعنيه، بل هو مأجورٌ مشكور، قال تعالى: {لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء: 114].

فاتقوا الله عباد الله، وكونوا لبنةً صالحةً في مجتمعكم، انأوا بأنفسكم عن خصوصيات الناس، واسعوا بالصلح والإصلاح عبادة لربكم، وخدمة لأمتكم، ونفعاً لغيركم..

ويا ابن آدم عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، البر لا يبلى والذنب لا ينسى، والديان لا يموت، وكما تدين تدان.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
____________________________________

الشيخ: عبدالله بن محمد الطوالة

  • 6
  • 0
  • 9,876

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً